إسلام ويب

هذا الحبيب يا محب 24للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن النقمة التي كانت في نفوس كفار قريش، والعذاب الذي كانوا يصبونه على المؤمنين، لم يكن مقتصراً على المستضعفين منهم دون غيرهم، ولكنه طال حتى النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكان كبارات أهل مكة وصناديدهم لا يتركون مناسبة يمكنهم النيل فيها من رسول الله إلا اهتبلوها، ولا يجدون نوعاً من الأذى يستطيعون به إيلام النبي إلا فعلوه، ولكن الله عز وجل خص هؤلاء الصناديد بعقوبات في الدنيا، فكانوا آية للمعتبرين، فضلاً عما ادخره الله لهم من عذاب الجحيم في الآخرة، جزاء ما كانوا يمكرون.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة [خيبة المشركين تتحول إلى نقمة على المستضعفين من المؤمنين] هؤلاء المشركين الذين خابوا على رأسهم أبو جهل عمرو بن هشام ، فقد فعلوا ما استطاعوا أن يفعلوه من أجل إيقاف هذه الدعوة، وإسكات النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وقد عرفنا تلك المساومات التي تمت، فلما فشلوا وخابوا، وعرفوا أن الوسائل السلمية لا تنفع، كشفوا عن وجوههم وعذبوا المؤمنين عذاباً ما عذبه أحد غيرهم.

    [إنه بعد أن بذلت قريش كل ما في وسعها من قوة وحيلة في إطفاء أنوار الدعوة المحمدية وباءت بخيبة مريرة] من ثم [حولت ذلك إلى نقمة على المستضعفين من المؤمنين] وهم أقلية يومها، وهؤلاء الذين نكلت بهم وعذبتهم [كـبلال ] مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـبلال كان مولى من الموالي، ولكن الله رفع شأنه وأعلى قدره؛ لصبره على مر العذاب وأليمه، وما تراجع أبداً، بل مضى في طريقه يعلنها واضحة صريحة: أنه أحد لا أعبد إلا الله.

    عمار ووالده ياسر وأمه سمية ] هذه أسرة كلها عذبت؛ الأب والابن والأم، وما كانوا من أشراف قريش ولكن موالي مستضعفين [و صهيب الرومي ، وخباب بن الأرت وعامر بن فهيرة ، وأبي فكيهة ، ومن النساء زنيرة والنهدية وأم عبيس ] هؤلاء كلهم أذاقتهم قريش مر العذاب؛ انتقاماً منهم؛ لأنها فشلت في المحاولات السلمية، فأرادوا أن يُسكتوا الرسول صلى الله عليه وسلم بكل وسيلة، فعرضوا عليه الملك ورفض، وعرضوا عليه النساء، وعرضوا عليه الأموال.. وكل ما حاولوا أن يسكتوه به ما أسكته، فمن هنا اشتد غضبهم وأخذوا يعذبون وينكلون بالمستضعفين من المؤمنين.

    [أما بلال فكان مملوكاً لـأمية بن خلف الجمحي ] كان عبداً له؛ إذ كان الناس يملكون العبيد [وكان يعذبه بإلقائه في الرمضاء] وهي الأرض الحارة، وذلك في أيام الصيف وقت القيلولة [على وجهه وظهره، ويضع الصخرة العظيمة على صدره، وذلك إذا حميت الشمس وقت الظهيرة، ويقول له: لا تزال هكذا] أي تعذب في الرمضاء على ظهرك وبطنك [حتى تموت أو تكفر بمحمد] صلى الله عليه وسلم [وتعبد اللات والعزى] أي: كما عبدوها هم [و بلال صابر يردد كلمة] وهي [أحدٌ أحد، وأخيراً استبدله أبو بكر الصديق بعبد مشرك] عنده [وأعتقه رضي الله تعالى عنهما] وهذه من مكارم أبي بكر رضي الله عنه، فقد استبدله بعبد عنده يملكه لكنه مشرك، وخلص بلال من تلك الفتنة.

    [وأما عمار وأمه ووالده ياسر ، فقد كانوا يخرجونهم إلى الأبطح] المعروف الآن [إذا حميت الرمضاء] واشتدت حرارتها [يعذبونهم بحر الرمضاء] الملتهب [فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال: ( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) فمات ياسر تحت العذاب رحمه الله رحمة واسعة] ولا يفوتني أن أقول: إن هذا العذاب صدر من كفرة مشركين وثنيين، لا علم لهم ولا بصيرة ولا قراءة، ويبلغنا اليوم عن إخواننا المسلمين أنهم يعذبون عذاباً هذا العذاب ليس شيئاً بالنسبة إليه، ولهذا كما قال القائل: (كفار قريش يعتبرون أشراف الكفار)، ووالله إن عذاباً يصب على المسلمين في سجونهم أشد من عذاب المشركين للمؤمنين، وهم يدّعون الإسلام والإيمان أيضاً.

    [وأما سمية فقد أغلظت القول لـأبي جهل ] أي: قالت كلمة قاسية غليظة لم يطقها أبو جهل [عليه لعائن الله، فطعنها بحربة في قبلها فماتت شهيدة] طعنها بحربة في فرجها فماتت [وكانت أول شهيدة في الإسلام]. اللهم اجمعنا بهم في دار السلام.

    [وشدد أعداء الله العذاب على عمار ونوعوا العذاب عليه، فمرة بالجر، ومرة بوضع الصخرة على صدره، وأخرى بالغمس في الماء إلى حد الاختناق ويقولون له: لا نتركك حتى تسب محمداً] صلى الله عليه وسلم [وتقول في اللات والعزى خيراً] أي تمدحها، واللات والعزى صنمان يعبدان بين المشركين [وفعل ما طلبوه منه] أي: أعطاهم ما طلبوا، فسب النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه، ومدح اللات والعزى بلسانه، وقلبه لم يصل إليه من ذلك شيء [فتركوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي] لما خلص من عذابهم بما أعطاهم وهو سب النبي صلى الله عليه وسلم ومدح اللات والعزى أتى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، وحق له أن يبكي [فقال] له النبي صلى الله عليه وسلم [( ما وراءك؟ فقال: شر يا رسول الله )] عندما بكى بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم استفهمه: ما وراءك؟ فقال: شر يا رسول الله [( كان الأمر كذا وكذا )] أي: ألزموني أن أقول فيك كذا، وأقول في اللات والعزى كذا تحت العذاب [( فقال )] له الرسول صلى الله عليه وسلم: [( كيف تجد قلبك؟ )] الآن وساعة ما كنت تعطيهم ما طلبوا [( قال: أجده مطمئناً بالإيمان )] أي: ساكناً لا قلق ولا اضطراب، لا وسواس ولا شك ولا هواجس [( فقال: إن عادوا يا عمار فعد )] أي: إن عادوا إليك يعذبونك حتى تقول ما طلبوا منك فعد وأعطهم [وأنزل الله تعالى فيه قوله من سورة النحل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]].

    أما ما يؤثر عن والده وهو تحت العذاب، هو أنهم طالبوه بأن يسب النبي صلى الله عليه وسلم أو يمدح اللات والعزى فقال: (والله ما كنت لألوث لساني بالكفر بعد أن طهره الله بالإيمان)، ومات تحت العذاب.

    وفي بلاد المسلمين يحرقون للشبيبة وجوهها بالحديد والنار، فماذا يصنعون؟ نقول لهم: إذا كنت تعذب في ذات الله فاحلق وأنت كاره لذلك وقلبك مطمئن بأن هذا الهدي المحمدي ينبغي أن يوجد وأن يكون بين المؤمنين، فمن لا يطيق العذاب يكفيه هذه الفتيا الإلهية: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] ولا حرج، وإن عادوا عد كما قالها الرسول صلى الله عليه وسلم لـعمار ، وهكذا في أي زمان أو مكان عذب فيه المؤمن وطلب منه كلمة من أجل أن يخفف عنه العذاب فلا بأس أن يقولها؛ لأنها باللسان فقط وقلبه مؤمن مطمئن ثابت، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106] فهذا الذي يؤاخذ، هذا الذي يعذب يوم القيامة؛ لأنه فرح بكلمة الكفر وتلذذ بها، وصدره منشرح لما قال.

    [وأما خباب فقد أسلم سادس ستة، فقد عذبه المشركون عذاباً شديداً؛ إذ كانوا يلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالحجارة المحماة بالنار ويلوون رأسه] وما رده ذلك عن الإسلام.

    [وأما عامر بن فهيرة فقد أسلم قديماً قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى دار الأرقم] بمكة [وكان من المستضعفين فعُذب عذاباً شديداً، ولم يرده ذلك عن دينه] بل صبر واحتسب [وكان يرعى غنماً لـأبي بكر ] رضي الله عنه [وكان يروح بها على النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر -وهما في الغار طوال المدة التي كانا فيها في الغار-] لأن قريشاً أصدرت حكمها بالإعدام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، فبعد أن اجتمعوا وتداولوا هذه القضية من كل جانب، اتفقت الكلمة على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مع الرسول ربه عز وجل.

    وفجأة طُوقت الدار بأربعين شاباً، يريدون بذلك أن يوزعوا دمه على القبائل كلها، حتى لا يبقى لبني هاشم ما يطالبون به، ومن عجيب ما كان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعلي -ابن عمه-: نم على فراشي. حتى إذا شاهدوه ظنوا أنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ حفنة من تراب وخرج ورمى بها في وجوههم وقال: شاهت الوجوه! فما زالوا ينفضون التراب ويزيلونه من أعينهم حتى مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار أبي بكر الصديق ، وقد اتفق معه من قبل على الهجرة، وكان أبو بكر رضي الله عنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: الصحبة الصحبة يا رسول الله؛ إذ سبق المهاجرون الأولون وأبو بكر صابر يريد أن يبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول له: الصحبة يا رسول الله! أصحبك في هجرتك، أو اصحبني في هجرتك.

    فلما أُعد لهم الطعام الكافي -والتي قامت بهذا هي أسماء بنت أبي بكر الصديق - ولما لم تجد ما تربط به الكيس شقت نطاقها نصفين وربطت ببعضه، فمن ثم لقبت بذات النطاقين، فإذا قيل: من الصحابية الملقبة بذات النطاقين؟ قل: إنها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها.

    وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى جبل يقال جبل ثور وفيه غار، فدخلا فيه ثلاثة أيام، كان وقتها عامر بن فهيرة يروح عليهم في الليل بالغنم فيحلب لهم ويعطيهم، وهذه فضيلة من فضائل عامر بن فهيرة .

    ولعل بعض السامعين لا يعرفون دار الأرقم، دار الأرقم هذه لما منعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أن يعلنوا عن إيمانهم ويجاهروا به، ومنعوهم من المسجد والبيت، اضطر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ينزل بدار رجل من المؤمنين يقال له: الأرقم بن أبي الأرقم ومكث فيه، ومن أراده أتى إليه في ذلك البيت، حتى أسلم حمزة وعمر رضي الله عنهما، وحينئذ خرجوا جهرة، ونزل قول الله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:94-95].

    [وأما أبو فكيهة واسمه أفلح أو يسار فقد كان عبداً لـصفوان بن أمية بن خلف الجمحي أسلم مع بلال ، فأخذه أمية بن خلف عليه لعائن الله وربط في رجليه حبلاً وأمر به فجر ثم ألقاه في الرمضاء، ومر به جعل -حشرة معروفة- فقال له أمية : أليس هذا ربك؟ فقال: الله ربي وربك ورب هذا، فخنقه خنقاً شديداً] على هذا الرد الذي رده [وكان معه أخوه أبي بن خلف فيقول: زده عذاباً حتى يأتي محمد] صلى الله عليه وسلم [فيخلصه بسحره] وهذه الكلمات يمليها الشيطان، ولهذا يوجد هذا الكلام الآن بالحرف الواحد، فالذين يُعذبون في العالم من المسلمين يُقال لهم هذا الكلام، بل وأكثر من هذا الكلام [ولم يزالوا يعذبونه كذلك حتى أغمي عليه فظنوه مات، ثم أفاق، فاشتراه أبو بكر الصديق وأعتقه].

    [وأما النساء زنيرة وأم عبيس ولبيبة والنهدية فقد عُذبن كذلك أشد العذاب من قبل مواليهن] وأسيادهن [ولم يرجعن عن دينهن، فرضي الله عنهن وأرضاهن].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088546222

    عدد مرات الحفظ

    777245061