إسلام ويب

هذا الحبيب يا محب 22للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد أن أعلن المسلمون دخولهم في دين الله بمكة واستقواءهم بإسلام حمزة وعمر، بدأ الإسلام ينتشر في أوساط أهل مكة، فخاف كفار قريش وزعماؤها من أن يغلبهم أهل الدين الجديد على أبنائهم ومواليهم، فبدءوا يساومون الرسول صلى الله عليه وسلم وينوعون له العروض، عله يقبل بواحد منها، فعرضوا عليه الملك والمال والنساء فلم يقبل، ثم بدءوا يبحثون عن وسائل أخرى لتشويه دعوته، فأرسلوا وفداً إلى يهود يثرب ليأتوه بمسائل يعجز عنها، فأيده الله عز وجل بالوحي إظهاراً لصدقه وتأييداً له.

    1.   

    المحاولة الأولى من محاولات المشركين لثني النبي عن الاستمرار في دعوته

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة من بعض العروض التي عرضتها قريش على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي عروض سياسية تحتاج إلى عناية، ولكي نربط بعضها ببعض نعيد ما درسناه من العرض الأول الذي قدمه أبو الوليد .

    أولاً: [ارتفاع ضوء الشمس المحمدية، وعشا أبصار المشركين] هذا هو عنوان هذه المقطوعة، فهيا ننتظم في سلكها، ونعيش ساعة مع ذاك الرعيل الأول في بداية هذه الدعوة النبوية الإسلامية.

    [إنه بعد أن أعلن النبي صلى الله عليه وسلم دعوته] بعد ما كان يخفيها ويسرها أُمر بإعلانها، وذلك بعد دخول حمزة وعمر رضي الله عنهما في حظيرة الإسلام، فأمر بأن يعلن أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7] [وجهر بها في أوساط المشركين -وهي دعوة واضحة سليمة لا عيب فيها، واضحة لا غموض ولا لبس فيها- عشت عنها أبصار المشركين] فما رأوها، وما استطاعوا أن يفتحوا أعينهم في هذا النور الإلهي [فلم يروا ما تحمله من الخير والهدى، فناصبوها العداء، وأصبحوا لها خصوماً ألداء، يحاربونها بكل ما لديهم من قوة وشدة. وفي العرض التالي تتجلى هذه الحقيقة.

    لقد مر بنا في الدرس السابق في قصة إسلام حمزة رضي الله عنه -قبل قليل- أنا أبا جهل وجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً عند الصفا] أي: جبل الصفا من مكة المكرمة [فنال منه سباً وشتماً، وعيباً لأمره]؛ لأنه أعمى البصيرة، ضال، مشرك، كافر .. [ولم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم] ترفع المصطفى -وهو أهل للرفعة- أن ينزل إلى هذا الحضيض السافل الهابط من الجهلة التائهين في أودية الباطل والشر والفساد، ولا تفهموا أنه لم يرد عليه خوفاً منه، فهل يقوى على أن يمس رسول الله وهو المحفوظ بحفظ الله؟! وسوف تشاهدون كيف أنه لما عزم على أن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي واجهه، فهرب، وفيه نزل: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق:15-18].

    [إلا أن الله تعالى قيض له أسداً من آساده] وهل لله أسود؟ نعم. كل أسد لله [حمزة بن عبد المطلب عم الحبيب صلى الله عليه وسلم] فـحمزة أسد الله في الأرض، وهذا لقب رسول الله له [فضربه على رأسه فشجه شجة منكرة] وترك دماءه تسيل، وكأنه يقول: ارفع رأسك يا طاغية فهذا حمزة [وأغاظه بأتم غيظ إذ أسلم أمامه وحسن إسلامه] لما ضربه حمزة كان وقتها كافراً مشركاً، ولما انبلج الصبح أمامه وغطته الأنوار -لأنه انتصر للحق- دخل في الإسلام [وبإسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما دخلت الدعوة في طور جديد] بعدما كانت في دار الأرقم بن أبي الأرقم ظهرت ودخلت في طور جديد [فجاهر الرسول صلى الله عليه وسلم وصدع بما يأمره به ربه] إذاً: ظهور صوت الحق وارتفاعه حال تقتضي أن يكرب المشركون ويغتاظوا ويحزنوا.

    [فأقض هذا الموقف الجديد مضاجع المشركين، وأفزعهم، وزادهم هولاً وفزعاً، تزايد عدد المسلمين، وإعلانهم عن إسلامهم، وعدم مبالاتهم بعداء المشركين لهم، الأمر الذي جعل رجالات قريش يساومون رسول الله صلى الله عليه وسلم] وهل يساومونه في شراء بستان أو بعير؟ لا. بل يساومونه على دعوته، لعله يتنازل ويحظى بما يطلب من أمور الدنيا.

    [وها هو ذا أبو الوليد عتبة بن ربيعة يُبعث من قبل المشركين] سفيراً يفاوض [ليعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأوه حلاً للمشكلة في نظرهم، فيقول له: يا ابن أخي!] يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم [إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم] بعد ما كانوا ملتئمين متحدين على مبدأ الشرك [وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني -يا محمد!- أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها] على الأقل [فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( قل يا أبا الوليد أسمع )] كناه بكنيته [قال: يا ابن أخي! إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً] لو عُرض هذا العرض على أحدنا الآن يطير به فرحاً، وإن دعا خمسين سنة إلا من عصم الله، إلا من حفظ الله .. [وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا] جعلناك السيد [حتى لا نقطع أمراً دونك] في كل حياتنا لابد من إذنك وأمرك واستشارتك [وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا] ولا مانع أن تتوج بعمامة، والعمائم تيجان العرب وأنت ملك البلاد.

    وهذه العروض اذكروها فإن الشياطين تعرض علينا أشياء كثيرة.

    [وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً -من الجن- تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه] وتصبح في خير. اتهموه بأن معه جني [فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه] أين درس هذا أبو الوليد ؟ ومن أية كلية تخرج؟ كيف عرف هذا الكلام؟!

    [وفرغ عتبة من كلامه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه] وهو كمال الأدب وبابه [فقال: ( أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ )] يعني فرغت من عرضك الذي عرضت؟ [قال: نعم. قال: ( فاسمع مني )] الرد [قال: أفعل] أي: قل. من ولي رسول الله؟ إنه الله، وهل يتركه؟ حاشا لله أن يخذل أولياءه أو أن يسلط عليهم أعداءه، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257]، مهما اسودت الدنيا واكتحلت الحياة وأظلمت، فالله يجعل لهم نوراً يعرفون به.

    [فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( بسم الله الرحمن الرحيم، حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:1-2] )، ومضى رسول صلى الله عليه وسلم يقرأ وقد ألقى عتبة يديه وراء ظهره معتمداً عليهما وهو يسمع منصتاً] هذه سورة فصلت لو قُرأت علينا ونحن جادون في تدبرها وفهمها لتغير حالنا [حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد ثم قال: ( قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك! )] أي: افعل ما ترى. فأنت وذاك الذي سمعت!

    [وعاد عتبة إلى أصحابه] سفير المشركين رجع مقتنعاً [فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به] فراسة عجيبة! فالنور المحمدي سطع في وجهه، وآيات القرآن غمرته فتغير وجهه، وما إن نظر إليه أحدهم حتى قال: والله لقد جاءكم بوجه غير الوجه الذي ذهب به. بمعنى: لم تستفيدوا من هذه السفارة!!

    [فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد ؟] أخبرنا [قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط] وهو كذلك [والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة] يعني: انزعوا هذا من آذانكم، فإنه يضللكم الزعماء، هذا يقول: ساحر، وذاك يقول: شاعر، والآخر يقول: مجنون، كل هذا باطل، وأن الذي سمعته -والله- ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة، وهو حق.

    والصدق -كما عرفنا- من آيات العرب في الجاهلية، فإذا قال العربي فإنه لا يكذب.

    قال: [وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه] أي: هذا أسلم لكم، فلا تعارضوه ولا تحاربوه ولا تتكلموا فيه، بل اتركوه وما جاء به، وهو خبر لا بأس به [فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم] وصدَقَ أبو الوليد ! فقد أقسم بالله قائلاً: والله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم [فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم] أي: اتركوه فإذا قدر العرب عليه وقتلوه وأنهوا دعوته كُفيتم ذلك أنتم. لم تتعرضون لمحنة؟ [وإن يظهر على العرب] أي: ينتصر عليهم [فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به] الله أكبر! كيف هذا أبا الوليد ؟! أين درس عتبة هذا؟ هل درسه في كلية السياسية في بريطانيا؟!

    وأنا أشنع لأن الساسة الذين درسوا السياسية في الغرب هم الذين فعلوا الأفاعيل بالمسلمين، وهم ليسوا أهلاً لأن يسوسوا ويقودوا، ودلونا على مظاهر السعادة والكمال في ديار المسلمين نتيجة هذه السياسة الرشيدة إن كنتم صادقين! ألا تعرفون الخلط والخبط والفتن والمحن؟ فأين هي السياسة؟ من أراد أن يسوس البشر فليسوسهم بنور الله وهدايته، بالعلم الرباني ليس بأفكار التائهين والطائشين والحمقى والمجانين!

    [فما كان جوابهم إلا أن قالوا: سحرك يا أبا الوليد بلسانه] تخلصوا من ذلك بأن نفوا السحر المعروف بالطلاسم، وقالوا: سحرك بلسانه! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن من البيان لسحراً )؛ فما كذبوا.

    [فقال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم!! كان هذا عرضاً -أولياً-].

    1.   

    المحاولة الثانية من محاولات المشركين لثني النبي عن الاستمرار في دعوته

    قال: [وعرض ثان] وعندنا خمسة عروض [إن ما عرضه أبو الوليد على النبي صلى الله عليه وسلم كان عرضاً معقولاً لولا أنه أراد به الصد عن سبيل الله، بصرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن دعوته؛ ولذا نزل القرآن الكريم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برفضه وعدم قبوله بالجملة، فقال تعالى من سورة الإنسان: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:23-24]] لا أبا الوليد ولا غيره.

    لما انتهت المحادثة، أو ما جرى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين سفير قريش ورجلها -وقد عرفتم ماذا عرض- نزل قول الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا [الإنسان:23]، إذاً: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24]، وإلى اليوم إياك أن تطيع آثماً أو كفوراً يا عبد الله! فمن أطاع آثماً غمسه في أوحال الذنوب والمعاصي، ومن أطاع كفوراً لنعم الله مزق شمله وحطمه، وهذا للبشرية كلها: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24].

    [كما أن رد عتبة على المشركين لما اتهموه بأنه سحر، كان رداً معقولاً ومقبولاً لولا العمه والحيرة اللتان أصيب بهما المشركون، يدل على ذلك أن قولة عتبة أبي الوليد لهم تزن الذهب لو كان لهم عقل، أو كانوا يبصرون] وهي مقولة: (فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب بإهلاكه، فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به). إي نعم. إنها كلمة توزن بالذهب، ولكنه قضاء الله وقدره، فما رضوا ولا قبلوا.

    قال: [أو كانت لهم حنكة سياسية] وعندنا في الهامش تعليق على كلمة سياسية، قال: (هكذا كانت السياسة العالمية، إذا ظهر في الأمة رجل طموح يطالب بأمر يفاوضونه مفاوضة أبي الوليد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرضونه حتى يرضى ويسكت لهم -كان هذا الوضع في العالم الإنساني- إلى أن ظهر المذهب الشيوعي أخيراً فعدلوا عن المفاوضات والعرض والمساومات إلى التعذيب والتنكيل حتى يقطعوا أنفاسه فيسكت، أو يهلك، وذلك لأنهم لا يؤمنون بالله ولقائه، فلذا هم يعذبون الإنسان وكأنه غير إنسان من شجر أو حجر، فباسم الله نلعنهم، ونبرأ من صنيعهم).

    وأعيد هذه النظرية: كان البشرية قبل وجود المذهب الشيوعي إذا ظهر شخص في القرية أو في القبيلة أو في البلاد أو في الأمة .. وكان له ما كان يأخذون في مفاوضته ومساومته، فإن شاء المال أعطوه، أو وظيفة وظفوه، حتى ينتهي طلبه، لكن لما جاء المذهب الشيوعي مزق الإنسان، فلا يُعرض عليه شيء إلا بالكهرباء، فالمذهب الإلحادي البلشفي الأحمر شر ما عرفت البشرية، وما كان العرب أبداً قبل الاستعمار يؤدبون إخوانهم في سجونهم بما نسمع ويبلغنا، من أنواع العذاب التي حلفتُ على أنه لا يوجد مثلها يوم القيامة في النار، فمن غرس فيهم هذه الغرسة الخبيثة؟ إنها الشيوعية.

    [ويدل على عمههم وحيرتهم أيضاً، أنهم بعد ما سمعوا الذي سمعوه من أبي الوليد كونوا وفداً من أعظم رجالاتهم] أي: ما أيسوا فما زالوا يعملون [وبعثوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليساومه بنفس المساومة] التي فشل فيها أبو الوليد [ويقول له نفس الكلام الذي قال له أبو الوليد ، وفعلاً أتى الوفد الجديد وكرر قولة أبي الوليد ، فردّ الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: ( إنه ما بي تقولون -من السحر والجنون- ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فأبلغكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم!! ).

    ولما سمعوا هذا الرد الكريم الحكيم من سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم فقدوا صوابهم] جن جنونهم [وأخذوا يهذرون ويهرفون بما لا يعرفون، ومن جملة ما قالوه] في هذرهم [أنهم طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو ربه ليحيي لهم من مات من آبائهم] أي: ما دمت أنت الرسول وأنت وأنت .. فاسأل الله أن يحيي آباءنا الذين ماتوا، وهل هذا الكلام معقول؟! [وأن يزيل عنهم الجبال المحيطة بمكة] لكي تصبح مكة أرضاً زراعية سهلة؛ لأنها محصورة بالجبال.

    وهل جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليزيل الجبال أو ليحيي الموتى؟ لا. إنما جاء ليعلم الناس الهدى، وينقذهم من الضلال والخبث والفساد تأهيلاً لهم إلى الجنة دار السلام، فليست هذه مهمته.

    [وأن يفجر خلالها الأنهار؛ لتصبح حدائق من نخيل وأعناب] كالمدينة والطائف [وذكروا كلاماً وطالبوا بأمور ذكرها الله تعالى في سورة الإسراء في قوله: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ [الإسراء:90]] أي: لن نتابعك على ما جئت به وتدعو إليه [ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء:90]] هذه واحدة [ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا [الإسراء:91]] أما وأنت تتاجر وتعمل على قرص العيش فكيف نقول أنك رسول؟! [ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا [الإسراء:92]] أي: قطعة قطعة تهلكنا بها. من أوحي إليهم بهذا الطلب؟ إنه أبو مرة [ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء:92]] يريدون مشاهدة الملائكة صفوفاً والله أمامهم. وهذا والله من وحي الشيطان وإملائه، وقد يوجد عند غيرهم، ووالله إنه لموجود، فالملاحدة اليوم يقولون أكثر من هذا، ويتحدون العلماء والدعاة؛ لأن الموحي بهذا هو إبليس، وإبليس ليس بجديد، بل من عهد آدم وهو يلعب مع البشر بألاعيبه، فما تسمعه اليوم تسمعه من أيام نوح.

    [ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ [الإسراء:93]] لم لا يكون لك بيت من ذهب وأنت رسول الله؟ [ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه [الإسراء:93]] يعني: ننام الليلة فنصبح غداً وكل واحد منا كتاب عند رأسه من الله أني بعثت محمداً رسولاً.

    وهذا كله سجله الله لنا، وإلا لما كنا لنعرفه!

    وأعيد هذه الطلبات جملة: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء:90] وفي قراءة نافع : (حتى تُفجِّر لنا من الأرض ينبوعاً) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه [الإسراء:91-93] [وهنا أمره ربه أن يقول لهم: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء:93]] يعني أنا بشر منكم، فهل تستطيعون أنتم أن توجدوا هذا التي تطالبون به؟

    [ولما فرغوا من عرضهم] العرض الثاني [وردهم السخيف، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبعه عبد الله بن أبي أمية المخزومي وهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم] لما فرغوا من العرض، قام الرسول من بين أيديهم، فتبعه عبد الله بن أبي أمية المخزومي ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم [لأن أمه عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال له: عرضت قريش كذا وكذا، ورفضت كل ذلك؟] وهل الرسول يستطيع أن يجيبهم فيما طلبوا؟! فعرضهم ليس بمعقول [فوالله لا أومن بك أبداً] تكلم الشيطان على لسانه، فمصيره إلى جهنم [وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً آسفاً لما فاته مما كان أمله من استجابة قومه لما دعوه ليكلموه في أمر دعوته] لأنه كان يظن في العرض الثاني أنه قد تغيرت نظريتهم لما اجتمعوا وخلوا ببعضهم البعض، فلعلهم تراجعوا، فخاب ظن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلهذا عاد حزيناً آسفاً لما فاته مما كان أمله من استجابة قومه [كان هذا عرضاً].

    1.   

    المحاولة الثالثة من محاولات المشركين لثني النبي عن الاستمرار في دعوته

    قال: [وعرض ثالث:

    إنه لما فشل رجالات قريش في المساومات التي تقدموا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعوا ما أيأسهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم التنازل عن شيء من دعوته وإن قلّ، وعن عدم التزحزح عما يدعو إليه قيد شعرة: هنا قام أبو جهل ليشفي صدره] لما بلَّغه رجاله خيبتهم قام ليشفي صدره [الذي احتدم غيظاً، فأخذ حجراً كبيراً وقال: لأفلقن به رأس محمد صلى الله عليه وسلم وهو يصلي] وأين حمزة يفلق له رأسه هو أيضاً؟!

    [وتحين عدو الله الفرصة، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حول الكعبة بين الركنين مستقبل البيت، جاء أبو جهل لعنه الله، وتقدم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربه بالحجر، ورجالات قريش في أنديتهم ينتظرون ما يفعله طاغيتهم عليه لعائن الله، فلما دنا من رسول صلى الله عليه وسلم ولى هارباً منتقع اللون مرعوباً قد يبست يداه على الحجر، وقام إليه رجالات قريش يقولون: ما لك يا أبا الحكم ؟ ما أصابك؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قَصَره، ولا أنيابه لفحل قط] لعظمة هذا الجمل [فهم بي ليأكلني.

    وفي هذه الحادثة نزل قول الله تعالى: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:15-19]] هذا الكتاب الذي أيد الله به رسوله، ما تحدث حادثة إلا وينزل النور الإلهي ليبينها.

    [ولما سمع وشاهد هذه الحادثة النضر بن الحارث ، قام في قريش وقال: يا معشر قريش! إنه -والله- قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، فقد كان فيكم محمد غلاماً حدثاً، أرضاكم فيه، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغه الشيب] والصدغ: ما بين الأذن والعين، والشيب أول ما يبدأ في هذا المكان [وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة، ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن؛ قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر؛ قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون؛ لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش! فانظروا في شأنكم فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم.

    لقد كاد النضر هذا يُسلم] بهذا الكلام أوشك أن يسلم [لما تبين له من الحق، ولكن منعه الحسد] الحسد لرسول الله هو الذي منعه، كيف يرى النبي صلى الله عليه وسلم وقد ساد قومه؟! وهذا شأن الحسدة [إذ هو الذي قال: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]] وهذه المقولة سجلها الله في كتابه، أي: نهلك ولا نراه ولا نعيش معه. هذا هو الحسد [جاء هذا في سورة الأنفال، ونزل فيه قوله تعالى أيضاً: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ [المعارج:1-3]] فهو الذي طلب ذلك، فقال: نهلك كلنا ونموت ولا نشاهد هذا الغلط الكبير، ولا نسمع هذا الصوت. وهذا شأن الحسدة!

    [إذ كان النضر بن الحارث هذا شيطان قريش، كان أخبثهم نفساً، وأشدهم عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ إذ هو القائل: أنا أحسن حديثاً من محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يقص أخبار ملوك فارس، ويقول: سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ [الأنعام:93]] من القصص [لما أصابه من الحسد والغرور وعمى البصر والبصيرة. كان هذا عرضاً].

    1.   

    المحاولة الرابعة من محاولات المشركين لثني النبي عن الاستمرار في دعوته

    قال: [وعرض رابع:

    إنه لما أعيت الحيل قريشاً، ولم تجد ما تدفع به دعوة الحق التي عشت أبصارها عن أنوارها الساطعة، بعثت وفداً إلى يثرب (المدينة) يُجلي لها حقيقة الموقف بواسطة أحبار اليهود؛ لأنهم أهل كتاب، وذوو علم بالأديان] بعثت قريش وفداً من مكة إلى اليهود بالمدينة ليسألوا اليهود عن هذه الدعوة، هل لها أصل، ولها نتائج؟ ومعناها: أنهم بذلوا ما أمكنهم أن يبذلوه.

    [ويتكون هذا الوفد من النضر بن الحارث -شيطان قريش- أميراً] أمّروه عليهم، إذاً: كانوا حكماء، فوفد بدون أمير يقول فيه كل واحد قوله يرجعون وهم مختلفين أو متضاربين في الطريق، فلابد من أمير [و عقبة بن أبي معيط ]هذا أخبثهم [مساعداً له] أي: نائباً للأمير [وقالوا لهما: اسألا أحبار اليهود عن محمد صلى الله عليه وسلم وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله الذي يقول، ودعوته التي يدعو إليها؛ فإنهم أهل كتاب، وعندهم علم بالأنبياء ليس عندنا] كلام معقول [فخرجا حتى أتيا المدينة؛ فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن] ثلاث أسئلة أو ثلاثة أمور [فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول] أي: يقول من عنده فقط. وصدق اليهود في هذا! [فَرُوا فيه رأيكم: سلوه عن فتية شبان ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟] أي خبره [وسلوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم يفعل فهو متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

    وعاد الوفد] المكون من رجلين: شيطان وإبليس [وقال لهم: جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد صلى الله عليه وسلم، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم بها فهو نبي، وإن لم يفعل فالرجل متقول فَرُوا رأيكم فيه.

    وسألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( غداً أخبركم )، ولم يستثن] ما قال: إن شاء الله [وانصرفوا عنه. وحبس الوحي عنه لعدم استثنائه قرابة نصف شهر حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم] ونحن كيف حالنا؟! أما زعماؤنا فإنهم لا يقولون إن شاء الله أبداً. ولكن ثورتنا، وروثتنا، وحكمنا .. أما إن شاء الله فليس لها وجود. بل كان بعضهم إذا قال مؤمن: إن شاء الله، يقول: لا تقل: إن شاء الله.

    فرسول الله صلى الله عليه وسلم في موقف عظيم كهذا يُترك لِهمّ وكرب وحزن نصف شهر، من أجل أنه لم يقل: إن شاء الله، وقد بلغنا عن بعضهم أنه إذا قال الرجل: إن شاء الله، قال له: لا تقل إن شاء الله، ولكن قال: آتي. وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء أفعل كذا إلا قال: إن شاء الله، طوال حياته.

    [وفرحت قريش وقالوا الكثير من القول حتى قالوا: قلاه شيطانه الذي كان يأتيه، ثم أنزل الله تعالى سورة: (الضحى)، ينفي فيها ما قالته قريش وادعاه بعضهم من غلاة المبغضين له صلى الله عليه وسلم من أن الله تعالى قد قلاه، أي: تركه وأضاعه مبغضاً له، وأنزل سورة (الكهف)، وفيها بيان حديث أصحاب الكهف تفصيلاً، وفيها خبر الرجل الطوافة وهو الإسكندر ذو القرنين ، ونزل في شأن الروح قوله تعالى في السورة التي قبل سورة الكهف (الإسراء): وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] رداً على اليهود. كان هذا عرضاً].

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765795137