القلم في المعركة سلاح ذو حدين، والمسلمون في حاجة ماسة إلى القلم الصادق الأمين الملهم الذي ينشر الحق، ويحيي السنة، ويدل الناس إلى ما فيه خير دينهم ودنياهم، وللتأكيد على أهمية صاحب القلم فقد وضع أهل العلم شروطاً يجب أن تتوفر فيهم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير مرسول وأشرف متبوع، بالحق قضى، وللحق دعا، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن سعادة المؤمن ورفعته تبدو مُجَلاَّة في تقواه لربه، إذ بالتقوى يُذكَر، وبالتقوى يُنصَر، يطيع فيُشكَر، ويعصي فيُغفَر، فليتق الله امرؤٌ حيثما كان، وليُتْبِع السيئة الحسنة تمحها، وليخالق الناس بخلق حسن ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].. وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
أيها الناس! قاعدةٌ من قواعد التفسير مقررة، كشف معناها علماء التأويل وأئمته، وعدوها معنى من معاني التشريف والتكريم، ما جاءت أفرادها في القرآن إلا وفُهِم منها علو المكانة، ورفعة المنة بها، ونعمة الإيجاز التي يمن الله بها على عباده من مخلوقاته في الأرض وفي السماء، تلكم القاعدة -عباد الله- هي: أن لله -جل وعلا- أن يُقْسِمَ بما شاء من مخلوقاته في سمائه وأرضه، كالليل، والقمر، والشمس، والنجم، والطارق، والفجر، والعصر.. وغيرها من المخلوقات.
وهذا القسم من الله أمارة على المكانة، والاختصاص من بين سائر المخلوقات، وإذا ما أرسلنا الطرف رامقاً بين دفتي كتاب الله جل وعلا؛ فإننا -ولا جرم- سنجد أن هناك قسَماً من بين تلك الأقسام الجليلة، قسَماً أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، نزل به الروح الأمين، قسماً أنزله الله تسلية وتثبيتاً لخاتم الرسالات والمرسلين، قسَماً من الباري -جل شأنه- في مقابل تكذيبٍ وعنادٍ يصرخ به كفار قريش وصناديدهم، إنه قول الباري جل وعلا:
بسم الله الرحمن الرحيم نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:1-2] الإقسام من الله لا يُتبَع إلا بشريف ما أبدع، وكريم ما صنع، لقد أقسم الله بالكتاب وآلته وهو القلم، الذي هو إحدى آياته وأول مخلوقاته.
والقلم -عباد الله- اسم جنس لكل ما يُكتب به، وهو أول مخلوقات الله تعالى، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما خلق الله القلم ) الحديث.
الكتابة بالقلم للمرء شرفٌ ورفعةٌ، وبضاعةٌ رابحةٌ، وأثرٌ غالٍ، ومأثرٌ علِيٌّ، هي للمتعلم بمنزلة السلطان، وإنسان عينه بل عين إنسانه، كيف لا! وأعظم شاهد لجليل قدرها، وأقوى دليل على رفعة شأنها؛ أن الله -سبحانه- نسب تعليمها إلى نفسه، واعتدَّها من وافر كرمه وجزيل أفضاله! بسم الله الرحمن الرحيم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق:1-4].
بالإضافة إلى ما يؤكد أن هذه الآية مفتَتَحُ الوحي، وأول التنزيل على أشرف نبي وأكرم مرسل، وفي ذلك من الاهتمام بشأنها ورفعة محلِّها ما لا خفاء فيه، بل هي ما وصف الله به حفظته بقوله: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11] يقول ابن القيم رحمه الله: "التعليم بالقلم من أعظم نِعَمِهِ على عباده، إذ به تخلد العلوم، وتثبت الحقوق، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض، واندرست السنن، وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف مذهب السلف ، وكان يعظُم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم لِمَا يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم... إلى أن قال رحمه الله: فمن ذا الذي أنطق لسانك، وحرَّك بنانك؟ ومن الذي دعَّم البنان بالكف، ودعَّم الكف، بالساعد؟ فكم من الله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم". انتهى كلامه رحمه الله.
أيها الناس! دعا إلى القلم والخط به نبيٌّ أميٌّ، لم تكن أُميته يوماً ما قدحاً في رسالته أو مسلباً في نبوته!كلا. بل هي مدح ومنقبة؛ لأن من ورائها حكمةٌ بالغة، هي رد وحجة على الملحدين المعاندين، حيث نسبوه إلى الاقتباس من كتب المتقدمين كما أخبر الله بقوله: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5] وأكد ذلك بقوله: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48] فكان ذلك من أقوى الحجج على تكذيبهم، وحسم أسباب الشك في نبوته صلى الله عليه وسلم.
ثم ازدادت انتشاراً في عهد التابعين على قلة الإمكانات وعسر الحال.
يقول سعيد بن جبير رحمه الله: [[ كنت أجلس إلى
وقال عبد الله بن حنش : [[ رأيتهم عند البراء يكتبون بأطرف القصب على أكفهم ]].
وذكر الإمام الدارمي رحمه الله: أن أباناً رحمه الله كان يكتب عند أنس في سبورة.
قال سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه: [[من لم يكتب فيمينه يُسرى ]].
وقال معن بن زائدة : إذا لم تكتب اليد فهي رجل.
هذه النصوص وأمثالها لا أبعاد لها إلا التحضيض والترغيب في الكتابة وتعلمها ليس إلا.
إنه في الحقيقة لا يزيد أهلَ العلم إلا بياناً وتبياناً، وعزماً على قول الحق، وتبيين الدين للخلق، والتحذير مما يغضب الله ورسوله مع سكينة وأريَحْيَّة، حاديهم في ذلك قوله جل وعلا: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف:5].
عباد الله! صدق القلم وفصاحته من أحسن ما يتلبس به الكاتب ويتزر به العاقل، والاعتناء بأدب القلم في المعنى هو ضرورة كما الأمر في المبنى، وهو بذلك صاحبٌ في الغربة، ومؤنس في القلة، وزينٌ في المحافل وأشياع الناس، ناهيكم بعد ذلك عن دلالته على العقل والمروءة ورباطة الجأش، والتبرِّي من ضيق العطن، وعشق رأي الذات فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17].
ثَمَّةَ ولا شك أن من غرس فتيلاً يوشك أن يأكل رطبها، وما يستوي عند أولي النهى وذوي الحجا قلمان: أحدهما ثرثار متفيهق، يطب زكاماً فيحدث جذاماً، والآخر: يكتب على استحياءٍ محمود، وغيرةٍ نابتة من حب الله ورسوله، وإذا تعارض القلمان فإن الخَرَس خيرٌ من البيان بالكذب، كما أن الحصور خير من العاهر.
من عزم الكتابة -عباد الله- فلا يتخذها للمماراة عُدَّة، ولا للمجاراة ملجئاً، ولا يأمننَّ الزلة والعرضة للخطأ، وكما قيل: "من ألَّف فقد استُهْدِف!" وفي القديم: "مَن كتب فكأنما قدَّم للناس عقله على طبق". وإن تعجبوا -عباد الله- فعجبٌ! ما يقول المزني رحمه الله عن شيخه الإمام الشافعي الفقيه النحوي المحدث: قرأتُ كتاب الرسالة للشافعي عليه ثمانين مرة، نجد في كل مرة ما لا نجده من قبل. يعني بذلك: مما يستوجب إعادة النظر.
قد يُوفَّق الكاتب في كتابته فيكون لها شأن يظهر عليها منه الجِدَّة وإجادة المطلع وحسن المقطع، مُدعَّمة بالنصوص الشرعية، والأقوال المرعية، فتبهر القلوب، وتأخذ بالألباب حتى يظن القارئ أو السامع أنها غير ما في أيدي الناس وهي مما في أيدي الناس، حيث ترى براعة القلم، وشجاعته، ولطف ذوقه، وشهامة خاطرة، وليس كل خاطر براقاً، وفي الحديث الحسن: {إن من عباد الله من إذا قرأ القرآن رأيت أنه يخاف الله } ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4].
لقد بُهِرت الأمة بكُتَّابٍ مسلمين في كافة الميادين، شعراء مُلهمين من شعراء الزهد والحكمة كـأبي العتاهية وأئمة المهديين، أشاعوا العلم ونصروه، ونصروا السنة بأقلامهم، كالأئمة الأربعة، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وابن القيم ، وابن كثير ، ومحمد بن عبد الوهاب , وغيرهم كثير وكثير من مجددي ما اندرس من معالم الإسلام.
وإن من ذلك عُرِي بعض الأقلام عن الأدب، فلم تُرعَ حرمةً، ولم تحسن رقماً، ولم تزن عاطفة في نقاش؛ فثارت حفائظ، وبُعِثَت أضغان، وكُشِفَت أستار، واشتد لغطٌ رقماً بقلم في قرطاس ملموس بالأيدي! ناهيكم عن الكذب والافتراء والتصريح بالعورات والمنكرات، والجرأة على الله ورسوله، مع ما يصاحب ذلك من قلم مُتعثر، ومقالات لها في كل واد شعبة يعثرون من خلالها عثرات متكررة، دون التفات إلى أسباب تلك العثرات، حتى يزداد خطرها، ويستفحل شرها، ومن ثمَّ ينوء أصحابها بأحمال ندم لا يُقِلُّها ظهر، وتنكيس رءوس يُمْسون بها بعيدي الرفع، ودموع حزن على قبح تقصير ما لمددها انقطاع، وأقسى الكل أن سيقال لمثل أولئك: بماذا! ومن أجل ماذا! ولأي شيء! يا من خططت ببنانك ما يوبق انتماءك للحق وصدق جنانك، ثم توزن بالعدل والميزانُ غالب.
فيا لِلَّه العجب! كيف وُهبت لهؤلاء عقول، وأسيلت أقلامٌ، فما قدروا الله حق قدره بها، ولم يستحضروا ثمرة العقل الموهوب، والرقم المكتوب، الذي باينوا به البهائم؛ حتى تشمخوا بفعلهم وغفلوا عمن وهب، وهو الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
ولعمر الله! أي شيء لهم في الحبر والقلم ليس ملكاً لهم، ويا لَلَّه كيف لا تُوَجَّه الموضوعية في الطرح على شِرْعةِ ومنهاجِ مَن بعث لصاحب القلم السيَّال في ظلام طبعه نورَ القبس؟ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
قد قلت ما قلت إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً.
أما بعد:
فإن المسلمين بعامة في حاجة ماسة إلى القلم الصادق.. إلى القلم الأمين.. إلى القلم الملهم، الذي ينشر الحق ويُحيي السنة، ويدل الناس إلى ما فيه خير دينهم ودنياهم وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ [البقرة:282].
إن القلم أمانة، وحَمَلَته كُثْر من بني الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] وما كل مَن حمل الأمانة عرف قدرها، ولأجل ذا لَفَتَ عُلماء الإسلام الانتباه إلى صفاتٍ وضوابط لا يسع الأمةَ إهمالُها، ولا ينبغي أن يقصر فيها كاتب أو ذو قلم، أو من جهة أخرى تلفت الفطن من قبل القراء وأمثالهم عمن يتلقون ما ينفع، ولمن يقرءون ما يفيد، وممن يأخذون، ولمن يذرون، فتكلموا عن كون صاحب القلم، مكلَّفاً بليغاً، قوي العزم، كفواً، عالي الهمة... ونحو ذلك، إلا أن أجل التأكيد منصب في كثير من كلام أهل العلم على أمور ثلاثة هي من الأهمية بمكان:
وهل سيظلون في دائرة التلقي ممن في صدق انتمائهم للدين شكٌ وريبة؟ أم أننا سنظل أبداً نتذوق مرارةٍ نتجرعها ولا نكاد نسيغها غير مرة من جراء ثقة عمياء كإعماء البُلْه، أو على حد قول بعضهم: اعصب عينيك واتبعني!
{بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
ألا إن الأمر أشد، والعلة أدهى وأمر، ولا يضر المخطئ إلا نفسه، والمكر السيئ لا يحيق إلا بأهله وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين.
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سُقيا رحمة لا سُقيا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم لتحيي به البلاد، وتسقي به العباد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم ما سألناك من خيرٍ فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر