أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، وكان النداء السالف يوم أمس هو قول ربنا تبارك وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ
[البقرة:183-184]. ففهمنا من هذا النداء الإلهي: أن الله تعالى فرض علينا بوصفنا مؤمنين وكوننا مؤمنين، فرض علينا الصيام، إذ قال:
كُتِبَ
[البقرة:183]، أي: فرض.
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
[البقرة:183]. وقد بين تعالى لنا شهر الصيام بنفسه، إذ قال في هذا السياق:
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
[البقرة:185].
علمنا أن الصيام هو الإمساك والامتناع وترك الأكل والشرب والجماع، وأن الظرف الذي نصوم فيه هو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فقبل طلوع الفجر الأكل كالشرب كوقاع النساء مما أذن الله فيه وأباحه وأحله، إذ قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ
[البقرة:187].
بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ما ينبغي أن نكون عليه حال صيامنا بصورة خاصة، وهو أننا لا نتكلم بسوء، ولا ننطق بأذى، وبخاصة السب والشتم والتعيير للمؤمن، والغيبة التي هي: أكل لحم المؤمن وهو غائب، والنميمة التي هي: إيقاد نار الفتن حتى تراق الدماء وتنتهك الحرمات، فالذي لا يمسك عن الغيبة والنميمة ليس لله حاجة في أن يترك طعامه وشرابه؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ). ومن ثم نغض أبصارنا عن النظر إلى ما حرم علينا من نساء المؤمنين، ونكف ألسنتنا فلا ننطق إلا بمعروف، وهذا في الحقيقة نظام حياتنا سواء كنا صائمين أو مفطرين، فالغيبة حرام، والنميمة حرام، ونهش عرض المسلم حرام، ولكن بصورة خاصة ونحن متلبسون بالعبادة، فالمؤمن إذا أحرم وقال: لبيك اللهم لبيك حجاً أو عمرة أصبحت حاله كحال من دخل في الصلاة، فالذي يقول: الله أكبر يصلي الظهر أو العصر لا يضحك، ولا يتكلم، ولا يمس شيئاً، ولا يمشي ولا يتأخر؛ لأنه في داخل الصلاة، وكذلك من أحرم وقال: لبيك اللهم لبيك امتنع عن كل ما هو ذنب وإثم، أو اختل عمله ولم ينتج له الطاقة المطلوبة، وهي الحسنات المطهرة للنفس البشرية والمزكية لها، وكذلك الحال إذا صمنا، وقد كان بعض الصالحين إذا دخل رمضان طوى فراشه، وكان بعضهم لا يدخل على أهله في النهار أبداً، بل من بستانه أو دكانه إلى المسجد، وهكذا كان الصيام معداً لنا لتقواه تعالى.
التقوى هي الخطوة الثانية في تحقيق الولاية الربانية، فالخطوة الأولى هي: الإيمان فآمنا، والخطوة الثانية: تقوى الله عز وجل بفعل ما أوجب فعله وترك ما حرم أو ما أوجب تركه، فهذه التقوى يعين عليها الصيام سواء في رمضان أو في غير رمضان؛ إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
[البقرة:183]. قال بعض أهل العلم: (لعل) هنا نسميها الإعدادية، أي: لتعدنا لتقوى الله عز وجل، فمن فاز بتقواه تحققت له هداية مولاه، وأصبح ولياً لله، فإذا سأله أن يزيل جبلاً لزال.
ونعيد تلاوة هذا النداء تذكيراً للناسين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ
[البقرة:183-184].
هذا الموقف تطلب بيان أشياء ذكرناها أمس، أولاها: النية، وهي شرط في صحة العبادة، ولو أن أحداً دخل البحر ثلاث ساعات يعوم ويغطس ويخرج بدون أن ينوي رفع الحدث الأكبر فما زال جنباً، فلا بد من النية، فكونه يمتنع عن الأكل والشرب والنكاح ولو أربعاً وعشرين ساعة، ولو أربعين يوماً بدون أن ينوي الصيام فلا صيام له.
وقد علمتم أن صيام رمضان يكفي فيه النية أول ليلة على أننا نصوم رمضان، ولا حاجة إلى تجديدها على سبيل الوجوب، وأما على سبيل الندب فنعم، فكل لحظة من اللحظات جدد فيها عهدك بربك، وعلمنا أن الحائض والنفساء والمسافر إذا أفطروا لهذا العذر وعادوا يصومون لا بد من إعادة النية وتأكيدها؛ لأن الصيام انقطع بالسفر أو بالمرض، فلا بد من تجديد النية، والنية: هي عزم القلب وتصميم النفس على الفعل أو الترك، وليست قول: أنني نويت كذا، فهذا من عمل العوام، وأما أهل العلم من أمثال السامعين والسامعات فلا يقولون: نويت، وإنما يصممون على أن يفعلوا ويفعلون.
ولو أن شخصاً قال: أنا أقبل الإسلام وأدخله واغتسل وصام وصلى، إلا أنه قال: أنا لا أعترف أبداً بأن الإسلام أباح أكثر من امرأة، فإنه لا يبقى مسلماً، ويكفر؛ لأنع غطى حكم الله، وهذا هو الكفر.
ولو قال: أنا أؤمن بالإسلام وبكل شرائعه إلا أنني لا أعترف بقطع يد السارق، فإنه لا يبقى مسلماً، ويكفر بذلك.
ولو قال: أنا أعترف بالصيام وأصوم ثلاثة أشهر في الشتاء، وأما في منتصف الصيف فلا، فإنه لا يبقى مسلماً.
ولو قال: أنا أتوضأ ولكني لا أغسل وجهي أو قال: لا أمسح رأسي فإنه لم يدخل في الإسلام، وإن كان قد دخله فقد خرج منه.
[ الآية (208) من سورة البقرة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
[البقرة:208] ].
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً
[البقرة:208]. فلا يبقى جزء منك لا يدخل، بل ادخله بكلك وبقلبك وحواسك ومشاعرك.
ومثال آخر: لو أن مسلماً أباً أو جداً ] لك [ قال: أنا لا أعترف بأن المسلم إذا دعا الأولياء ] وناداهم وطلب حاجته منهم [ أو استغاث بهم أو تقرب إليهم بذبح أو نذر ] وأصر على ذلك [ فهو مشرك ] كافر [ لا يقبل منه إيمان ولا إسلام، ولو صلى وصام وحج واعتمر وجاهد ورابط ] بلا خلاف.
[ وهذا النداء الإلهي الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
[البقرة:208] هذا النداء هو الذي قرر حرمة النقص في الدين أو الزيادة فيه ].
وهذه الفاحشة لها أندية في أوروبا، ولا يعقل أن آدمياً يفعل هذا، فهذا من تزيين الشيطان إبليس، فهو الذي يزين اللواط والزنا، وأكثر السامعين يغفلون عن قبحه، وإذا أردت أن تعرف قبح الزنا فأخبرني لو وجدت فحلاً مع امرأتك كيف تكون حياتك ووجودك؟ إنك تذوب وتتمزق. فكيف تفعله مع امرأة مؤمن آخر؟ فهذا والله ما يتم أبداً لولا تزيين الشيطان ولا يعقل، لكن هو الذي يلقي تلك المسحة والزينة على الخبيث المنتن الموغل في الحرام، فيصبح في نظر طالبه زيناً وحسناً وجميلاً [ والربا ] وأكثر السامعين لا يعرفون شيئاً عن الربا، فالربا معناه: أن المسلم لا يقرض ولا يسلف المسلم أبداً، ولا يرحم أخاه المسلم، ولا يدفع عنه مكروهاً أبداً، ولا يثق في مسلم أبداً، ولا يشاركه لا في تجارة، ولا في صناعة، ولا في أي عمل. هذا هو الربا، والله لا يريد هذا للمسلمين، فالربا معناه: أنه لا ثقة في مسلم، وقبل الربا كان المسلم إذا كان عنده ألف أو عشرة ألاف يبحث عن مسلم ويقول له: اعمل بها والربح بيننا، ولا يتركها في جيبه أو في صندوقه، فقد كان المسلمون يبحثون عمن يستقرض منهم، ويقولون: ماذا نصنع بوضع الفلوس في البيت؟ فكان أحدهم يقرضها لأخيه المؤمن لينتفع بها ويردها، فلما احتالوا علينا وهبطونا أصبحنا لا نعرف لا قرض ولا سلفة ولا تجارة ولا تعاون، فتعطي الرجل مليوناً يشتغل به وبعد عام يقول: خسرنا كل شيء مع الأسف، أو تقرضه ولا ترى وجهه عاماً أو عامين، وهكذا الربا، فهو أعظم مصيبة أصابت المسلمين، ومسحت الرحمة والإخاء والمودة والتعاون منهم، وجعلتنا كل واحد يعيش لنفسه.
والذي وضع الربا في هذه الصورة وعرضه علينا بنو عمنا اليهود، فهم الذين أسسوا الربا على أسسه، وأشاعوا البنوك في العالم في الشرق والغرب على حد سواء؛ لعلمهم بأن هذا يقطع شيء اسمه تعاون أو تلاقي أو مودة أو إخاء وخاصة بين المؤمنين، الذين يريدون تمزيق شملهم وتفرقة كلمتهم وبلادهم، ونحن سائحون في الأرض ما عرفنا شيئاً [ وقتل النفس والحسد والكبر والعجب وعقوق الوالدين وأذية المسلمين، إلى غير هذا من كبائر الذنوب والفواحش ] والذي يزين هذا هو الشيطان، فترى المؤمن جالساً مع أخيه ثم فجأة وإذا به يتضارب معه والدم يسيل، والذي دفعه إلى هذا هو الشيطان. إذاً: فعداوته لنا بينة معروفة، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
[البقرة:168]. وقال في آية النور:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
[النور:21]. وبمجرد ما يجري العبد وراء العدو ويتبعه فجأة وإذا به شيطان رقم اثنين، فيأمر بالزنا، ويأمر بالجرائم، ويأمر بكل المفاسد؛ لأنه تلبس به الشيطان، فلهذا الحذر الحذر يا عبد الله! ويا أمة الله!
قال: [ فإذا أصبح العبد يحب ما يحب الشيطان، ويكره ما يكره فقد التحق به، وأصبح من أوليائه، وخسر نفسه وأهله ] والشيطان لا يحب سماع القرآن، ووالله العظيم عندما يأخذ المؤذن يؤذن فإن الشيطان يهرب من هذا المسجد وله ضراط إلى آبار علي، أخبر بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو لا يطيق سماع الله أكبر، ولا حي على الصلاة، وحتى لا يسمع يهرب بصوت ضراطه حتى لا يسمع.
والذين يلذ لهم سماع أغاني العواهر والمخنثين ويكرهون سماع القرآن الكريم من المؤمنين فوالله لقد كسبهم الشيطان ونالهم، والذي يغضب من كلمة الحق ويسخطها وما يطيقها وإذا سمع كلمة الباطل ينشط ويتحرك فوالله إن الشيطان هو دافعه.
وللشيطان أولياء، فالناس صنفان: أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ولا ثالث لهما، فإما أن تكون ولياً لله، أو تكون ولياً لعدو الله الشيطان [ كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ
[الزمر:15] ] بحق، واسمعوا هذا البيان [
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
[الزمر:15] ] فليس الخسران خسران الشاة والبعير، ولا الدينار والدرهم، ولا والوظيفة ولا المرأة ولا الولد، بل الخسران الحق هو يوم القيامة، وذلك بأن يجد العبد نفسه في عالم لا يجد أباً ولا أما ولا ابناً ولا أخاً ولا من يعرف، وإلى الأبد، هذا هو الخسران الذي قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: بلغه [ واذكر ما يحمله قول الله تعالى:
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
[البقرة:209] من الوعيد الشديد لكل من زلت قدمه، فزاد في الإسلام، أو نقص منه، أو بدل فيه، وما أصاب المسلمين من خراب ودمار، وذل وصغار لما تركوا واجبات أوجبها الله، وارتكبوا محرمات حرمها الله، كاف في الدلالة على ما تحمله الآية من وعيد شديد.
وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين ].
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المفلحين، وأن ينجينا من كل خسران في الدنيا والآخرة. إنه ولينا ورب العالمين!
معاشر المستمعين! غداً إن شاء الله نخرج إلى عمرة، وسيكون الدرس بعد غد إن شاء الله يوم الجمعة، ومن أراد أن يعتمر فليعتمر.