أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، فبتقوى الله عز وجل تجتمع الكلمة، وتتم النعمة، وتتجلى الحكمة.
أيها المسلمون! إن في دنيا الناس ذكريات لا يُمل حديثها، ولا تُسأم سيرتها، بل قد تحلو أو تعلو إذا أعيدت وتكررت، كما يحلو مذاق الشهد وهو يكرر، ومن الذكريات التي لا يُمل حديثها ولا تُسأم سيرتها: حياة محمد صلى الله عليه وسلم، إمام البشرية، وسيد ولد آدم، فهي من الذكريات الغوالي التي تتجدد آثارها وعظاتها كلما سلك المرء سبيله إلى الاعتبار والادكار.
والعبد المؤمن إذا غشي معالم سيرته صلى الله عليه وسلم فهو كعابد يغشى في مصلاه، ومن حسن حظ المؤمن أنه ما قلب سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يوماً فأخطأ دمع العين مجراه.
وفي أيام محمد الجليلة النبيلة أيام خوالد، ما تزال تتطوى على الأيام وتتألق في غرة الزمان، ولعل من أصدعها وأروعها يوم الهجرة الذي تهب علينا نسمات ذكراه في كل عام من أعوام الزمن، ومن شواهد عظم حادث الهجرة أنه يزداد بهاءً وسناءً كلما تناوله العرض والبحث، كالذهب الإبريز كلما عرضته على النار لتمحصه؛ ازداد إشراقاً وصفاءً.
وهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت فاتحة الأمل، وبارقة النصر، وطريقة العودة له ولأصحابه إلى مكة فاتحين ظافرين، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85] أي: إلى مكة .
عباد الله: إننا هنا نعرض لمحات من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، في الوقت الذي يشهد فيه المسلمون نكبات وويلات تعصر قلوبهم، وتمزق صدورهم، وأمتهم وعقيدتهم وحرماتهم ومقدساتهم؛ تستصرخ ولا مجيب، وتطالب المسلمين بتضحيات وفداء وبذل.
والهجرة النبوية تعطينا في هذا المجال قدوة وأسوة، ففيها تتجلى دروس ودروس من التضحية والفداء والبذل، فهذا رأس الأمة وإمام الملة صلوات الله وسلامه عليه يتحمل العبء الثقيل في سبيل الدعوة إلى الله، وإعلاء كلمته، ويشتاط المجرمون من أعدائه في مقاومته، والتطاول عليه بالسخرية والاستهزاء، ثم بالكذب والافتراء، ثم بحيلة الوعد والإغراء، ثم بتسليط الغوغاء والسفهاء، ثم بالتآمر الدنيء ينتهي إلى الإجماع على اغتياله بلا ارعواء قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
وأمر علياً أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صير الباب ويرصدونه ويأتمرون أيهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من البطحاء، فجعل يذروه على رءوسهم وهم لا يرونه، وهو يتلو: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9].
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك بخيمة أم معبد فقالا عندها، ورأت من آيات نبوته في الشاة وحلبها لبناً كثيراً في سنة مجدبة ما بهر العقول صلوات الله وسلامه عليه.
بذلك كله -أيها المسلمون- يتضح موقف هو من أعظم المواقف التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد العدوان؛ فغير به مجرى الأحداث، وضيع على خصومه فرصة الانتقام، وأحبط مسعاهم، وبلبل أفكارهم، وأسفر عن مبلغ تأييد الله له وحمايته من كيد الكائدين وطيش الظلمة الجاحدين.
ولقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر تقوم لغرض أو لعرض إلا من رحم الله، وتنهض على رياء أو نفاق، والأمة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إلى عصبة أهل الخير، تتصادق في الله، وتتناصر على تأييد الحق وتتعاون على البر والتقوى قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
نصره بأضعف جنده قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] نصره بنسيج العنكبوت وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41].
والشباب المسلمون إذا رضعوا رحيق التربية الدينية الكريمة؛ كان لهم في مواطن البطولة والمجد أخبار وذكريات، فـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يتردد في أن ينام على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أن سيوف المشركين تستعد للانقضاض على النائم فوق هذا الفراش، ويتغطى ببردته في الليلة التي اجتمع فيها شياطين الكفر والغدر ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويا لها من نومة تحيطها المخاوف والأهوال، ولكن فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].
فاتقوا الله أيها المسلمون: وقفوا وقفة المهاجر بنفسه وإن لم يهاجر بحسه، فلنهاجر إلى الله بقلوبنا وعقولنا وأعمالنا، ولنلجأ إليه ليكون ناصرنا ومؤيدنا قال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فيا أيها الناس: لقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي الهجري منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، حيث جمع الناس إبان خلافته فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ؟ فقال بعضهم: يبدأ من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: يبدأ من بعثته، وقال بعضهم: يبدأ من هجرته، وقال آخرون: يبدأ من وفاته. ولكنه رضي الله عنه رجح أن يبدأ من الهجرة؛ لأن الله فرق بها بين الحق والباطل، فجعل مبتدأ تاريخ السنين من الهجرة، ثم تشاوروا من أي شهر يبدءون السنة فقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة ، واتفق رأي عمر وعثمان وعلي رضي اللهم تعالى عنهم على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر الله الحرام ويلي ذي الحجة الذي به تمام أركان الإسلام وهو الحج.
فعلينا جميعاً -أيها المسلمون- أن نأخذ بالتاريخ الهجري؛ فأعداء الله حريصون على أن يمسخوا الأمة المسلمة في كل شئونها حتى في تسمية الشهور والأعوام، وإن استبدال تاريخ الكفار بالتاريخ الهجري عدول عن الطريق السوي والمسلك القويم وتشبه بالكفرة والمشركين، والمشاكلة في الأمور الظاهرة؛ توجب مشابهة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخطير، والمشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن؛ فتكون محرمة كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بجودك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم!
اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروا نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر