أما بعــد:
البدار إلى دار الأبرار، ولعل العنوان يدل على عنوان المخيم المبارك إن شاء الله، ألا وهو مخيم: رياض الجنة، وسوف نتجول الليلة إن شاء الله في رياض الجنة، بأفكارنا وشعورنا، يحاول كل رجل منا وهو جالس أن يتخيلها، ومهما تخيلت ومهما تصورت فالجنة أعظم، حتى قال الله جل وعلا: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17] مهما تخيلت وتصورت ففيها: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
عبد الله: اسمع إلى هذه الصفات، وأريد منك أن تشتاق إليها، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه مرة، فقال لهم: (قوموا إلى جنة -فذكر صفة واحدة من صفاتها- قال: عرضها السموات والأرض، أو كعرض السماء والأرض، فقال أحدهم: بخٍ بخٍ، قال: ما حملك على قولك بخٍ بخٍ؟ قال: رجاء أن أكون من أهلها -سمع صفة واحدة- فدخل في المعركة فقاتل حتى قتل).
صفة واحدة، والآن سوف نسرد لكم صفات، ونحاول أن نجمع لكم شتات من أوصاف هذه الجنة، فهل لك أن تشتاق إليها؟
وهل لك أن تبادر وأنت في ليلة هي أول ليلة من ليالي رمضان؟
وبإذن الله جل وعلا في هذه الليلة فتحت أبواب الجنة التي سوف نتكلم عنها، وغُلِّقت أبواب النيران وفي كل ليلة -وهذه أولها- عتقاء من النار، فاحرص يا عبد الله أن تكون هذه الليلة من عتقاء النار، كل ليلة، وإذا أعتقك الله من أول ليلة فأنت الرابح، والله مهما فعلت إلى أن تموت فقد أعتقت من النار، لن تمسك النار.
عبد الله: احرص من أول ليلة، ففي هذه الليلة صفدت بإذن الله الشياطين، مردة الجن، فالأمر ميسر، ولله عتقاء (وينادي منادي: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر) فاسمع يا عبد الله إلى صفاتها، وتخيلها يا عبد الله، واعلم أنك إن لم تدخلها فإنك محروم.
أهل الجنة إذا جاءوا عند الله يوم القيامة، وإذا استقبلوا ربهم عند الله جل وعلا يوم القيامة فجاء العبد المؤمن إلى ربه، فيقول له الله جل وعلا: (عبدي! أتذكر ذنب كذا) تذكر تلك الليلة وذلك الموقف، تذكر عندما كلمت فلانة، تذكر عندما نمت عن الصلاة، تذكر عندما استمعت إلى الأغاني، تذكر لما أكلت الربا، تذكر يا عبدي! ولكنه تاب، ولكنه أناب، ولكنه استغفر فيقول له الله جل وعلا: (سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيقول هذا الرجل: ذنوبي، يقول الله جل وعلا: أغفرها لك اليوم فيعطى الكتاب بيمينه، فيولي للناس يقول: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20]) أي: أيها الناس اقرءوا، انظروا ماذا عملت؟ انظروا إلى الصلاة والقيام والصيام والقرآن، انظروا: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20].
وتخيل المؤمنين، الدفعة الأولى، الزمر الأولى، كلهم عند أبواب الجنة مصطفين لها ثمانية أبواب وليس باباً واحداً، ينتظرون أفضل البشر محمد عليه الصلاة والسلام، يتقدم الناس، والناس ينظرون ويتشوقون ويتلهفون، فيأتي إلى حلقة من حلقات أبواب الجنة، وللجنة حلقات، فيطرق باب الجنة، فيسأله رضوان خازن الجنة من أنت؟ فيقول: أنا محمد، انظر إلى التواضع، انظر إلى الأدب، أنا محمد عليه الصلاة والسلام فيقول الملك: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك. ما يفتح الباب لغيره، وما يؤذن في دخول الجنة إلا بعده عليه الصلاة والسلام (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) أي: أبى دخول الجنة، فإذا بالباب يفتح، وتخيل أنك تنظر إلى هذا المنظر الباب يفتح، والرائحة تخرج، والنور يشع، والناس تدخل زمرة زمرة، وأول هذه الأمة دخولاً أبو بكر، فإذا بهم يدخلون الجنة، وإذا بك ينادى باسمك، أين فلان بن فلان ليدخل من باب الريان، كان يكثر من الصيام، أين فلان يدخل من باب الصلاة كان يكثر من الصلاة، أين فلان ليدخل من باب الجهاد كان مجاهداً في سبيل الله، أين فلان ليدخل من باب الصدقة، ومنهم من ينادى من بابين، ومنهم من ثلاثة أبواب، يختار أي باب يدخل، ومنهم من ينادى من ثمانية أبواب وأبو بكر منهم، أين فلان بن فلان؟ تخيل ينادى باسمك، فإذا بك تدخل، أتعرف كيف يدخلون أهل الجنة؟
يدخلون الزمرة الواحدة كل واحد ماسك بيد الآخر، صاحب العمل في الدنيا وزميله، ومن كان يحضر معه الدروس ويصلي ويصوم معه، يقبض على يديه، فلا يدخل واحد إلا ويدخل الآخر، ولا يدخل أولهم إلا ويدخل آخرهم، باب اتساعه مسيرة أربعين سنة.
هل صبرتم على التلفاز أو اللعب، أو اللهو، لا والله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ [الرعد:24].
النساء في كل مكان، الأغاني بمتناول يده، الخمر، الربا، يستطيع أن يحصل عليه لكنه صبر، وترك كل هذا لله سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ [الرعد:24] تأتيه المصائب تلو المصائب، والآلام والحوادث لكنه صبر وما جزع، ورضي بقدر سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24] ويدخل بعض الناس مع ذريته وآبائه، وزوجاته، تدخل الجنة العائلة كلها، بعضهم مع بعض، تخيل يا عبد الله تدخل مع أبيك وأمك، تدخل مع زوجتك وأولادك، وأهل بيتك كلهم، تدخل معهم دفعة واحدة وزمرة واحدة.
عبد الله: هل يوجد نعيم أفضل من هذا النعيم؟ أول ما تدخل ماذا ترى؟ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الإنسان:20] إنه نعيم وملك كبير.
تريد أن تسير إلى منزلك، أتعرف أين يكون منزلك في الجنة؟
أما منزلك يا عبد الله تعرف مكانه في الجنة كما تعرف بيتك في الدنيا، تهرول إلى بيتك فإذا بخيمة طولها ستون ميلاً عند باب القصر، هذه الخيمة كيف بالقصر يا عبد الله؟!
تخيل الآن: القصر من ذهب وفضة، ملاطها أي: ممسوحة بالمسك يا عبد الله! هذا ظاهره، كيف بباطنه يا عبد الله؟!
نعيم ما تتصوره: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]
عبد الله! تخيل منظر هذه الغرفة، بل تخيل تلك القصور، بعض الناس إذا دخل بيوتاً في الدنيا ينسى الدنيا وما فيها من حسنها وجمالها، كيف بقصر بناه الله جل وعلا؟!
كيف بجنة أنشأها الرحمن جل وعلا؟!
عبد الله: إذا خرجت من قصرك ماذا ترى؟
ترى أشجاراً موزعة في الجنة، وتخيل وتصور، الأشجار ما من شجرة إلا ساقها من ذهب، عليها ثمار، إذا اشتهيت الثمر لا ترفع يديك، وتتعب نفسك بل ينزل لك الثمر حتى تقطفه بيدك وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً [الإنسان:14] ليس في الجنة شجرة إلا ساقها ذهب.
أخي الكريم: في الجنة شجرة طول ظلها مسيرة مائة عام، للراكب السريع، على الجواد السريع مائة سنة، لا يصل إلى طرف الظل، مائة عام كم مرة يقطع الأرض ويدور حول الأرض؟
هذا ظل الشجرة يا عبد الله! كيف بصفتها؟!
كيف بلونها؟!
كيف بشكلها يا عبد الله؟!
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ [الواقعة:27-28] السدر في الدنيا فيه شوك، أما سدر الجنة فهو مخضود قد زيل عنه الشوك، وفي مكان كل شوك ثمرة، تفتق الثمرة عن اثنتين وسبعين لوناً، ما من لون يشبه الآخر.
لا. فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد:15] تصور الآن، نهر يجري من لبن: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15] تخيل هذا النهر يجري من خمر، وأي خمر؟
وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15] وتخيل النهر الرابع: وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً [محمد:15] تخيل النهر من عسل وهو يجري وتشرب منه ما شئت، وتجلس على حافته ما شئت يا عبد الله!
أما العيون في الجنة فإنها تفجر، يقول الله جل وعلا: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً [الإنسان:5-6].
قال تعالى: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:20-21] أي فاكهة يتخيرونها، بل أي لحم يشتهونه، يجلس في مكانه يأتيه ولا يتعب ولا يقوم من مجلسه، بل يطوف عليه الغلمان، بالصحائف، وبالأكواب، وبالأباريق، ماذا تشتهي خمر؟ لبن؟ ماء؟ عسل؟
كل ما تشتهي من شراب، وما تشتهي من طعام، يمشي عليك وأنت تجلس على الأريكة.
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ [الغاشية:13-14] فالسرر مرفوعة حتى قال بعضهم: مرفوعة إلى قدر السماء قال تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54] بطائن هذه الفرش داخلها من إستبرق، ما تكلم الله عن ظاهرها، تركه الله جل وعلا.
واستعد الآن وتخيل صفات نساء الجنة، واعتبر واستمع! واعلم أن ما سوف أذكره لك حق، لا مرية فيه، واعلم أنه مهما وصفنا، فحور الجنة أعظم مما نصف.
تأتيه الحورية من أهل الجنة، فيعانقها فيرى وجهه في صفحة خدها؛ من حسنها، وجمالها، ونعومتها.
يا عبد الله! عليها تاج على رأسها، فيه لؤلؤ واللؤلؤة الواحدة لو كشفها الله؛ لأضاءت ما بين المشرق والمغرب، اللؤلؤة الواحدة يا عبد الله! في بعض الروايات إن صحت: (أن الرجل في الجنة يعانقها أربعين سنة لا يتركها ولا يمل منها) قال تعالى: وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة:22-23] صفة الحورية كاللؤلؤة يا عبد الله! في حسنها وجمالها، لو أن امرأة من أهل الجنة طلعت فقط ونظرت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض، تخيل يا عبد الله! كيف بمن يعانقها؟!
كيف بمن يعاشرها؟!
يعطى الرجل قوة مائة رجل، كم مرة تجامع في الليلة الواحدة، مرة مرتين، مائة مرة لا تتعب يا عبد الله: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً [الواقعة:35] من الذي أنشأهن؟ إنه الرحمن جل وعلا.
نصيفها -خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها، يا من تتكالب على الدنيا! يا من ألهتك الدنيا عن الصلاة وعن الذكر وعن القرآن! يا من تمتع بالدنيا، ونسي أمر الله جل وعلا خمار الحورية على رأسها خير من الدنيا وما فيها يا عبد الله! إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً [الواقعة:35-36] لو تطؤها مائة مرة فإنها بكر: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً [الواقعة:36-37] في سن واحد وفي عام واحد، لا يكبر سنها، ولا تبلى ولا تشيب ولا تنتن، ولا يأتيها الحيض.
لا ترى غيرك: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]. عبد الله لا ترى غيرك، ولا تحب سواك، ولا تعلم سواك قابعة في قصرك، أو في خيمتك، كم مرة تجامعها، بل ليست واحدة يا عبد الله! لك في القصر حور، ولك في الخيام حور، ولك ما تشتهي من الحور العين يا عبد الله! وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة:22-24].
عبد الله: هل فكرت في غيرها؟
قال تعالى: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ [الواقعة:27].
عبد الله: أتعرف من هم أعظم من أصحاب اليمين، وأعلى من أصحاب اليمين؟
قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10] أهل قيام الليل، أهل الصدقة، أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة:11-14].
عبد الله: إذا كانت هذه بعض صفات الجنة، فهلا شمرنا.
يقول: فربطت به فرسي، وصعدت على الفرس لأذهب إلى الجهاد، يقول: فلما ذهبنا، فإذا بصبي يناديني، فقال لي: يا شيخ! قلت: ماذا تريد؟ قال: يا شيخ! قلت: ماذا تريد؟ قال: احملني معك للجهاد في سبيل الله، قلت: يا بني أنت صغير والله قد عذرك، قال: أقسمت عليك لتحملني معك للجهاد في سبيل الله، يقول: فقلت له: بشرط واحد، قال: وما هو الشرط، قال: إنك إذا مت ولقيت الله جل وعلا أن تشفع لي عند الله؛ لأن الشهيد يشفع في سبعين من الناس يا عبد الله! يقول: فقال لي: نعم، فحملته على فرسي، ردفته، يقول: ودخلنا في الجهاد، وبدأت المعركة، وحمي الوطيس، وفي أثناء المعركة ناداني ذلك الغلام الصبي، فقال لي: يا شيخ! فقلت: ماذا تريد؟ فقال: أعطني سهماً، قال: اترك السهم لأهله، قال: أعطني سهماً، يقول: فأعطيته ثلاثة أسهم، يقول: فوضع السهم في النبل، ثم قال: باسم الله، فرمى السهم فأصاب به نصرانياً فقتله، وأخذ الآخر فقال: باسم الله، يقول: فرمى به الآخر فقتله، يقول: وأخذ الثالث فقال: باسم الله، فرمى الثالث وقتله، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].
يقول: وبعد الثلاثة أصيب بسهم في صدغه، فسقط من على الفرس، فنزلت إليه أسعفه، فنظرت إليه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة يحتضر، فقلت له: يا غلام يا غلام لا تنسى العهد الذي بيني وبينك أن تشفع لي عند الله، فقال: يا شيخ! خذ هذه وأعطها لأمي، يقول: فأخذت خرقة، فقلت له: ومن أمك يا بني؟ فقال ذلك الغلام: يا شيخ! أمي صاحبة الظفيرتين، أمي صاحبة الظفيرتين، أمي صاحبت الظفيرتين، وفارق الدنيا.
يقول: فرجعنا من المعركة، وطرقت الباب، فخرجت لي بنت، فقلت لها: أين أمك؟ فقالت هذه البنت: بشرنا يا شيخ! عن أخي، فقال: أخوك قد استشهد في المعركة في سبيل الله، فقالت البنت: الحمد لله، الحمد لله، مات أبي فاحتسبناه عند الله، ثم مات أخي الكبير فاحتسبناه عند الله، الآن يموت أخي الصغير فنحتسبه عند الله، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الله أكبر كيف كانوا يتسابقون إلى الجنة سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
في ليلة عرسه يجامع الزوجة، فإذا به يسمع صيحة الجهاد، حي على الجهاد، حي على الجهاد، يا خيل الله اركبي، يا خيل الله اركبي، فينتفض من فراشه، ثم يقوم فيركب على فرسه، ثم يذهب إلى الجهاد في سبيل الله فيقاتل حتى يموت ويستشهد، يقول عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر لقد رأيته بين السماء والأرض تغسله الملائكة).
عبد الله: هلا كنا كأمثال هؤلاء، الواحد منهم يشم رائحة الجنة وهو على الدنيا.
لقد ذهب الناس، ولقد سبق المفردون، ولقد وصل بعض الناس وهو على الدنيا يمشي لقد وصل إلى الجنة. (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) أتعرف ما صفة هذا الرجل الذي مشى على الدنيا وكتب من أهل الجنة؟! (إذا نام فإنه لا يحمل في قلبه على أحد من المسلمين غشاً، أو حسداً، أو غلاً) أهل الجنة: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] تعرف كيف دخل الجنة؟!
سلَّم صدره على المسلمين، وأحسن الظن بإخوانه، وأحب في الله جل وعلا، ولم يبغض إلا لله جل وعلا، لا لحظوظ نفسه ولا لهواه.
عبد الله: أهل الجنة دخلوا الجنة بصلاة آخر الليل، وبصيام أول النهار يا عبد الله!
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم |
وحي على روضاتها وخيامها وحي على عيش بها ليس يسأم |
فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قريب ستندم |
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم |
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك علا فيه المهيمن يختم |
عبد الله: ونحن في هذه الليلة المباركة، ما يدريك لعلك في هذه الليلة يكتبك الله من أهل الجنة، وماذا تريد من الدنيا إذا كتبك الله من أهل الجنة؟!
عبد الله: جاهد نفسك ألا يمر رمضان إلا وقد غفر الله ذنبك (رغم أنفه من أدرك رمضان ولم يغفر له).
عبد الله: جاهد نفسك ألا تمر هذه الليلة، إلا وقد أعتقك الله من النار.
عبد الله: أتعرف ما هو السبيل، السبيل دمعتان آخر الليل، أو في سجود، وأنت رافع يديك إلى الله، تذكر ذنوبك السابقة، ثم ترجو رحمة الله، ثم تدمع العين، ثم يتوب الله عليك.
عبد الله: لا تضمن أنك ستخرج من هذه الخيمة، ولا تتيقن أنك سترى الشمس تطلع، ولا تضمن نفسك أنك إذا نمت أن تصحو من نومك.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا |
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا |
وفي كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا |
يا نفس ما لي وللأموال أتركها خلفي وأخرج من دنياي عرياناً |
أبعد خمسين قد قضيتها لعباً قد آن أن تقصري قد آن قد آنا |
ما بالنا نتعامى عن مصائرنا ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا |
نزداد حرصاً وهذا الدهر يزجرنا كأن زاجرنا بالحرص أغرانا |
أين الملوك وأبناء الملوك ومن كانت تخر له الأذقان إذعانا |
صاحت عليهم حادثات الدهر فانقلبوا مستبدلين من الأوطان أوطانا |
خلو مدائن كان العز مفرشها واستفرشوا حفراً غبراً وقيعانا |
يا راكضاً في ميادين الهوى مرحاً ورافلاً في ثياب الغي نشوانا |
مضى الزمان وولى العمر في لعب يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا |
عبد الله: البدار البدار، السباق السباق، واعلم يا عبد الله أن من الناس من كتب الله له الجنة وهو يمشي على الأرض، فكن من هؤلاء النفر.
نسأل الله عز وجل أن يعتقنا وإياكم في هذه الليلة من النار، وأن يكتبنا في دار الأبرار، وصلى الله وسلم على سيد الأبرار وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر