من نعمة الله عز وجل على الإنسان أن سخر له أماً وأباً، فأمه تحمله في بطنها تسعة أشهر في المعتاد، وتقاسي من أجل رعايته وإحاطته الآلام، فإذا ولد تعهدته بالرعاية والرضاعة حتى يبلغ العامين من عمره، ثم يدرج بين أبوين حانيين حتى يبلغ أشده، لذلك فقد أوجب الله على العبد حفظ الجميل لأبويه، وقرن طاعتهما بالإيمان به وشكره سبحانه، وأمر برعايتهما وتولي شئونهما خاصة عند كبرهما وضعفهما، فهنيئاً لمن أدخله أبواه الجنة.
تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً ...)
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فها نحن مع سورة الأحقاف سابعة آل حم، ومع هذه الآيات، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! يقول الله تبارك وتعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، الإنسان هو هذا المخلوق هذا الجنس في الأولين والآخرين، أوصاه الله وأمره وبالغ في الأمر فكان وصية، فالوصية أعظم من الأمر؛ إذ الأمر إذا شدد يصبح وصية. وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا [الأحقاف:15] ألا وهما أمه وأبوه، والإحسان طول الحياة، وذلك بأن لا يقصر في الإكرام والإنعام عليهما، وألا يتعرض لأذاهما بأدنى أذى، الإحسان بالوالدين إيصال الخير لهما مع كف الأذى عنهما، وكونه يوصل الخير ويؤذيهما إساءة لا إحسان، وبر الوالدين بعد الموت، يبرهما وهما حيان ويبرهما بعد موتهما وذلك ببر من كانا يبرانه، وبالدعاء لهما ما دام الولد حياً.
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15] ولدته كرهاً، فهي تتعذب في بداية الأمر وفي نهايته، فلهذا يجب أن يحسن بها، يجب أن يبرها، يكفيها هذا الذي قدمته لك يا ولد، حملتك كرهاً ووضعتك كرهاً، واستمرت أيضاً ثلاثين شهراً ترضعك.
فلو ولدت المرأة في الشهر الخامس أو الرابع فهذا ليس ابن الزوج أبداً، هذا جاء في رحمها من زنا، لكن إذا تزوج الرجل وبقيت معه ستة أشهر وأنجبت فلا حرج، وذلك لقول الله تعالى وقوله الحق: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233] والحول هو العام الكامل اثنا عشر شهراً، وقبل ذلك الستة الأشهر للحمل، فتتم ثلاثون شهراً للحمل والإرضاع.
معنى قوله تعالى: (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ...)
ثم قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15]، إذا بلغ الخامسة عشرة أو السادسة عشرة أو الثامنة عشرة واحتلم فقد بلغ سن التكليف وأصبح مكلفاً، ولكن إذا بلغ الثامنة عشرة ولو لم يحتلم فقد بلغ سن التكليف وأصبح مكلفاً بالواجبات يفعلها وبالمنهيات يجتنبها ويبتعد عنها، لكن بلوغ الأشد عقلاً وبدناً من ثلاث وثلاثين سنة إلى الأربعين، ولهذا كان الله يوحي إلى الأنبياء حين يبلغون الأربعين من السنين.
وأما دعوة الولد الصالح فلا ننس الحديث النبوي الشريف؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله ) إذا مت يا عبد الله ما بقي عمل، صلاتك انتهت، صيامك انتهى، رباطك انتهى، جهادك انتهى، إلا ثلاث:
الأولى: صدقة جارية، كأن بنى مسجداً، حفر بئراً، عبد طريقاً، أوقف بستاناً، الصدقة الجارية يثاب عليها وهو ميت ولو بعد مائة سنة.
ثانياً: علم ينتفع به، إذا علم ناساً علماً ينتفعون به يكون صدقة جارية بعد موته.
وأخيراً: ولد صالح يدعو له.
فاجتهدوا أن تفعلوا هذه الثلاثة وهي سهلة، فعليكم بالصدقة الجارية، فساهموا في مسجد، في بئر، في قرية أو منزل للفقراء.
ثانياً: العلم الذي ينتفع به، هذا يحتاج إلى أن نتعلم مسألة كهذه ونعلمها، فينتفع بها صاحبها.
ثم ولد صالح يدعو له، وكيف يكون الولد صالحاً؟ لا بد من تربيته عند نشأته وحال بلوغه وعند رجولته، لا بد من تربيته والحفاظ عليه حتى يكون صالحاً، وإذا كان صالحاً فوالله! لا يفتر يدعو لك ما دام حياً؛ فأيما عبد صالح إلا وهو يدعو لوالديه في كل صلاة، في كل يوم.
وتعرفون أن المرء يبلغ سن التكليف إذا احتلم، وإذا نبت الشعر حول فرجه على عانته فقد بلغ سن البلوغ وأصبح مكلفاً، أو بلوغ سن الثامنة عشرة، فإذا بلغ الثامنة عشرة ولو لم يكن احتلام ولا شعر فقد دخل في التكليف، لكن الرشد من الثلاث وثلاثين فما فوق إلى الأربعين، يكتمل عقله تماماً وبدنه، فلا يزيد البدن بعد ذلك ولا العقل.
[ ثانياً: الإشارة إلى أن مدة الحمل قد تكون ستة أشهر فأكثر، وأن الرضاع قد يكون حولين فأقل ].
في الآيات إشارة إلى أن مدة الحمل قد تكون ستة أشهر، سبعة، ثمانية، تسعة، وقد تبلغ عشرة، لكن بدايته الستة، والرضاع لا يزيد على الحولين، لو أرضعت امرأة طفلاً بعد حولين فذاك الرضاع لا يعده ابناً لها، فالرضاع في الحولين، أي: في العامين، فإذا تجاوز سنه العامين وأرضعته لا يكون ابناً لها؛ لأنه ما يتغذى بذلك اللبن، لكن يتغذى به لما كان في السنة الأولى والثانية.
[ ثالثاً: جواز التوسل بالتوبة إلى الله والانقياد له بالطاعة ].
فكيف نتوسل إلى الله ليغفر لنا، ليعلمنا، ليحفظنا، ليرفع البلاء عنا؟ كيف نتوسل؟ بالعبادة، بالطاعة، بذكره وعبادته، تلك هي الوسيلة.
[ رابعاً: فضيلة آل أبي بكر الصديق على غيرهم من سائر الصحابة ما عدا آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ].
هذه هداية أخيرة: فضيلة أبي بكر وآل بيته على كل المسلمين، اللهم إلا على آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك فـأبو بكر وأسرته وأولاده أفضل أسرة على الإطلاق، لماذا؟ لأنه أول من أسلم، ثانياً: أسلم أولاده كلهم، ثالثاً: أبواه الشيخان الكبيران أسلما ودخلا الإسلام، فـعمر أمه ما أسلمت، وعثمان والده ما أسلم، اللهم إلا أبا بكر الصديق فقد أسلم أمه وأبوه وأصلح الله أولاده رجالاً ونساء، فأسرته من أعظم الأسر، ما تفوقها إلا أسرة النبي صلى الله عليه وسلم آل البيت.
[ خامساً: بشارة الصديق وأسرته بالجنة، إذ آمنوا كلهم وأسلموا أجمعين وماتوا على ذلك ].
من هداية الآيات: حمل البشرى لـأبي بكر الصديق ولأولاده، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون، وهنيئاً لهم، وإنهم -والله- لفي الجنة دار النعيم.