إن الكافرين المعرضين عن الهدى والنور يجادلون أهل الحق من النبيين والمؤمنين، وحتى لو أظهروا لهم الرضا والقبول فإنهم يطوون قلوبهم على الجحود، ويستترون بمعاصيهم وفجورهم من الناس، ظانين بذلك أنهم يخدعونهم، فإذا جاء يوم القيامة وحشر الناس إلى ربهم، أنكر هؤلاء ما أسلفوا، وإذا بهم يشهد عليهم من لم يكونوا يتصورون يوماً أن يشهد عليهم، إذ الشاهد هنا أسماعهم وأبصارهم وسائر أعضائهم، عندها يعلمون موقنين أن مصيرهم النار وبئس القرار.
قال تعالى:
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا 
[فصلت:20]، أي: النار ووقفوا على أبوابها
شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 
[فصلت:20]. فهم يسألون الله لم يعذبون وعن سبب عذابهم، ويطالبونه بمن يشهد على أنهم كانوا غير مطيعين ولا صالحين، والله شاهد عليهم، والملائكة يشهدون، ومع هذا يقولون: من يشهد على أننا أهل للنار وأهل لجهنم؟ وحينئذ يأمر الله تعالى أعضاءهم فتنطق، فيشهد عليهم سمعهم وبصرهم وجلودهم. ولفظ الجلود يشمل الفروج والأيدي والأرجل، وكل الجسد. وهذه التي يجب أن نخافها ونرهبها. فلا تفهم أبداً أنك إذا عملت سراً وفي الخفاء معصية أن الله لا يعلمها، أو أنك لا تطالب بها إذ لم يشهد عليك شاهد، فأعضاؤك يشهدون عليك. فقولوا: آمنا بالله. فهناك يشهد عليهم سمعهم بمعنى: أسماعهم، والسمع يجمع ويفرد،
وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 
[فصلت:20] من الكفر والشر، والفسق والفساد، والظلم والاعتداء.
ولفظ الجلود يشمل الأيدي والأرجل والفروج، فكلها تشهد، فتنطق اليد وتقول: نعم، أنت ضربت بي فلاناً، وقتلت فلاناً، وتقول رجله: أنت الذي مشيت إلى المخمرة أو إلى الزن، أو الذي فعلت كذا، ويقول الفرج: أنت فجرت وزنيت أو لطت.
سبب نزول قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون)
قال تعالى:
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ 
[فصلت:24]، أي: مقامهم جهنم، ودار سكنهم جهنم.
وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا 
[فصلت:24] ويطالبون العتاب
فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ 
[فصلت:24]. فلا يرجون أن الله يعتب عليهم لم فعلتم وفعلتم، ثم يعفو عنهم، فهم والله ما هم بمعتبين، بل يخلدون في جهنم. فنبرأ إلى الله من ذلك، ونعوذ بالله من ذلك. ونسأل الله ألا نقدم على معصية من معاصيه ومعاصي رسوله. ومن زلت قدمه فباب التوبة مفتوح إلى ساعة الموت، فمن زلت قدمه وعصى ربه وارتكب كبيرة من كبائر الذنوب فليتب إلى الله قبل أن يغرغر، وقبل أن يحضر ملك الموت، فإن توبته تقبل، ونفسه تزكو وتطيب وتطهر، ويصبح من أهل الجنة ورضوان الله، ولكن ويل للمصرين على الذنوب، والذين يموتون عليها.
هداية الآيات
قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض مفصل بحال أهل النار فيها ] ففيها كما قدمنا عرض مفصل كامل لساحة القيامة، وما يجري وما يتم فيها.
[ ثانياً: التحذير من فعل الفواحش وكبائر الذنوب ] وارتكابها وغشيانها [ فإن جوارح المرء تشهد عليه ] يوم القيامة، فالعين تقول: نظرت، والأصبع يقول: أشرت، واليد تقول: ضربت، والرجل تقول: مشيت. ومن ثم يدخل جهنم. ولهذا يجب ألا نعصي ربنا، ولا نخرج عن طاعته، لا بزنا ولا بربا، ولا بغش ولا بخداع ولا بكذب، ولا بترك فريضة ولا إهمال سنة أبداً، حتى يتوفانا الله صالحين.
[ ثالثاً: التحذير من سوء الظن بالله تعالى، ومن ذلك أن يظن المرء أن الله لا يطلع عليه ] في ذنبه هذا [ أو لا يعلم ما يرتكبه، أو أنه لا يحاسبه أو لا يجزيه ] أو لا يؤاخذه عليه، أو أنه لا يطالبه بترك هذه العبادة، أو غير ذلك من الظنون الفاسدة، كما قال عمر رضي الله عنه.
[ رابعاً ] وأخيراً: من هداية هذه الآيات أيضاً: [ وجوب حسن الظن بالله تعالى، وهو أن يرجو أن يغفر الله له إذا تاب من زلة زلها، وأن يرجو رحمته وعفوه إذا كان في حال العجز عن الطاعات، ولا سيما عند العجز عن العمل للمرض والضعف، كالكبر ونحوه، فيغلّب جانب الرجاء على جانب الخوف ] فيجب حسن الظن في الله تعالى، فإذا أذنبت فأحسن الظن بربي أن يقبل توبتي، فأتوب إليه وأستغفره، أحسن الظن بأن يغفر لي، وكذلك أن أدعوه وأسأله، أحسن الظن بالله أن يستجيب لي. هذا حسن الظن بالله، وهو ضروري للمؤمن.