وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فها نحن مع هذه الآيات من سورة الزخرف المكية، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [الزخرف:57-62].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا [الزخرف:57] يعني: عيسى، إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف:57] يفرحون ويضحكون ويصفقون.
هنا ماذا قال ابن الزبعرى ؟ قال: خصمتك ورب الكعبة! يعني: غلبتك في الخصومة ورب الكعبة، حلف بالله عز وجل وكان مشركاً؛ إذ مشركو العرب كانوا يؤمنون بالله رباً.
ثم قال: أليست النصارى يعبدون المسيح؟ أليس اليهود يعبدون العزير؟ أليس بنو مليح يعبدون الملائكة؟ إذاً: كلهم في النار: العزير، وعيسى، والملائكة، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا بأن نكون نحن وآلهتنا معهم!
فلما قال ابن الزبعرى هذا فرح العرب المشركون وضحكوا وضجوا بالصياح مرتفعة أصواتهم بذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف:57]، هذا الضجيج والصياح والفرح لأنهم ظنوا أن عيسى في النار، وأن العزير والملائكة كذلك، وأنهم هم مع آلهتهم في النار كما قال ابن الزبعرى ، فأبطل الله هذه النظرية الفاسدة بقوله: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف:57]، وقرئ (يصُدّون) أيضاً، أي: يعرضون.
قال تعالى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58]، ولهذا ما من أمة، ما من قوم يكونون على هدى ويضلون إلا آتاهم الشيطان الجدال والخصومة.
وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف:59] فلو تأملوا وتدبروا لقالوا: آمنا بالله وبقدرته، فعيسى يخرج من بطن أمه مريم بلا واسطة، بلا أب، ولكانوا يزدادون إيماناً ويقيناً، ولكن مع الأسف كفروا به وانقسموا أقساماً.
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [الزخرف:59] أي: عيسى وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف:59] لو اعتبروا لكانوا يزدادون إيماناً ويقيناً.
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف:60] أي: خلفاً لكم يعبدوننا بعدما نهلككم عن آخركم.
والقرآن نفسه علم من أعلام الساعة، وإن كان الأول هو الظاهر: وَإِنَّهُ [الزخرف:61] أي: عيسى عليه السلام لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61] أي: ساعة القيامة والبعث والجزاء، فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف:61] أي: لا تشكوا فيها، فهي -والله- لآتية، والله! إن الساعة لقريب وآتية لا محالة، فلا تشكوا فيها.
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ [الزخرف:61] امشوا ورائي، قولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، آمنا بالله وبلقائه، واعبدوا الله بما شرع من عبادته، واستمسكوا بذلك ولازموه حتى يتوفاكم الله فتكملوا وتسعدوا.
وَاتَّبِعُونِ [الزخرف:61] امشوا ورائي لأقودكم إلى الجنة في الدار الآخرة، أقودكم إلى الكمال والعز والسعادة في دار الدنيا، وهو كذلك.
هذا هو الصراط صراط الله الموصل إلى رضا الله، إلى جوار الله، افهموه كما بينت لكم، إنه طريق عن يمينه الواجبات من الصلاة إلى الزكاة، إلى سائر الواجبات، عن شماله المعصيات من الخمر إلى الزنا، من الربا إلى قتل النفس، وأنت ماش تؤدي الواجبات وتتجنب المنهيات عاماً بعد عام حتى يتوفاك الله ونفسك زكية طاهرة نقية كأنفس الملائكة، واقرءوا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، فتفلح بأن تنجو من عذاب النار وتدخل الجنة دار الأبرار مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف:61] يدعو محمد رسول الله العرب والمشركين والإنس والجن إليه، أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم يعبدوا الله بما شرع لهم من هذه العبادات فيحلوا ما أحل ويحرموا ما حرم وينهضوا بالواجبات ويؤدوها في صدق وإحسان، ويتجنبوا المنهيات ويبتعدوا عنها أيضاً.
والعلة كما علمنا: أن إبليس أبلس وطرد من رحمة الله بسبب حسده لآدم والعياذ بالله ورفضه السجود له، فأبلسه الله وطرده، فمن ثم فأعدى أعدائه إليه هم الناس بنو آدم، فهو يجتهد أن يكفرهم أجمعين، وأن يفسقهم كلهم، وأن يبعدهم عن الإيمان والإسلام حتى يكونوا معه في عذاب الآخرة وعذاب الدنيا أيضاً وشقائها وخبثها وما فيها.
هكذا يقول تعالى لنا: وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ [الزخرف:62] عن ماذا؟ عن الصراط المستقيم، ما هذا الصراط المستقيم؟ الإسلام دين الله، وهو -كما تعرفون- عقائد، وآداب، وأخلاق، وعبادات، فلا يصدنكم الشيطان عن الإسلام.
ثم علل تعالى لذلك فقال: إِنَّهُ [الزخرف:62] أي: الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [الزخرف:62] والعدو هو الذي يريد لعدوه الهلاك والدمار والخراب، فإبليس عدو الآدميين، فلهذا لا يريد أن يرى آدمياً طيباً طاهراً، ولا نقياً ولا سعيداً أبداً، يريد أن يغمسهم كلهم في الشرك والكفر والخبث والفساد، ليكونوا معه في جهنم.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: بيان أن قريشاً أوتيت الجدل والقوة في الخصومة ].
من هداية هذه الآيات التي سمعناها وتدارسناها: أن كفار مكة كانوا ذوي جدل وخصومة عجب، لا يوجد من هو أكثر جدلاً وخصومة منهم، وعلة ذلك أنهم ضلوا، فلما ضلوا أوتوا الجدل والعياذ بالله.
[ ثانياً: ذم الجدل لغير إحقاق حق أو إبطال باطل، وفي الحديث: ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ) ].
من هداية هذه الآيات: أن الجدل إذا لم يكن من أجل إحقاق حق أو من أجل إبطال باطل لا يجوز، لا نجادل أحداً إلا إذا أردنا أن نحق حقاً أضاعه الناس أو نبطل باطلاً اعتنقه الناس فلا بأس أن نجادل، أما لغير إحقاق الحق وإبطال الباطل فالجدل لهو وعبث ولغو، فلا نجادل؛ لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل )، هذا خبر النبي صلى الله عليه وسلم، ما ضل قوم بعد أن كانوا في هداية إلا أعطاهم الله الجدل.
[ ثالثاً: شرف عيسى وعلو مكانته، وأن نزوله إلى الأرض علامة كبرى من علامات قرب الساعة ].
من هداية هذه الآيات: شرف عيسى وعلو مكانه وسمو درجته، عيسى عليه السلام ذاك الذي كان بكلمة (كن)، ما إن نفخ جبريل في كم مريم حتى كان عيسى، ما هي إلا ساعة ووضعته.
وعرفنا أن الناس حين يأتونه يطلبون منه الشفاعة لهم عند الله ليقضي بين العباد ما يذكر ذنباً قط، آدم قال: عصيت ربي، ونوح قال: كيف وقد قلت وقلت، وإبراهيم قال: كذبت ثلاث كذبات، وموسى قال: قتلت نفساً.
وعيسى ما ذكر ذنباً قط، والله! ما أذنب قط، عاش ثلاثين سنة ورفع إلى السماء وسينزل ويعيش أيضاً ثلاثاً وثلاثين سنة ما يعصي الله معصية، ما ذكر ذنباً قط.
هذا عيسى عليه السلام، وجعله الله علامة كبرى من علامات قيام القيامة، إذا نزل عيسى عليه السلام من السماء على المنارة البيضاء بدمشق اقتربت الساعة ولم يبق إلا أيام: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا [الزخرف:61] ولا تشكوا فيها، وعما قريب يبلغنا أن عيسى نزل.
[ رابعاً: تقرير البعث والجزاء ].
من هداية هذه الآيات: تقرير البعث في الدار الآخرة والجزاء على العمل في هذه الدنيا، وهذا الذي نقول من أعظم العقائد: اعتقادك أنك بعد الموت تحيا وتسأل وتستجوب، وتجزى بعملك.
ولهذا نقول: إن إنساناً أبيض أو أصفر، في الأولين أو في الآخرين لا يؤمن بالدار الآخرة والبعث والجزاء لا خير فيه ولا يعول فيه على شيء ولا يوثق فيه أبداً؛ لأنه شر البرية.
أيما إنسان ذكراً كان أو أنثى لا يؤمن بالدار الآخرة والجزاء فيها على الكسب في الدنيا؛ فهذا المخلوق لا خير فيه، ولا يعول عليه، ولا يوثق فيه أبداً؛ لأنه شر الخليقة.
[ خامساً: حرمة اتباع الشيطان لأنه يضل ولا يهدي ].
وآخر هداية هذه الآيات: حرمة اتباع الشيطان، حرام عليك يا عبد الله أن تتبع خطوات الشيطان، إذا مشى يميناً اذهب شمالاً، إذا مشى أمامك فارجع للوراء، لا تمش وراء العدو أبداً.
والعدو يقودك إلى المخمرة، إلى المزناة، إلى الكذب، إلى الربا، إلى ترك الصلاة، إلى عصيان المسئولين، إلى سب أو شتم أمك أو أبيك.. وهكذا يقودك إلى الباطل، فلا ينبغي أن نمشي وراءه، ولا نتبع خطواته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر