ها نحن اليوم مع فاتحة سورة الزمر المكية، وآياتها خمس وسبعون آية، ومن فضائل هذه السورة ما ذكرته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها عند نومه في فراشه ).
فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر:1-4].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]. هذه الآية دلالتها قطعية على وجود الله منزل الكتاب، وعلى نبوة ورسالة نبي الله ورسوله المنزَّل عليه الكتاب، والمراد بالكتاب القرآن العظيم، فقد نزل القرآن من الملكوت الأعلى من ذي العرش تبارك وتعالى على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، أي: أن من أسماء الله تبارك وتعالى المتضمنة صفاته أنه العزيز الحكيم، والعزيز هو: الغالب القاهر في انتقامه، والحكيم أي: في عدله وتصرفه في خلقه. وهاتان الصفتان العظيمتان من العزة والحكمة اتصف الرب تعالى بهما، فهو العزيز الغالب القاهر في انتقامه على من أراد أن ينتقم منه، والحكيم في شرعه وتقنينه ولطفه بعباده.
وقوله: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:2]. أي: فاعبد الله يا رسولنا! مخلصاً له العبادة ولا تشرك به غيره أبداً، فالله لا يقبل العبادة إلا إذا كانت خالصة لوجهه لا يراد بها إلا وجهه عز وجل.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فقال: يا رسول الله! إني أتصدق وأصنع ما شاء الله من الخير أريد بذلك وجه الله وثناء الناس عليَّ بالخير )، كقولهم: فلان صائم، وفلان متصدق، وفلان مجاهد. ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله عبادة أُشرك فيها غيره أبداً ) .
وأورد ابن جرير الطبري في تفسيره أيضاً: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يؤتى يوم القيامة برجل ) في ساحة فصل القضاء والحساب بين الناس، ( صحيفته فيها مثل الجبال حسنات، فيقول الله تبارك وتعالى له: أصليت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقول له تعالى: ألا إني أنا الله لا أقبل عبادة أُشرك فيها معي غيري، يا فلان! أنت صمت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقول له تعالى: أنا الله لا إله غيري لا أقبل عبادة أُشرك فيها معي غيري، يا فلان! تصدقت؟ فيقول: نعم رب! تصدقت بكذا وكذا، فيقول له تعالى: أنا الله لا إله إلا أنا، لا أقبل عبادة أُشرك فيها غيري، حتى لا تبقى له حسنة واحدة، )، فكل حسناته تمحى؛ لأنه كان يعبد الله ويرغب أن يشكره الناس، ويثنوا عليه ويمدحوه.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الزمر:3]، أي: فعبدوا الأصنام والملائكة والأنبياء والرسل والأولياء والصالحين من دون الله عز وجل، وجعلوا يوالونهم، وينتصرون لهم، ويدافعون عنهم ويحمونهم، ويطمعون فيهم أن ينصروهم، وأن يدفعوا عنهم، فإذا سئلوا عن عبادتهم هذه الأصنام قالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]. أي: فإذا سألهم الرسول صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر: لم تعبدون هذه الأصنام؟ مع أن الله هو خالق كل شيء وخالقكم وخالق الكون كله، يقولون: نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى.
وقد انتقلت الجاهلية إلى المسلمين حين هبطنا من علياء السماء، وأصبحنا أميين، فتراهم يعبدون الأولياء بالحلف بهم، وبالذبح لهم، وبالنذر والاستعاذة بهم، وبالبناء عليهم، وبحمايتهم والدفاع عنهم، وإذا سئلوا لم تصنعون هذا؟ قالوا: نتقرب إلى الله بذلك، لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]. والله تعالى لا يقبل إلا الخالص لوجهه، فلا يقبل ديناً أُشرك فيه معه غيره، ولا أية عبادة سواء كانت قولية أو عملية أو عقائدية، فلهذا بلغوا إخوانكم وأخواتكم من المؤمنين والمؤمنات! أنه لا يحل لمؤمن أن يدعو غير الله، ولا أن يحلف بغير الله، ولا أن ينذر لغير الله أبداً، إذ هذه عبادات لا تصرف إلا لله، أما عبد القادر وسيدي فلان وفلان وفاطمة والحسين وغيرهم فصرف العبادة لهم من مظاهر الشرك الذي حرمه الله، وأنزل فيه كتابه وبعث به رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر:3]، فهو قطعاً سيحكم الله بين الموحدين والمشركين، وسينجي عباده الموحدين، ويدخلهم جنته، ويخزي الكافرين المشركين ويذلهم، ويدخلهم ناره وجحيمه، ولا بد من هذا، إذ قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [الزمر:3]، أي: بين الموحدين والمشركين فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر:3]، أي: في التوحيد، وحينها ستلوح الحقيقة وتظهر، بأنه لا يعبد بحق إلا الله، فلذلك عابدوه أدخلهم الجنة، والكافرون به والمشركون بعبادته أدخلهم النار.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:3]، أي: إن الله لا يهدي إلى الإيمان والإسلام، والإحسان والعبادات شخصاً علم أنه سيكون كذاباً كفاراً، كثير الكذب كثير الكفر. ومن هنا يحذر الإنسان أن يكون كاذباً، وخاصة الذين يكذبون على الله، فيا ويل الذين يكذبون على الله ورسوله! ويشرعون للناس ويقننون ما لم يشرع الله عز وجل وينسبوه إلى الله كذباً. والكفَّار هو: كثير الكفر، والعياذ بالله.
وهذه المسألة العقائدية مهمة، فالقدرية ينفون القدر والعياذ بالله تعالى، والجبرية كذلك، ونحن نقول: بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قبل أن يخلق العباد خلق القلم فقال له: اكتب، فقال: ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ) .
إذاً: فما من حادثة تحدث في الكون إلا وقد سبق بها علم الله، وكتبت في كتاب المقادير، وهذه هي الصورة العامة، ويبقى الأشخاص من النساء والرجال، فالله يقول في هذه الآية الكريمة: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:3]. فالمصر على الكفر وعلى الأفعال الكفرية وعلى الكذب لا يهديه الله في الدنيا، ولن يتوب عليه، ولن يدخل الجنة، كتب ذلك في كتاب المقادير، وسيدخل النار بسبب تكذيبه وكفره، وكتب أن فلاناً سيدخل الجنة في كتاب المقادير، ولكن كتب له أسباب الجنة من الإيمان والعمل الصالح، فهو مؤمن يعمل الصالحات، مبتعد عن الذنوب والآثام، ومبتعد عن الكفر والشرك حتى يموت، فلهذا قضى الله وقدر له الجنة.
وقوله تعالى: سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر:4]، فنزه نفسه وقدسها من أن يكون لها شريك أو نظير أو ولد، وسبحانه أن يكون له ولد، وسبحانه أن يكون عيسى ابنه أو العزير أو الملائكة، تقدس الله عن ذلك وبعد. ولذلك قال عن نفسه: هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر:4]، أي: الواحد في ذاته وصفاته، وأسمائه وأفعاله وعباداته، القهار لكل جبار، فهو الذي يقهر الجبابرة ويدمرهم، ويزيلهم ويبيدهم. هذا هو الله، فهو ليس بحاجة إلى ولد، ولا يقول بأن له ولداً إلا اليهود والنصارى، أما العرب الذين أسلموا ودخلوا في الإسلام فلم يبق منهم من يقول: الملائكة بنات الله.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: تقرير النبوة المحمدية ] وائتوني بنصراني أو بوذي أو مجوسي أو أي كافر فوالله لن يستطيع أن يرد هذا إلا بالكفر والعناد والإصرار على الكفر، وعبادة الدنيا والشياطين تمنعهم أن يسمعوا القرآن مع أنه يُقرأ في الدنيا كلها، فهو يقرأ في إذاعات روسيا وفي غيرها، لكنهم لا يسألون لماذا نزل؟ وعلى من نزل؟ وإنما يعرضون ويتكبرون؛ من أجل ألا يسلموا قلوبهم ووجوههم لله، فيصبحون لا ينكحون إلا ما أذن الله به، ولا يأكلون ولا يشربون إلا ما أذن الله به، ولا يلبسون إلا ما أذن الله به، ولا يعطون إلا ما أذن الله به، فلا يريدون أن يتقيدوا بالدين، وذلك حتى يكفروا ويقولوا: محمد ليس برسول، ومستحيل أن يكون كلامهم حق، والله يقول: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجاثية:2]. ولم ينزل هذا إلا على الرسول صلى الله عليه وسلم.
[ ثانياً: تقرير التوحيد ] وهو أنه لا يعبد بحق إلا الله؛ لأنه هو خالقنا وخالق كل شيء لنا، فلا يصح أن نعبد حجراً أو صنماً أو إنساناً أو حيواناً، ولا يمكن أن يعقل هذا، فلا معبود إلا الله، فلهذا كلمة لا إله إلا الله لو اجتمع علماء الدنيا كلهم فلاسفتهم وطياروهم وسحرتهم ما استطاعوا أن ينقضوها. وهم إما أن يقولوا: لا إله كما قالت العلمانية والشيوعية، وهذا لا يقوله إلا المجانين، وإنما يضحكون به على عقول الهابطين. وهذا المذهب قد تمزق وانتهى، والذي نشره هم اليهود عليهم لعائن الله، فهم الذين أوجدوا هذه الروح الخبيثة في أوروبا التي كانت تعبد المسيح حتى تخلت عن المسيح، وقد استطاعوا أن يسودوهم ويحكموهم ويسخروهم لهم، وهؤلاء لو قيل لأحدهم هذا كأس الماء ليس له صانع لما صدق أبداً، ويصدق أن العالم والكون بأكمله ليس له خالق، نعوذ بالله من الضلال والعمى.
أو يقولون: الآلهة اثنين، ولن يستطيعوا أن يوجدوا إلهاً آخر مع الله؛ إذ كلهم مربوبون مخلوقون، وبعضهم يقول: ثلاثة، وهذا مستحيل، فلم يبق إلا لا إله إلا الله فقط، فلا يوجد إله إلا الله، ولا يوجد اثنان ولا ثلاثة ولا أربعة ولا ألف ولا غير ذلك، فلا إله إلا إله واحد، هو الخالق لهذه الكائنات، المدبر لهذه الحياة، وهو الله، وله تسعة وتسعون اسماً.
[ ثالثاً: بطلان الشرك والتنديد بالمشركين ] وبيان مصير أهله، وأنهم في جهنم والعياذ بالله تعالى. وأكرر القول للحاضرين من إخواننا من الشرق والغرب: لقد شاع في ديارنا عبادة القبور بشد الرحال إليها، والعكوف حولها، ووالله لقد رأيت بعيني هاتين الجماعة تعكف على القبر، وانتشر الحلف بالأولياء كقولهم: وحق سيدي فلان، وسيدي فلان، وهذا شرك، وانتشر الذبح لها والنذر كقول بعضهم: يا سيدي فلان! إذا أعطاني الله كذا سأفعل لك كذا وكذا، وكل هذا شرك وكفر، والعياذ بالله، ونحمد الله أنه قد خف وقل، وأصبح كثير من البلاد لا يوجد فيها هذا الشرك، والحمد لله.
[ رابعاً: تقرير البعث والجزاء يوم القيامة ] فوالله لنبعثن أحياءاً كما كنا، ثم نحاسب على أعمالنا هذه، ونُجزى بها؛ لأن هذه الدار فانية، ولو كانت باقية ما وجد الموت، لكن ها نحن نشاهد الناس ترحل دائماً إلى الدار الآخرة، والدار الآخرة -كما علمتم- إما الجنة فوق السماء السابعة، أو النار تحت الأرض السفلى السابعة، والأرواح المؤمنة الطاهرة الآن في عليين، والأرواح الكافرة في سجين، حتى تنتهي هذه الحياة، ويخلقنا الله من جديد رجالاً ونساء، ويحاسبنا ويجزينا بعملنا، فمن كان عمله إيماناً وعملاً صالحاً زكت نفسه، وطابت وطهرت، وأدخله الجنة، ومن كانت منتنة عفنة بالشرك والإثم والذنوب أهبطه إلى سجين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر