وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن الآن مع سورة الواقعة المكية، ومع هذه الآيات منها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا [الواقعة:10-26].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14] من هؤلاء؟ إنهم السابقون الأولون، لما ذكر تعالى في الآيات المتقدمة السابقين، وذكر ما أعد لهم من جنات النعيم؛ قال عن هؤلاء: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14], الثلة: الجماعة، أي: جماعة من الأولين ممن آمن مع نوح وموسى وإبراهيم والأنبياء، وكانوا من السابقين في الإيمان والإسلام وعبادة الله، وقليل من الآخرين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد قلت لكم: أهل العلم يقولون: هذا القليل هم المهاجرون على عهد رسول الله من مكة إلى المدينة, والأنصار الذين نصروا رسول الله ووقفوا إلى جانبه يدفعون عنه، فهم سابقون، وهم سابقون أيضاً في الدخول في الإسلام قبل غيرهم، ويدخل في لفظ السباق والمسابقة والسبق كل من يسابق إلى الجهاد قبل الناس، إلى الإنفاق والعطاء قبل الناس، إلى الصلاة قبل غيره.. كلهم سابقون.
مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [الواقعة:16] والاتكاء معروف على السرير, وهم متقابلون لا يعطي أحدهم للآخر ظهره أبداً، كل وجوههم بعضها إلى بعض، ميزة من أعجب الميزات, ما فيهم من يعطيك ظهره أبداً، كل من تراه وتجلس إليه يعطيك وجهه, عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47], وهذه ميزة عظيمة ونعمة كبيرة, كون أخيك لا يعطيك ظهره وتنظر إليه، بل كل ينظر إلى وجه أخيه.
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة:17], والخلود في مستوى واحد, ما يكبرون ولا يصغرون أبداً، يخدمونهم, لا تشتهي طعاماً أو شراباً إلا ويحضر بين يديك الخادم الولد ويقدم لك الطعام والشراب.
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة:17-18], هؤلاء الخدم والغلمان والأطفال يقدمون لهم أكواباً: جمع كوب، إناء ما فيه عروة ولا خرطوم, بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ [الواقعة:18], والإبريق: قدح فيه خرطوم يسيل منه الماء وفيه عروة كما هو عندكم.
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة:17-18] هذا المعين عين في الجنة من الخمر، نهر من الخمر لها كأس خاص، هذا النوع خاص بشرب الخمر, وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة:18], ما هو بكوب ولا إبريق ولا قدح، هذا خاص بشرب الخمر, كأس من معين.
لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19] وفي قراءة: (يُنزَفون) بفتح الزاي, لا يُصَدَّعُونَ [الواقعة:19] ما يصابون بالصداع إذا شربوا الخمر، والآن شرب العصاة الخمر يصابون بالصداع، فأهل الجنة لا يصدعون من خمرها ولا ينزفون, أي: لا يصابون بذهاب عقولهم واختلالها أبداً، ما يتأثرون بهذه الخمرة، يشربونها فلا يصدعون ولا يسكرون ولا يصبحون يتكلمون بما لا يعلمون، فهذه من عجائب قدرة الله، خمر نهرها يجري في الجنة كأسها خاص بها، فإذا تناول الكأس وشرب ما يصاب بالصداع ولا بذهاب العقل!
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:21], لحم الطير إلى الآن أطيب لحم، أطيب من لحم الإبل والبقر والغنم وغير ذلك، لحم مما يشتهونه يقدم لهم، فأولئك الخدم من الولدان يقدمون لهم هذا اللحم.
وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة:22-23], اللؤلؤ: جواهر بيضاء معروفة, ومكنون: مصان ما عليه غبار، وهؤلاء هن الحور العين، وتقدم قوله تعالى: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72], كما أن اللؤلؤ مكنون ومصون في مكانه الخاص كذلك هؤلاء النسوة من الحور العين مصونات في قصورهن وخيامهن، لا يراهن أحد ولا يستقبلن أحداً.
ومن هنا علمنا أن حجاب المرأة وسترها واجب, وأنها تتمثل بالحور العين، إذا كان الجنة ليس فيها زنا ولا فجور ولا كفر ولا فسق، فمن إكرام الله لعباده المؤمنين أن نساءهم ما يخرجن ولا يراهن أحد في الجنة دار السلام, ومع هذا فالنساء مستورات, مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72] ما يتجاوزن الخيمة أبداً أو القصر، كلؤلؤ مكنون مصون ما يراه أحد.
واليهود مسخوا البشرية, وكانت البشرية كلها تعرف الحجاب من الكفار وغير الكفار، فاليهود مسخوا البشرية وجعلوا النساء في الشوارع.
والذين يعملون الفسوق والفجور ومعصية الرحمن والكفر والشرك -والعياذ بالله تعالى- تظلم نفوسهم وتصاب بالظلمة والخبث والعفن والنتن الكبير، وحينئذ يبغضهم الله ويكرههم ويلقيهم في أتون جهنم, فليسوا أهلاً للجنة.
لا ننس هذه القاعدة العلمية: كل ما لا يكسبك درهماً لمعاشك ولا حسنة لمعادك فهو اللغو، تعمل أو تتكلم أو تجلس أو تمشي فيما يكسبك درهماً لمعاشك ليس بلغو، وما يكسبك حسنة لمعادك يوم القيامة ليس بلغو، أما أن تتكلم أو تمشي أو أو لأ’ تعمل أو تضحك أو تقول حيث لا حسنة ولا درهم؛ فوالله! لهذا هو اللغو، وأولياء الله معرضون عنه: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63] إلى أن قال تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72].
