إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني |
وما لي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني |
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني |
أيها الإخوة الكرام: موضوع حديثنا في هذه الليلة المباركة -إن شاء الله- ونحن نستقبل بفارغ الصبر هذا الشهر العظيم، ونحن نستقبل أياماً كان سلفنا -رحمهم الله- ينتظرونها ستة أشهر، وكانوا يدعون الله أن يبلغهم هذه الأيام، وإذا فارقوه ظلوا أشهراً عديدة يدعون الله أن يتقبل منهم الصيام والقيام.. هذه الأيام التي غفل عنها كثيرٌ من المسلمين، حتى صاروا لا يشعرون بها إلا عندما تدخل، تدخل وتخرج وما شعر بها كثيرٌ من المسلمين وللأسف!
هذه الأيام كان ينتظرها الصالحون أياماً وشهوراً وليالي.. كم وكم من إخواننا كان معنا في رمضان الماضي؟ أتذكر ذلك الذي كان يقوم معنا الليل؟ أتذكر فلاناً الذي كان يصوم ويفطر معنا، وكنا نزوره، وكنا نصله؟ أين هو الآن؟ تحت الثرى، يلقى جزاءه عند الله جل وعلا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
قال صلى الله عليه وسلم: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه! من أدرك رمضان ولم يغفر له) تعس! إي والله، دخل رمضان وخرج وما دمعت عينه وما تاب من معصيته.. دخل رمضان وخرج ولا زالت أمواله في بنوك الربا.. دخل رمضان وخرج وهو لا يزال مصراً على ذلك الذنب وتلك المعصية.. وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] لا تقل: إنك لا تذنب، ولا تخدع نفسك بأنك لا ترتكب معصية، كل بني آدم خطاء، فهذه فرصتك أيها الخطاء، وفرصتك أيها المذنب، أبواب الجنان تفتح! وأبواب النيران تغلق! ومردة شياطين الجن تصفد! أي فرصة أعظم من هذه، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر! أتعرف ما هذه الأيام؟ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185].
كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بهذا الشهر، وإذا رأى هلاله، قال: (الله أكبر، الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام) كان يدعو الله أن يهله عليه وهو على دين الله جل وعلا، إنه شهرٌ عظيمٌ، فأين المشمرون؟ أين المسارعون؟
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان |
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان |
واتل القرآن وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن |
كم كنت تعرف ممن صام في سلفٍ من بين أهلٍ وجيران وإخوان |
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمُ حياً فما أقرب القاصي من الداني |
فرصة قد تدركها وقد لا تدركها.. قد لا تعوض يا عبد الله.
هذه بعض فضائل رمضان، فهل أنت مستعد الآن يا عبد الله؟ هل أنت مشمر أن تتعب وتعطش في سبيل الله؟ أن تتعب هذه الرجلان وتتفطر القدمان من أجل الله تبارك وتعالى؟
كان الإمام أحمد يقوم قبل السجن بثلاثمائة ركعة، فلما تعب بعد السجن كان يقوم في الليلة الواحدة مائة وخمسين ركعة، وكان عمره قد تجاوز الثمانين عاماً.
كانوا يتلذذون بقيام الليل، فيا من يقبل عليهم شهر رمضان لِمَ تعدون لياليه؟ ولمَ تترقبونه؟ ولمَ تتأهبون للقائه؟ إن لم يكن لهذا، فبئس الاستعداد والترقب!!
امنع جفونك أن تذوق مناما وذر الدموع على الخدود سجاما |
امنع جفونك أن تذوق مناما وذر الدموع على الخدود سجاما |
واعلم بأنك ميت ومحاسب يا من على سخط الجليل أقاما |
لله قومٌ أخلصوا في حبه ورضا بهم واختصهم خداما |
قومٌ إذا جن الظلام عليهم أبصرت قوماً سجداً وقياما |
فسيغنمون عرائساً بعرائسٍ ويبرءون إلى الجنان خياما |
وتقر أعينهم بما أخفي لهم وسيسمعون من الجليل سلاما |
يتلذذون بذكره في ليلهم ويكابدون لدى النهار صياما |
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه |
وإذا جاء الليل بعد أن شبع وملأ بطنه، إن جاء يصلي، قال: يا إمام! أرحنا من هذه الصلاة، ما أطولها! أزعجتنا بها، مللنا هذه الصلاة الطويلة!
أزعج الناس بثقل الصلاة عليه.. أتعرف لماذا هي ثقيلة؟ لأن الله جل وعلا سماها عنه وعن أمثاله وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ [البقرة:45] الصلاة ثقيلة عليهم إلا على من يا رب؟ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] لم يخشع فيها ولا تلذذ بها، يقول للإمام: لا تطل الصلاة، ثم لم يصلي إلى أين؟ أتظنه يجلس في بيت الله؟
كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في خباه لا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد، يعتكف للقاء الله جل وعلا، وكان جبريل يدارسه القرآن، وكان السلف من بعده أحدهم في المسجد لا يخرج إلا للوضوء ويرجع، بين مصحفٍ وقرآن.. أي قراءة نريد؟ هل نريد قرآناً هذاً كهذِّ الشعر؟ أو كقراءة جرائد؟ أو أن تفتخر بين أصحابك أنك قرأت القرآن مرتين أو ثلاث! لا، نريد قرآناً كما قرأه السلف.. كيف قرءوه؟ هذا أفضل الخلق يقول لصاحبه ابن مسعود: (اقرأ علي القرآن. قال
يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى فيه خاشعاً، يوشك أن يخطئ الإمام ولم يدر به أحد، يوشك أن تسأل المصلين بعد الصلاة ماذا قرأ الإمام؟ فلا يجيبك أحد، يوشك أن يأتي هذا اليوم أن يقول الناس بعد الصلاة: ماذا قرأت أيها الإمام؟ لم نعقل إلا التكبير والسلام، لم نعقل شيئاً آخر.
الفضيل بن عياض قرأ آية واحدة ورددها حتى بكى، وهي قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:8-9].
وكان أبو حنيفة يقوم الليل كله بآية واحدة، وعائشة تصلي الضحى بآية واحدة، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27].
أتعلم أن هناك من المسلمين من يمر عليه رمضان وغير رمضان ولا يفرق؛ لأنه لا يأكل شيئاً؟ هو صائمٌ طوال العام، إن حصل على وجبة واحدة في اليوم والليلة، فهنيئاً له في ذلك اليوم.. أسمعت بمسلمين يبحثون عن الطعام في القمامات؟! أسمعت بمسلمين تنظر الأم إلى رضيعها ليس في ثديها قطرة لبن ترضعه، ويموت بين يديها ولا تستطيع أن تفعل شيئاً؟! أسمعت بمسلمين الآن في هذا الزمن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ليس عندهم رطبات يسدون بها جوعهم؟! أسمعت بهذا يا من فرشت لك الولائم! ويا من غضبت إذا نقص شيءٌ من أصناف الطعام! ويا من تشتكي من التخمة ومن كثرة الطعام! ويا من ألهتك تلك الملذات والشهوات عن إخوانك المسلمين؟!
إنه شهر إطعام الطعام.. (من فطّر صائماً فله مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شيئاً) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
لا تبخل يا عبد الله!
تذكر إخواناً لك في الأرض جوعى ومرضى لا يملكون شفاءً للشتاء، ولا غطاءً للصيف، ولا يملكون دواءً لمرضاهم، يموت الولد من مرض، وتموت الأم من جوع، ولا يستطيع أحدٌ أن يفعل شيئاً، وقد قرأت يوماً خبراً -إن كان صحيحاً، فإننا نعيش في زمن التعاسة- قرأت يوماً في إحدى البلاد الإسلامية أن أماً مع أولادها ما كانت تملك شيئاً، حتى جاعوا، وبحثوا عن طعام فلم يجدوا حتى ماتت الأم بين أيدي الأولاد، الأم ثم جاع الأولاد فلم يجدوا طعاماً؛ فما وجدوا إلا شيئاً من اللحم بقي على عظام أمهم، فأخذوا يقطعون بعض اللحم ويأكلونه ليسدوا به جوعهم.. قال الله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان:8-9] شهر رمضان يذكرك إذا جعت وإذا عطشت بالفقراء والمساكين.. كم ستصوم؟! اثنا عشر ساعة، ومن المسلمين من يصوم أربعاً وعشرين ساعة، بل يصوم يومين وثلاثة ولا يجد طعاماً يأكله، فإذا جعت تذكر إخوانك.
هل رأيت أكرم من الله جل وعلا؟
هل سمعت بكرمٍ أعظم من كرم الله جل وعلا؟
إنه شهرٌ يفتح الله فيه أنواع الرحمات، بل وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
هذا رجل من بني إسرائيل عبد الله أربعين سنة، كان صالحاً تقياً ثم انتكس، فعصى الله جل وعلا أربعين سنة أخرى، أربعين سنة يطيع الله، ثم أربعين سنة يعصي الله ويجاهر بالمعصية، ثم أراد أن يتوب، فقال: يارب! أطعتك أربعين عاماً، وعصيتك أربعين عاماً، فهل لي من توبةٍ إن أنا تبت وأنبت إليك يا رب؟ فإذا به يسمع منادٍ يناديه: عبدي! أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك.. قال تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:70].
إن لم يُغفر لك في رمضان فمتى؟! إن لم يرحمك الله في رمضان فمتى؟! إن لم يعتقك الله في رمضان فمتى يا أخي الكريم؟! الشياطين صفدت، والرحمات تنزل، والجنة فتحت أبوابها، وزينت لك يا عبد الله! فإن لم تقبل في رمضان فمتى؟!
يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديه جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرمٍ لديه |
أنا ضيف وجزاء الضيف إحسانٌ إليه |
عبد الله! هل أنت مقبلٌ على الله؟ يبسط يده كل ليلة ليتوب مسيء النهار، وكل نهارٍ ليتوب مسيء الليل، قال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49] أخبرهم أني أنا الغفور الرحيم، بل قال في الآية الأخرى: إنه غفار، أي: كثير المغفرة: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ [طه:82] هل أنت تنوي أن تتوب في هذا الشهر من ذلك الصحن وهذا البث المباشر الذي أدخلته إلى بيتك؟ هل عزمت أن تخرجه في شهر رمضان توبة إلى الله جل وعلا؟ ورصيدك الذي لا زلت تحارب الله به سنوات، ودعيت إلى الله فازددت منه.. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] هل أنت عازم على التوبة في هذا الشهر؟ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53].
أيتها المتبرجة! يا من أصررت على هذا الفعل! هل عزمت في هذا الشهر أن تتوبي إلى الله جل وعلا؟ أدعو كل امرأة في هذا الشهر أن تقبل على الله.. كيف تذهبين إلى الصلاة وتدمع عينك وتخشعين وتبكين من خشية الله، ثم ما أن ينتهي رمضان إلا وقد حسر الرأس والذراعان والساقان، ثم ظهرت الضحكات مرةً أخرى، ورجع الاختلاط مع الرجال والخلوة بهم؟! إلى متى لا نتوب إلى الله جل وعلا؟ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54].
هذا شاب يقول: كنت مولعاً بالأغاني والطرب، كان يعشق مطربة... وللأسف! شباب المسلمين الذين كانوا يعشقون السيوف، ولا يتلذذون إلا بالجهاد، وكان الواحد منهم يقف على أصابعه ليؤذن له في الموت، وكان ينادي معاذ ومعوذ ابني عفراء أحد الصحابة: يا عم! يا عم! أين أبو جهل؟ فيقول: ماذا تريدان؟ ما شأنكما وشأنه؟ قال: يا عم! سمعت أنه يسب رسول الله، فوالله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.
الله أكبر! هكذا الشباب.
أما الشباب في هذا الزمن -إلا ما رحم ربك- فيبكي لأنها فارقته، يعتصر قلبه ألماً لأنها لم تلتفت إليه، يتقلب على الفراش بذكراها، تبكي عينه لفراقها.. تباً لأولئك الشباب! هكذا استبدلوا الأمجاد بهذه الأحوال.. هذا الشاب يقول: كنت مولعاً بمطربة وكنت أطرب بأغانيها، وأستمع إليها كل يوم من الصباح إلى المساء حتى في رمضان، صفدت الشياطين وبقي هو، لا يحتاج إلى شيطان، من الصباح إلى المساء على الأغاني والطرب، لا يصوم ولا يذكر الله، وكان يأتيه كل يوم رجل داعية يدعوه إلى الله جل وعلا، ولكنه يقول: كنت أتأثر ولكن عندما أذهب إلى البيت أرجع كما كنت، كل يوم على هذه الحالة، وكان الشيخ يدعوه، وهو يصر على الذنوب وعلى المعاصي.. يقول: وفي يوم من الأيام أغلظ علي في الموعظة، فذهبت إلى البيت ونمت؛ فرأيت فيما يرى النائم- اسمع ماذا رأى في المنام- يقول: كنت أمشي على شاطئ البحر، فإذا بي أسمع المطربة الفلانية تغني في النوم، وجاءني رجل، وقال: إن مطربتك المفضلة تغني فأسرع إليها، يقول: فأخذت أركض نحو الصوت على البحر؛ فإذا برجل يمسك بكتفي، فالتفت فإذا هو شيخ وقور كبير، فقلت له: ماذا تريد؟ قال: قف، قلت له: دعني أذهب إلى هذا الصوت، يقول: فإذا به يمسك بي ولا يسمح لي بالذهاب، وأنا أحاول أن أتركه ولكن لا فائدة، وإذا به يقرأ آية من كتاب الله: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22] ويردد الآية بترتيل، يقول: فاستيقظت من النوم وأنا أردد الآية وأبكي، لا أدري عن نفسي، حتى دخلت أمي وفزعت: مالك يا بني ما الذي جرى؟ وأنا أردد الآية وأبكي حتى بكت أمي معي، أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22] يقول: ومنذ تلك الليلة، ومنذ تلك اللحظات كسرت جميع الأشرطة، وأحرقت الصور، وبدأت بداية جديدة بيني وبين الله جل وعلا.
يا من يعد غداً لتوبته أَعلَى يقينٍ من بلوغ غدِ |
المرء في زلل على أملٍ ومنية الإنسان بالرصدِ |
أيام عمرك كلها عدد ولعل يومك آخر العددِ |
لعل هذا اليوم هو آخر يوم، ولعل هذه اللحظة التي تسمعني الآن آخر لحظة، ولعلك -أيها العاصي المذنب- يختم الله لك على ذنبك وعلى معصيتك.
رمضان شهر التوبة، رمضان شهر الإقبال على الله، كل ليلة يعتق الله فيه قوماً من النار.. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] كان السابقون في قيام ليل وصيام نهار، ويخافون ألا يقبل الله منهم، ومن الناس في هذا الزمن على أفلام ومسلسلات وأغاني وطرب ومجون، وفي النهار نوم، وفي الليل لهوٌ ولعبٌ وعربدةٌ وطرب، هذا حال بعض المسلمين حتى في شهر رمضان، ثم بعدها يرجون رحمة الله، وأي رحمة ترجون؟!
الفضيل بن عياض، عابد الحرمين، كان له ابن مات من القرآن، وهو علي بن الفضيل ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34] قرأ آية فبكى منها حتى مات، أما الفضيل بن عياض فقرأ يوماً قول الله جل وعلا: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31] فتوقف وبكى، وقال: يا رب! إن بلوت أخبارنا افتضحنا. إنا لله وإنا إليه راجعون! الصالحون يقولون هذا، فماذا يقول المذنبون؟! ماذا يقول من أمسى وأصبح عاصياً لله جل وعلا؟!
أقول لك: سل نفسك: هل تنتظر بفارغ الصبر تلك الليالي وهذه الأيام وهذه اللحظات للبكاء من خشية الله، أم تنتظر تلك السهرات والأفلام؟ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36].
وفي نهاية الحديث أسال الله تبارك وتعالى أن يبلغني وإياكم هذا الشهر أيامه ولياليه، وأن يتقبل منا صيامنا وقيامنا، هذا وصلِّ اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر