إسلام ويب

تفسير سورة الجاثية (6)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الموضوعات التي يستمر فيها الجدل بين المؤمنين والكفار حقيقة البعث بعد الموت، فأهل الإيمان موقنون بأن بعد هذه الدار دار أخرى هي دار المستقر، يجازى فيها العباد على كل صغيرة وكبيرة اقترفوها، أما هذه الدنيا فإنما هي للعبور، وليست دار مقام وحبور، أما أهل الكفر فيظنون أن حياتهم الدنيا ليس وراءها إلا الفناء، مستشهدين على ذلك بعدم رؤيتهم لأحد من آبائهم الأولين، الذين ماتوا وهلكوا عبر السنين، وكأنهم نسوا أن من خلقهم أول مرة هو الذي يرجعهم في الأخرى أجمعين.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    وها نحن مع سورة الجاثية، وهي من آل حم المكيات، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية:24-26].

    ما زال السياق الكريم مع طغاة المشركين وجبابرتهم، أولئك الذين أشركوا بربهم وعبدوا الأصنام والأحجار، أولئك الذين كذبوا برسالة رسول الله وقالوا: إنه شاعر وساحر، وقالوا وقالوا، ما زال السياق معهم، واسمع ما قال تعالى عنهم: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا [الجاثية:24] ما نؤمن ولا نصدق بوجود حياة أخرى تسمى بالدار الآخرة أو بالبعث والجزاء أبداً، ما هي إلا حياتنا الدنيا هذه نموت ونحيا فيها، نموت نحن ويحيا أولادنا وهكذا.

    نَمُوتُ وَنَحْيَا [الجاثية:24] أي: يحيا أولادنا من بعدنا، ما هناك حياة أخرى! وهذا هو التكذيب بالبعث، هذا هو إنكار الدار الآخرة، هذا المبدأ الإلحادي العلماني الإبليسي الشيطاني، هذا هو البلاء الذي ما فوقه بلاء من الكفر والشرك والباطل والشر والفساد، فالذي يكذب الله ورسوله ويكذب مئات الآلاف من الأنبياء وملايين العلماء، يكذب بالبعث والدار الآخرة من أجل أن يفجر ويفسق ويعيش على الباطل والشر والفساد، فمثل هذا المخلوق هو شر البرية، شر الخليقة.

    الذي يكذب بالبعث الآخر ويكذب بالحياة الآتية بعد الموت هذا شر البرية وشر الخليقة، ومع الأسف فالملايين من العلماء الآن من اليهود والنصارى والمجوس يطيرون في السماء ويغوصون في الماء وينكرون البعث والدار الآخرة، بتغرير الشيطان بهم وتزيينه لهم الباطل والشر والفساد.

    وها هم في مكة يخبر تعالى عنهم فيقول: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا [الجاثية:24] ماذا يقول محمد؟ بماذا يهدنا؟ بماذا يخوفنا؟ يريد أن نترك عبادتنا، يريد أن نترك ديننا بهذا التهديد والتخويف؟ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [الجاثية:24] هذه كلماتهم، قالها من قالها، وصدقه فيها من صدقه، من أبي جهل إلى عقبة بن أبي معيط .

    معنى قوله تعالى: (نموت ونحيا)

    وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا [الجاثية:24] أي: هذه نَمُوتُ وَنَحْيَا [الجاثية:24] ليس معناها: نحيا بعد موتنا، لا، بل يريدون: نموت نحن ويحيا أولادنا من بعدنا وهكذا، جيل يحيا وجيل يموت، ما هناك حياة أخرى ولا بعث وجزاء، وهذا هو التكذيب باليوم الآخر، وصاحبه شر الخلق.

    والذي يضعف هذا المعتقد في نفسه والله! ما يستطيع أن يستقيم أبداً، لا بد أن يعوج وينحرف، لكن إذا تمكن هذا الاعتقاد من النفس فصاحبها يصبح يحاسب نفسه على النظرة ينظرها والكلمة يقولها؛ لعلمه أنه سيحاسب على هذا العمل ويجزى به، وذلك يوم البعث والدار الآخرة.

    معنى قوله تعالى: (وما يهلكنا إلا الدهر)

    قال تعالى: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24] الذي يفنينا ويهلكنا هو الدهر فقط، أي: اليوم والليل، هذا هو الدهر، وورد في السنة النبوية الشريفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم: يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ).

    يقول عز وجل: ( يؤذيني ابن آدم ) وورد أيضاً: يسبني، ( يؤذيني ابن آدم: يسب الدهر ) لم يسب الدهر؟ لأنه في نظره يسب الله، يسب الدهر والله هو الدهر، ( وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ) هذا المعتقد الباطل كان عليه كثيرون من العرب المشركين، والآن عليه كثيرون من الناس.

    وورد أيضاً: ( لا تقولوا: يا خيبة الدهر؛ فإن الدهر هو الله )، فما معنى: الدهر هو الله؟

    الجواب: الليل والنهار من خلقهما؟ الله عز وجل هو خالقهما، ليس معناه أنه هو الليل والنهار، بل هو خالق الليل والنهار، فكيف يصبح الليل والنهار إلهاً يعبد؟

    فلأنهم شاهدوا أنهم يموتون بالليل والنهار فنسبوا ذلك إلى الليل والنهار، وقالوا: الدهر هو الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فالله خالق الليل والنهار وهو يدبرهما.

    يقول تعالى: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24] لا يميتنا إلا الدهر، هذا كله ناتج عن جهل وعدم علم وبصيرة، لو عرفوا أنهم مخلوقون وأن خالقهم الله وأنهم يموتون وأن مميتهم الله، وأنه تعالى سيعيد حياتهم ويجمعهم في صعيد واحد ويحاسبهم ويجزيهم، لو آمنوا هذا الإيمان لاستقاموا ولنجوا وكملوا وسعدوا، لكن الشياطين تزين لهم هذا الباطل وتحسنه في قلوبهم، فينسبون الدهر إلى الله، والله خالق الدهر.

    معنى قوله تعالى: (وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون)

    قال تعالى: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ [الجاثية:24] أي: ما هم والله إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24] ما عندهم -والله- علم أبداً، من أين يأتيهم العلم؟ الأنبياء والرسل والعلماء من آدم إلى اليوم يؤمنون بالدار الآخرة والبعث الآخر، فمن أين يجيئهم العلم هم؟ والله! ما هي إلا ظنون باطلة، إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24].

    ومعنى هذا تقرير عقيدة البعث والجزاء، هذا الركن العظيم من أركان الإيمان فاقده ميت، فاقده لا خير فيه، فاقده لا يعول عليه في شيء، ويجب ألا يسند إليه شيء أبداً؛ لأنه ممسوح من الخير، الذي ما يؤمن أنه سيحيا ويحاسب ويجزى على كسبه وعلى عمله في هذه الدنيا كيف يستقيم؟

    ثم هل الله يعبث؟ يخلق هذا الخلق كله ويفنيه فقط؟ هذا يقوله عاقل؟ الذي خلق النمل والنحل وخلق الإنسان والكون كله أيعبث هذا العبث؟ يخلقهم فقط ويميتهم ولا يحييهم ولا يحاسبهم ولا يجزيهم؟ لم يفعل هذا؟ معاذ الله! ونبرأ إلى الله من عقيدة نكران البعث والجزاء، والله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] خلقهم للعبادة فرفضوا العبادة لأنهم كذبوا بالجزاء، لو آمنوا أنهم سيجزون على هذه العبادة ويحاسبون عليها ويعطون عليها الأجر فوالله! ما ترددوا، بل سيعبدونه تعالى، لكن ما يريدون أن يعبدوا الله فأنكروا لقاء الله والبعث الآخر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088530739

    عدد مرات الحفظ

    777158021