ففي الجنة لا يسمعون كلمة لغو لا تنفع أبداً، ولا إثماً يصابون به, لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا [الواقعة:25] أي: مما هو لغو ولا مما هو إثم من شتم أو تعيير أو تقبيح.
لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا [الواقعة:25-26], اللهم إلا القيل السلام، ألا وهو: السلام عليكم، أولاً: سلام الرحمن عليهم، ثانياً: سلام الملائكة كلما مروا بهم، ثالثاً: سلام بعضهم على بعض، هذا هو الموجود، أما اللغو والباطل والإثم فلا يوجد في الجنة, لا سب ولا شتم ولا تعيير ولا تقبيح، كما هو محرم علينا فلا نفعله ولا نأتيه ولا نقرب منه ليتحقق لنا هذا النعيم المقيم، فلا سب ولا شتم ولا تعيير، ولا لغو ولا باطل، ما نتحرك إلا لخير، ما نمشي إلا لخير، ما نأكل ولا نشرب إلا لخير، هذا شأننا نحن السابقين إن شاء ربنا؛ فقد قال تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14], فأمة محمد منهم السابقون, فالآن المسلمون كذا مليوناً والكافرون مئات الملايين، والسابقون من المؤمنين الآن عشرة في المائة، أو خمسة في المائة, والباقون من أصحاب اليمين، وما أدراك ما أصحاب اليمين.
وهكذا يقول تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا [الواقعة:25-26], يسلم عليهم الرب تبارك وتعالى, ويسلم عليهم الملائكة, كلما دخل الملك عليهم سلم عليهم، ويسلم بعضهم على بعض، كلما جلسوا واستقبل بعضهم بعضاً سلموا، وليس غير السلام، أما القول فاحش الباطل والإثم فلا وجود له.
هؤلاء هم السابقون، بم نالوا هذا؟ بعملهم الصالح وببعدهم عن العمل الفاسد، أما قال تعالى: بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة:24]؟ أي: من الإيمان الصحيح والعمل الصالح, مع بعدهم عن الكفر والشرك والفسق والفجور وكل الآثام، ما هم بآثمين، ليسوا كأصحاب اليمين, وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11], قربهم الله منه وأدناهم إليه كما بينت الآيات الكريمة.
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: تقرير البعث والجزاء بذكر أحوال الدار الآخرة ].
من هداية هذه الآيات المباركة التي تدارسناها: تقرير البعث والجزاء يوم القيامة بذكر ما يقع يوم القيامة في الجنة وفي النار، والآن ذكر تعالى ما يقع في الجنة، ذكر هذه النعم في الجنة, ويذكر الشقاء والعذاب في النار، كل ذلك تقرير للبعث الآخر والحياة الثانية التي كذب بها المكذبون وأنكرها المنكرون, وإلى اليوم ملايين الخلق ما يؤمنون بالبعث والدار الآخرة كالمجانين، فلم خلقتم؟ لم تموتون؟ من خلقكم؟ لم خلقكم؟ لم أماتكم؟ هل خلقتم أنفسكم؟ هل أمتم أنفسكم؟ إن الذي خلقكم وأماتكم هو الذي يحييكم في الدار الثانية ليجزيكم على عملكم, ولكن ليس لهم عقول ولا يفكرون كالبهائم، والله! إنهم كالبهائم وكالحيوانات، لو سألوا: لم خلقنا؟ فهل سيقال: خلقنا لا لشيء؟!
لو قيل: لم صنعت هذه الإبرة؟ فستقول: لأن نخيط بها, أو ملعقة: لم صنعت؟ فستقول: لنأكل بها, فأنت لم خلقت؟ ما السر في خلقك؟ من أجل أن تذكر الله وتشكره، ليجزيك في الدار الآخرة بحسن الجزاء، ولكن ما هناك دعوة تبلغهم الآن والعياذ بالله تعالى.
[ ثانياً: بيان شيء من نعيم أهل الجنة, وخاصة السابقين منهم ].
من هداية الآيات: عرض وبيان شيء من نعيم الجنة, خاصة السابقين، أما أصحاب اليمين فسيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى.
[ ثالثاً: بيان أن السابقين يكونون من سائر الأمم المسلمة ].
من هداية الآيات: أن السابقين الأولين أهل النعيم المقيم يكونون من الأمم الماضية ومن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، من عهد آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، فمن آمن مع عيسى وسبق نجا، ومن آمن بموسى وهارون وإبراهيم ونوح وسبق في الخيرات فهو من السابقين, ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14] أي: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فاللهم اجعلنا منهم.
[ رابعاً: بيان فضل خمر الجنة على خمر الدنيا المحرمة ].
من هداية الآيات: بيان فضل خمر الجنة على خمر الدنيا، خمر الدنيا حرام, والله! لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحتسي ملعقة أو شربة أو يشرب كأس خمر أبداً، حرم الله الخمر، تفسد العقل وتصيب الجسم بالبلاء والهلاك والعياذ بالله تعالى، فمن أصر عليها ومات عليها فهو من أهل جهنم, أما خمر الآخرة فمقابل خمر الدنيا: لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19].
[ خامساً: تقرير قاعدة أن الجزاء من جنس العمل ].
من هداية الآيات التي تدارسناها: بيان قاعدة, وهي: الجزاء من جنس العمل في الدنيا وفي الآخرة، الجزاء في الدنيا يكون من جنس العمل, وفي الآخرة كذلك الجزاء من جنس العمل، من كان عمله صالحاً أثني عليه وشكر، ومن كان عمله فاسداً لعن وأبعد في الدنيا وفي الآخرة كذلك, فإن كان العمل صالحاً فالجزاء خير، وإن كان العمل فاسداً فالجزاء شر والعياذ بالله تعالى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر