أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن سورتنا الليلة لسورة مباركة ميمونة، إنها سورة الصمد، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه نهاية قصار المفصل، وهي نهاية كتاب الله عز وجل، إذ أوله سورة الفاتحة وآخره سورة الناس.
أولاً: أنه يستحب للعبد المؤمن وللأمة المؤمنة أن يقرأها دبر صلاة الفجر، ودبر صلاة المغرب ثلاثاً. هذا ورد عن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فإنها أمان لك طوال الليل والنهار، فإذا صليت المغرب وصليت الصبح فاقرأ هذه السور الثلاث: الصمد والفلق والناس ثلاث مرات، واقرأها في غير هذين الوقتين مرة، بعد صلاة الظهر، العصر، العشاء مرة ولا تكررها، والمقابل العطاء: أن تأمن يومك وليلتك من المخاوف والمعاطب والمهالك.
ثانياً: تقرأها إذا أويت إلى فراشك أيها المؤمن وأيتها المؤمنة إذا أويت يا عبد الله إلى فراشك! ويا أمة الله إذا أويت إلى فراشك من أجل النوم فارفع كفيك وضمهما إلى بعضهما البعض كما في الدعاء، ولو أراد إنسان أن يضع في يديك شيئاً تكفف يديك وتضمهما، ولا تبسطها؛ لأن هذا يدل على الحاجة والإعلان عن الفقر والمسكنة!
تعلموا هذه فهناك فرق، وقد تعلمناها من كبار أهل العلم.
قال لي الشيخ رحمة الله عليه: أرأيت لو أراد أحد أن يضع في كفك شيئاً كيف تمد يدك؟ تبسط يدك أما تستحي؟!
إذاً: افتح كفيك واقرأ السور الثلاث: الصمد، الفلق، الناس، ثم انفخ أو انفث بدون ريق في كفيك ثم امسح بهما وجهك وما بلغت من جسدك، وافعل ذلك ثلاث مرات، وإن كثرت الأوراد عليكم؛ فأنتم لستم أهل الأغاني ولا المزامير ولا مجالس الباطل ولا اللهو ولا.. ولا.. فوقتكم يتسع لأكثر من هذا.
وهناك من يقول: يقرأ ثم ينفث، والكل وارد، ويدلكم على جلالة هذا الورد: أن الصديقة بنت الصديق، الحب بنت الحب عائشة رضي الله عنها قالت: ( لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستطع يقرأ طفقت أنفث على يديه بالمعوذات وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم ). فلهذا لا تتركوا هذا الورد.
ثالثاً: فضل هذه السور.
وأما سورة الصمد -والصمد هو الله جل جلاله- فإنها تعدل ثلث القرآن، ومن قرأها ثلاث مرات فكأنما قرأ القرآن. أي: يعطى أجر من يقرأ القرآن.
ولا يقولن غافل: إذاً لا نقرأ بعد الآن القرآن.
أعوذ بالله ممن يقول هذا القول! أيقول هذا مؤمن؟ لا. أيفتح الله لك باب خير وتقول: إذاً نكتفي بهذا؟!
لا يقول هذا عاقل، وإنما نختم القرآن في الأسبوع مرة ونقرأ هذه طول اليوم فهي تعدل ثلث القرآن.
وقد صح أن أحد المؤمنين بعث أميراً على سرية تغزو في سبيل الله، والذي أرسلها وبعث بها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان صاحب السرية يفتتح القراءة دائماً بسورة الصمد ثم يقرأ بعد ذلك ما شاء الله أن يقرأ، فتململ المجاهدون: لم يفعل هذا؟ فعادوا من غزوهم وسألوا نبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرجعهم، فقال: ( يا فلان! ما حملك على هذا؟ قال: لأن فيها صفة الرحمن فأنا أحبها. فقال له: حبك إياها أدخلك الجنة ).
وآخر في قباء يصلي فيهم وإذا قرأ وأراد أن يركع يقرأ الصمد -ذاك في أول القراءة وهذا في الآخر- فتململ أهل المسجد فشكوه إلى أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فقال: ( ما حملك على هذا؟ قال: لأني أحبها. قال له: حبك إياها أدخلك الجنة ).
من منكم يريد أن يحبه الله؟ كلنا. إذاً: ادفع الضريبة فأحببها، جاهد نفسك حتى تحبها، فإن أحببتها فزت بحب الله لك، ولا جائزة أعظم من هذه.
وقد ورد في أحاديث ضعيفة أنها تقرأ إحدى عشرة مرة، وأنا لا أمانع في هذا، وجربت هذا، فلو تقرأ دائماً كالتسبيح فلا بأس، المؤمنون يسبحون الليل والنهار فبدل التسبيح تقرأ هذه السورة بلا عد .. من يأتي بأجر مثل أجرك؟ لا أحد.
الشاهد عندنا: اغتنموا هذه الفرصة، فهذه سورة ربكم، سورة مولاكم، هذه سورة الصمد والصمد هو الله فكيف لا تحبونها؟
لو نزلت سورة باسم عائشة بنت أبي بكر والله لأحببتها أكثر من أمي؛ لأني أحب عائشة ، لكن لم تنزل سورة باسمها. إذاً: هذا ما يتعلق بسورة الصمد.
أما الفلق فهي خمس آيات، ولها فائدة جليلة، وهي: إذا مررت بحاسد أو مر بك وخفت أن يحسدك اقرأ هذه السورة، فإنها حجاب، ستر واق، وآيها خمس آيات.
وهنا لطيفة احفظوها: عرف المؤمنون أن هذه السورة تقرأ لدفع الحسد ودرء عين الحاسد، فكانوا يقرءونها، ويتلونها، ولكل حرف عشر حسنات، ويتوسلون بها إلى الله ليقيهم سوء الحاسدين، ثم مضى زمان فوسوس الشيطان للناس وقال لهم: يكفي أن تقول خمسة في عينيك. أي: بدلاً ما تقرأ وتتعب قل: خمسة في عينيك. أي: خمس آيات في عينك. وذلك حتى لا يتمتعوا بتلاوة الآيات وحتى لا ينتفعوا بها، فالشيطان قال لهم: قولوا خمسة في عينيك تكفي، ولا تقرأ السورة.
ومضى زمان ونسي الناس المراد من الخمسة أنها خمس آيات؛ لأن السورة آياتها خمس، فنسوا هذا وأصبحوا يظنون أنك تدفع العين بخمسة أصابع .. خمسة في عينيك، وفيها كلفة، أيضاً وتعب، ترفع يدك قال: لا، ارسمها فقط على باب البيت أو باب البستان بالجص، والآن جماعتكم يعملونها في السيارات. سلوهم: لم؟ يقولون: لدفع العين. هل العين تدفع بالخرقة هذه؟ بالصورة أم تدفع باسم الله؟
والشاهد عندنا: أرأيتم كيف يلعب الشيطان بالناس؟ صرفهم عن معين الحفظ والصيانة والوقاية إلى أن أصبحوا يشيرون بأيديهم حتى لا يقرأ أحدهم ولا يتعب. هذا ما يتعلق بسورة الفلق، وسورة الناس مثلها. وهيا نعود إلى التفسير الكريم.
سألوه هذا السؤال تحدياً وتعجيزاً: انسب لنا ربك؟ كيف تنسبه؟ فما هو إلا أن نزل جبريل بهذه السورة.
قُلْ [الإخلاص:1] قل يا محمد للسائلين المتعنتين هُوَ [الإخلاص:1] أي: ربي اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].
الجواب: هُوَ [الإخلاص:1] أي: المسئول عنه، الذي قلتم: انسبه لنا، هو اللَّهُ [الإخلاص:1] علم على ذات الرب تبارك وتعالى، وهذا الاسم إلى الاشتقاق أقرب، لأن فيه معنى التأله إذ الإله من الله بزيادة حروف ونقص. ومعنى الإله: المعبود بحق، الذي لا يستحق أن يعبد سواه قط. فالله اسم من أسماء الله تعالى، وهو اسم الجلال الأعظم.
أَحَدٌ [الإخلاص:1] صفة. ومعنى أحد: واحد. ولكنه أبلغ من واحد، أحد لا نظير له، واحد ممكن يأتي ثان وثالث.
إذا قلت: أحد فلا يمكنك أن تعدد .. انتهى، فهو أحد في ذاته، فلا توجد ذات في الكون مثل ذات الله تعالى!
أحد في صفاته فلا توجد صفة في مخلوقاته كصفة الله عز وجل وأفعاله؛ فلا يمكن أن يحدث محدث فعلاً كفعل الله عز وجل!
أحد في ذاته وصفاته وأفعاله، ويجب أن نوحده في أسمائه فلا نسمي بأسماء الله تعالى مخلوقاً من مخلوقاته، كما يجب أن نوحده في عبادته، وفي ربوبيته، فلا نعترف بربوبية كائناً من كان سوى الله عز وجل، ولا نعترف بألوهية معبود كائناً من كان أبداً، إذ الألوهية خاصة بالله عز وجل لا يشاركه فيها غيره.
(الصَّمَدُ): بعض أهل التفسير يقولون: الذي لا جوف له، ونحن ننزه الله عن هذا المعنى، فالله عز وجل ليس كالمخلوقات ذات الوسط أو الجنب أو الأول والآخر، فليس كمثله شيء، وليس شبيهاً بمخلوقاته في شيء.
نضرب الأمثال للبسطاء من أمثالي: نقول: هل الذي بنى هذه السارية مثلها في عقلها وفي كمالها؟ لا يمكن أن يكون المخلوق كالخالق. مستحيل.
إذاً: ليس كمثله شيء، استعصم بهذه، وصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به الرسول ولا تخف، ولكن مع اعتقادك أن الله ليس كمثله شيء.
الصمد: الذي بلغ الكمال في الشرف.. بلغ الكمال في العلم.. بلغ الكمال في العظمة.. قل ما شئت.
ومن معاني الصمد: هو الذي يفتقر إليه كل شيء وهو مستغن عن كل شيء، فالخليقة كلها تصمد إليه في طلب حاجاتها .. في الحفاظ على حياتها وبقائها وهو لا يحتاج إلى شيء منها. هذا هو الصمد.
ومما يؤثر عن العرب: قيل لبعض العرب: بأي شيء ساد فلان بينكم يا بني فلان؟ قالوا: احتجنا إليه واستغنى عنا فسادنا.
تأملوا قولهم! احتجنا إليه واستغنى عنا فأصبح سيدنا، أما من يحتاج فليس بسيد.
إذاً: الصمد هو الذي تصمد إليه الخليقة في طلب حياتها وبقائها.
ويصلح أن يكون معنى الصمد أيضاً: الذي لم يلد ولم يولد.
فتقول: ما الصمد يا شيخ؟ فأقول: الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]؛ لأن الذي يلد هذا من جنس المخلوقات، ومعناه: سيفنى كما تفنى المخلوقات ويهلك كما تهلك.
لَمْ يَلِدْ [الإخلاص:3]، لأنه منزه عن صفات المحدثين وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3] أي: لم يلده غيره.
وهنا في الصحيح -في صحيح البخاري- يقول نبينا صلى الله عليه وسلم عن ربه: ( يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم وما كان ينبغي له أن يكذبني، وشتمني وما كان له أن يشتمني. كذبني فقال: لم أعد حياته ولم أجدد خلقه بعد موته، وشتمني إذ نسب إلي الزوجة والولد ).
إذاً: المكذبون بالبعث الآخر والحياة الثانية كذبوا الله في قدرته، وما كان لهم أن يكذبوه!
أليست الإعادة أسهل من البداية؟! بلى. فالذي ابتدأ وجودنا أسهل عليه أن يعيدنا، كأي نجار.. كأي باني.. كأي صانع، كأي طابخة تطبخ طعامها إذا قدرت عليه الآن وابتكرته لا تعيده مرة ثانية؟! أسهل. وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم:27].
ألم تقل النصارى: عيسى ابن الله؟ بلى.
ألم تقل اليهود: عزير بن الله؟ بلى.
ألم تقل بنو لحيان: الملائكة بنات الله؟ بلى. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
الكفء: المماثل النظير، فلان كفء فلان.
قرأ حفص بسلب الهمزة وإبدالها بالواو للتخفيف وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا [الإخلاص:4] وإلا الكف معروف.
وقرأ نافع وأهل المدينة: (ولم يكن له كفؤاً) بالهمزة، والقراءتان سبعيتان، عدل عن كفؤ للتخفيف.
كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، أي: لا مثيل له ولا نظير، لا في ذاته ولا أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله ولا.. فهو الإله الأوحد.
وهذه سورة ربنا عز وجل، فإذا سئلت عن ربك فاقرأ السورة. سلني قل لي: من ربك؟ أو كيف هو؟ فسأقول: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد ..
إذ اليهود سألوا والمشركون سألوا فالجواب واحد، تقرأ لهم هذه السورة فهي الجواب.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر