والبعض اليوم يظن أنه في عصر العلم والتكنولوجيا لا يمكن أن تعبد الأصنام والأوثان، وهذا مخالف للواقع، حيث إن في بلاد الإسلام من يعبد الحجر، ومن يعبد القبور وأصحابها.
فلا بد أن نقتفي أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في إقامة التوحيد ومحاربة الشرك، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعــد:
لقد أغراهم بذلك غيبة إنسانيتهم، وإفلاس عقولهم بعد طيشها، حتى انتحرت فطرتهم وبقوا هواءً في جثمان إنس، يقول حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما متحدثاً عن هذه الحقبة من الزمن: [[صارت الأوثان التي في قوم نوحٍ في العرب بعد، أما ودّ فكانت لكلَّبٍ بـدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيفٍ بالجرف عند سبأ ، وأما يعوق فكانت لـهمدان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت ]] رواه البخاري .
عباد الله: لقد كانت العرب قبل هذا الأمر على ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، فما فتئ الزمان يدور حتى قل العلم وهلك العلماء، لتحل الأصنام بين العرب من جديد، وتتبدل ملة إبراهيم عليه السلام وتتنسخ، وقد كان الذي تولى كبر هذه الشقوة والمعرة أبو خزاعة عمرو بن لحي ، فهو الذي سيب السوائب، وعبّد الأصنام: {وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف يجر أمعاءه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب، وبدل دين إبراهيم عليه السلام } رواه مسلم في صحيحه ، يقول ابن كثير رحمه الله: كان عمرو بن لحي أول من غير دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز ، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها.
أيها المسلمون: إنما خلق الله الثقلين الجن والإنس ليعبد وحده في الأرض، وأرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بالشريعة الغراء محاطة بقواعد قررها الشارع الحكيم متمثلةً في ضرورات خمس، أجمعت الأنبياء والرسل قاطبةً على حفظها ورعايتها، وهي: الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل، فكل مفسدةٍ يخشى أن تؤتى من قبل ضرورة من هذه الضرورات فإنه يجب درؤها، ودفعها أولى من رفعها، وكان على المتسبب فيها من الإثم والوزر الذي يتجدد عليه انتشارها، ويتوالى تراكمه في صحيفة أعماله إبان حياته وبعد مماته، كمثل ما علا عمرو بن لحي حينما أدخل الأصنام وبدل دين إبراهيم، وعلى رأس هذه الضرورات الخمس ضرورة الدين والعقيدة وتوحيد الله.
يقول القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: فيها دليل على كسر نصب المشركين، وجميع الأوثان إذا غلب عليها.
يقول ابن المنذر رحمه الله: وفي معنى الأصنام الصور المتخذة من الدر والخشب وشبهها.
عباد الله: لقد حطم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصنام حول الكعبة وبعض الصحابة كان يردد:
يا عزى! كفرانك لا غفرانك إني رأيت الله قد أهانك |
ويبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه إلى الأصنام التي كانت حول مكة ، ونادى مناديه بـمكة قائلاً: [[من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره ]] فيبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى ليهدمها فهدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {هل رأيت شيئاً؟ قال: لا. قال: فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها، فرجع
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى سواع وهو صنم لهذيل فاعترضه السادن فقال: لا تستطيع أن تقتله، فإنك ستمنع منه، فدنا منه رضي الله عنه فكسره فأسلم السادن بعد ذلك.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن زيد إلى مناةٍ فهدمها، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم المسير إلى الطائف بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين ليهدمه فهدمه، وجعل يحشي النار في وجهه ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفين! لست من عبادكا ميلادنا أقدم من ميلادكا |
إني حششت النار في فؤادكا |
ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى الفلس؛ وهو صنم لطيء، فهدمه هو ومن معه.
وكما بعث جرير بن عبد الله البجلي في سرية لكسر صنم ذي الخلصة بـاليمن .
بهذا كله -عباد الله- يجدد رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة أبيه إبراهيم وإخوانه الأنبياء، فلقد قال إبراهيم سائلاً ربه: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم:35] وقال لقومه: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57].
ويجدد النبي صلى الله عليه وسلم فعل موسى مع السامري حين قال له: وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً [طه:97].
أيها المسلمون: لقد كانت مواقف النبي صلى الله عليه وسلم من الأصنام والتماثيل بارزةً للعيان قولاً وفعلاً، بل إنه لم يقتصر كسره للأصنام على ما عبد من دون الله، أو على ما عظم كتعظيم الله فحسب، بل تعداه إلى التماثيل التي تتخذ في البيوت ونحوها، على هيئة الاقتناء والزينة ولو لم تعبد، فقد جاء عند أبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه على باب البيت تماثيل .... -الحديث وفيه:- أن جبريل أمره برءوس التماثيل أن تقطع فتصير كهيئة الشجر }.
ومعلوم -عباد الله- أنه لا يقول عاقل ألبتة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اتخذ هذا التمثال للعبادة أو للتعظيم، وإنما كان لمجرد الاقتناء، كيف لا، وقد سأله روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي رضي الله عنه: {ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً ألا سويته } والمقرر عند أهل العلم أن كلمة تمثال هنا نكرة في سياق النهي، فتعم كل تمثالٍ أيّن كان نوعه؛ سواء كان للعبادة أو لمجرد الاقتناء والزينة.
وذكر ابن إسحاق في مغازيه عن أبي العالية قال: [[لما فتحنا تستر وجدنا في بيت الهرمزان سريراً عليه رجلٌ ميت عند رأسه مصحفٌ له، فأخذناه فحملناه إلى عمر رضي الله عنه ... إلى أن قال: فماذا صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقةً، فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه، فقال رجل: وما يرجون منه؟ قال: كان يقال: إن السماء إذا حبست عنهم برزوا سريره فيمطرون ]] يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذه القصة: ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم من تعمية قبره لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده، أو التبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر : أن ابن سعد روى بسندٍ صحيح: [[أن عمر رضي الله عنه بلغه أن قوماً يأتون شجرة بيعة الرضوان فيصلون عندها، فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقطعت ]].
هكذا كانت مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حماية جناب التوحيد، وسد الذرائع المفضية إلى الشرك بالله؛ لأن البدع إذا حدثت، وصارت صارفةً عن مقتضى القرآن والسنة، ولفقت لها شبه، وركب لها كلامٌ مؤلف، صارت تلك البدع في حكم الواقع من المسلمات التي لا يمكن درؤها إلا بعد نأي وشدائد، ويدل بذلك ما نقله الحافظ ابن حجر عن الفاكهي وغيره عن عبيد الله قال: أول ما حدثت الأصنام على عهد نوح، وكانت الأبناء تبر الآباء، فمات رجلٌ منهم فجزع ولده عليه، فجعل لا يصبر عنه، فاتخذ مثالاً على صورته، فكلما اشتاق له نظر إليه، ثم مات ففعل به كما فعل، ثم تتابعوا على ذلك، فمات الآباء فقال الأبناء: ما اتخذ هذه آبائنا إلا أنها كانت آلهتهم فعبدوها.
فالجواب: نعم. ولا عجب من ذلك إذا تنسخ العلم، وضعف الدين في النفوس، ولا أدل على ذلك من وجود معبوداتٍ في هذا العصر منها ما هو على هيئة نصب، ومنها ما هو على هيئة حيوانٍ أعجم، وليس ذلك بخافٍ على كل ذي لبٍ ونظر، ثم إن الجاهليين الأولين كانت لهم عقول مثل عقولنا، وأجسادٌ كأجسادنا، ولهم لسانٌ فصيحٌ وسياداتٌ بين العرب، وجميعهم يقرون أن الخالق والرازق والمدبر هو الله وحده، ومع ذلك عبدوا الأصنام وعظموها، وإلا لما دعا إبراهيم ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، ولتأكيد هذا القول -عباد الله- فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد خاف من دبيب هذه اللوثة على أمته، بل لقد بين أن هذه اللوثة ستطيح ببعض الناس في آخر الزمان، فقد روى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان ).
وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوسٍ على ذي الخلصة ) وذو الخلصة؛ صنم معروف كسره جرير بن عبد الله البجلي لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فدل على أن الأمر سيعود لمثل ما كان.
إذاً: هي الأيام يداولها الله بين الناس، فَمِنْ موحدٍ فيها ومِنْ مشرك، ومِنْ خائفٍ من مكر الله فيها ومِنْ آمن: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99] وإلا فما سِّر تحذير النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أسس دولة التوحيد، ومحا الشرك في عصره، حيث يقول وهو يعالج سكرات الموت في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ثم خشي من تسلل هذا الداء بعد وفاته فقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ) رواه مالك .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم أن إبراهيم التيمي قال في قوله تعالى عن إبراهيم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم:35] قال: [[ ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم عليه السلام ]].
فلا يأمن الوقوع في لوثة الأصنام والتماثيل إلا من هو جاهلٌ بها وبما يُخلِّص منها من العلم بالله وبما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم من التوحيد الخالص والنهي عن الشرك به.
يقول ابن القيم رحمه الله عن دور الشيطان في هذا الميدان: وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور بالبناء والعكوف عليها، ثم ينقلهم منه إلى دعائهم وعبادتهم، واتخاذهم أوثاناً تعلق عليهم القناديل والستور، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، فيغضب المشركون، وتشمئز قلوبهم كما قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45] وسرى ذلك في نفوس كثيرٍ من الجهال والطغام، وكثيرٍ ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم.
ثم لتعلموا -عباد الله- أن الصنم قد يطلق على الوثن كما قرر ذلك بعض أهل العلم، والوثن: هو كل ما عبد من دون الله على أي وجه كان، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30].
وقد قصرت مفاهيم بعض الناس معنى عبادة غير الله على مجرد عبادة الحجر أو الصنم؛ وهذا من فرط جهلهم بحقيقة هذه المسألة، إذ ليس بلازمٍ أن يكون الشرك بالله محصوراً عند الصنم والركوع والسجود له، بل لقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفهم القاصر، وذلك: حينما سمع عدي بن حاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قول الله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] قال عدي : (إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم ) رواه أحمد والترمذي وحسنه.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونعوذ بك اللهم أن نشرك بك شيئاً ونحن نعلم، ونستغفرك مما لا نعلم إنك كنت غفاراً.
أما بعــد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن لله الدين الخالص، وأن على كل مسلمٍ ومسلمة تطهير النفوس من الدواخل والشواغل الصارفة عن أن يعبد الله وحده في الأرض، كما أن علينا جميعاً الامتثال لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتقديمهما على أنفسنا أو الوالدين والأقربين، وليحرص الناس جميعاً على تطهير مجتمعاتهم من رجس الأصنام والتماثيل قدر الطاقة -لاسيما مما يتكاثر انتشاره في البيوت من باب الزينة والاقتناء- لأن الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه تمثالٌ أو صورة، وقد كان الفاروق رضي الله عنه إذا دعي إلى وليمة سأل الداعي إن كان في بيته شيءٌ من التماثيل أو الصور، فإن قال: لا. أجاب دعوته.
ألا فإن درء المفاسد وسد الذرائع المفضية إلى الشرع لأمر جلل ينبغي ألا يغفل عنه المسلمون بعامة، فما قطع عمر لشجرة الرضوان إلا من هذا الباب، ثم إن اتخاذ التماثيل والأصنام أو تعظيمها، وتعظيم الأضرحة لهو أمرٌ حادثٌ في الإسلام، وإحداثه لم يكن متصلاً بأهل العلم والتقوى، وإنما هو من إدخالات ذوي الأهواء والجهالات، وذوي السلطة والغلبة، إذ في القرآن الكريم إشارة إلى مثل هذا بقول الله تعالى عن أصحاب الكهف: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [الكهف:21] لقد استفحل هذا الأمر في هذه العصور المتأخرة حتى وقع بعضهم في شرك الربوبية والألوهية، فاعتقدوا في بعض أهل القبور، وصوروا لهم الأصنام والتماثيل، وزعموا أنهم يعلمون الغيب، ويجيبون من توجه إليهم، وأن منهم من له القدرة على تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، حتى صارت كالأنصاب التي يتخذها مشركو العرب، فأقسموا بها واستشفعوا واستنصروا ولاذوا، بل سيبوا لها السوائب، وساقوا إليها القرابين، بل ولربما جعلوها نصباً تذكارية لعظيمٍ، وجعلوا لها من الحرمة والعظمة وعقوبة الاعتداء عليه ما لا يجعل لمن اعتدى على دين الله، أو سب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد تحدث ابن القيم رحمه الله معلقاً على غزوة النبي صلى الله عليه وسلم للطائف ، وهدمه صنم اللات فقال: وفي ذلك من الفوائد: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، وكذا حكم الأضرحة والقبور التي اتخذت أوثاناً تعبد من دون الله، وكثيرٌ منها بمنزلة اللات والعزى ومنات، أو أعظم شركاً عندها وبها، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس؛ لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعةً والبدعة سنةً، واشتدت غربة الإسلام، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين، واحرصوا على إقامة توحيد الله في الأرض تفلحوا، ويتحقق لكم النصر والتمكين، وتجعل لكم العاقبة في الأولى والآخرة.
ألا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين.
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا؛ اللهم لتحيي به البلاد، وتسقي به العباد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر