وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله رحمةً للعالمين، ومنِّة للإنس والجن، براً حريصاً بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوه واعبدوه، وراقبوه في خلواتكم وجلواتكم وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
أيها الناس! ما عُرِفَ على هذه البسيطة -ولن يعرف- مظلوم من البشر تواطأ الناس على ظلمه، وما فتئوا يصفونه بأحدِّ ما وضعوا من ألفاظ مسفهة، في أعقاب نبوات أعقب الشيطان ثمارها، على بقاءٍ في لبه، ونور في دعوته، وصدق في حديثه، وثقة في أمانته مثل رسول الله -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه، فلقد نال الشتائم والسباب من كافة طبقات المجتمع، فقد هجاه شعراء، وسَخِرَ منه سادة، وآذاه عتارسة، ونال منه سحرة.
ولقد شاء الله -سبحانه- أن يأتي اليوم الموعود الذي يفتح الله فيه على نبيه صلى الله عليه وسلم بـمكة ، حتى إذا ما دخل بالبيت وطاف جلس بالمسجد، والناس من حوله، والعيون شاخصة إليه، والقوم مشرئبون إلى معرفة صنيعه بأعدائه شبابهم وشيوخهم، فقال كلمته المشهورة: (يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم! اذهبوا فأنتم الطلقاء ) فيسلم حينها العظماء ويتوبون، كأمثال: هند بنت عتبة ، وعكرمة بن أبي جهل ، ويئوب الشعراء، ويعتذرون إليه؛ كـابن الزبعري وكعب بن زهير ، فلا ينال الجميع منه إلا العفو والتغاضي.
الله أكبر! ما أجمل العفو عند المقدرة!
والله أكبر! ما أجمل السعة عند الضيق والعزة عند الذلة!
ومن أحق بذلك إن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله إذ يقول: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
أيها المسلمون! بهذا الموقف وبغيره من المواقف العظيمة عالج رسول الله صلى الله عليه وسلم محو الجاهلية، وقطع ظلامها، بأنواع المعرفة والإرشاد، ومنع الفساد فيها بحلمه وعفوه وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
لقد كفكف الرسول صلى الله عليه وسلم من نزوات الجاهلية، وأقام أركان المجتمع على الفضل وحسن التخلق، ونبذ الجهل والغضب، وكثير من النصائح التي أسداها للناس كافة كانت تتجه إلى هذا الهدف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ) رواه البخاري ومسلم .
ألا إن الغضب قرين الشر، وإن الحلم راحة القلوب وسعادة الجماعات.
إن التفاوت بين الناس بعيد الشقة مع أنهم من أبوين اثنين، فإن اختلافهم في أوضاعهم وخلالهم مثار امتحان بالغ الجدوى، ولذا قال جلَّ شأنه: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً [الفرقان:20] ففي الناس الحليم الأريب المتأني، الذي إذا استنفرته الشدائد أبقى على وقعها الأليم، محتفظاً برجاحة فكره؛ وسجاحة خلقه، فلا يحمى من قليل يسمعه فيوقعه في كثيرٍ يكرهه، ولا يفضح نفسه ليشفي غيضه، فإن جهل عليه لم ينفعه إلا حلمه، ويا للعظمة والعلو! إن فعل كفعل قيس بن عاصم ! وقد أتوه برجل قد قتل ابنه، فجاءوا به مكتوفاً، فقال: زعرتم أخي أطلقوه، واحملوا إلى أم ولدي ديته فإنها ليست من قومنا.
إذ لا ينفعه الاعتذار حينئذٍ؛ لأنه إذا استثير ورأى لهب الغيظ برطم، وأفسد الأمور في غيبة وعيه، وغلبة عاطفته، فلم يدع لإصلاحها مكاناً، فإن نصح أهماك هوجاً، وإن ذكر أصماك غيظاً، وهذه هي علة الحمق الكامنة، ولقد رأينا الغضب يشتط بأصحابه إلى حد الجنون، عندما تقتحم عليهم نفوسهم، ويرون أنهم حقروا تحقيراً لا يعالجه إلا سفك الدم، ولو كان المسلم يعيش من وراء أسوار عالية من فضائل أَتراهُ يُحس بوخز الألم على هذا النوح الشديد؟!
لا. وكلا! بل إن الإهانات تسقط على قاذفها قبل أن تصل إلى مرماها البعيد، ولا غرو! إذ لا تعود الجمرة إلا على موقدها الأول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المستبان ما قالا، فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم ) رواه مسلم .
فلا ينبغي للمؤمن الكبير أن يضيق بهرف قطعان متناثرة، بل إن المصلح العظيم يفيض من أناته على ذوي النزق حتى يلجئهم إلى الخير إلجاء، فيطلق ألسنتهم تلهج بالثناء والذكر الحسن.
إن من الناس من لا يسكت على الغضب، فهو شخص غضوب في ثورة دائمة، وتغيِّض يطبع على وجهه العبوس، إذا مسه أحدٌ بأذى ارتعش كالمحموم، وأنشأ يُرغي ويزبد ويلعن ويطعن، وكثيراً ما يذهب به غضبه مذاهب حمقى، فقد يسب الباب إذا استعصى عليه فتحه، وقد يلعن دابة جمحت به، أو يعري امرأته ويكسر ضلعها ويضيع أمرها، فيفرق شمله في نقصان ملح أو يبوسة خبز، ثم يطلقها عدد نجوم السماء وكان يكفيه من ذلك عطارد!! فيتهارشان تهارش الكلبين، ويتناقران تناقر الديكين، فلا يفترقان إلا عند الخدش والعقر والهجر، فيجني كل منهما على نفسه بالحرمان والعقوبة، والنتيجة الحاصلة هي يُتم الأولاد إبان حياة الأبوين.
والإسلام بريء كل البراءة من هذه الخلال الكدرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، والفاحش، ولا البذيء ) رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن.
ثم لا تسألوا بعد ذلك -أيها المسلمون- عن ندم الزوجين -ولات ساعة مندم- فيختلقون المعاذير، ويراجعون القضاة والمفتين، كل ذلك لمحو غلطة ارتكبها الغاضب دون تفكير أو روية، أو تدرج في التأديب، مما تسبب في هدم لبنة كان بإمكانه معالجتها لو ملك عقله، وأشهر حلمه، وكفَّ غضبه، وما ذنب الولد إذا خرج من بيته هلعاً مكفهراً وجهه، ضائقاً صدره، ينطلق يمنة ويسرة، يبحث عن سبب يُزيل به همه ويجلو غمه، ولربما استبشر به وبأمثاله وحوش الظلام، وذئاب المجتمع، فيسير وراء تخبطهم ويضيع بضياعهم عن طريق الكيوف القتَّالة من المسكرات والمخدرات.
كلُّ ذلك نتيجة غضبة من أبيه أو أمه أعقبها سبٌ وشتم ولطم، وربما طرد ولعن، فيتبدد بذلك شمل الأسرة، وتقوض المجتمعات، فيكسب في كل يوم عدو، ويفقد صديق، ويُهدم بيت، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ومثل هذا لا يلبث أن يفضحه الله على رءوس الخلائق.
وإما أن يكون ثائر النفس، أزعجه من ظلمه، فيصبر محتسباً ويصفح قادراً، ويأمره إيمانه بالعرف والعفو عن الجاهلين، وهذا هو المُثاب في الدنيا والآخرة، والمشكور عند الله ومن ثمَّ عند خلقه، وهو الموصوف بالشدة والقوة، كما في قول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: {ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب }. رواه البخاري ومسلم .
وهو المقصود -أيضاً- في قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من كتم غيظاً وهو قادرٌ على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يُخيرِّه من الحور العين يزوجه منها ما شاء } رواه أحمد .
أعاذنا الله وإياكم من الغضب ومن سوءه وآثاره، ورزقنا الحلم والتحلَّم إنه سميع قريب وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133-134].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون! واعلموا أنه يجب علينا أن نعمل بتعاليم ديننا الحنيف، وأن نأخذ بإرشادات نبينا صلى الله عليه وسلم، كما يجب علينا أن نقصر أنفسنا عن الغضب، ولا نتسرع فيما يعود علينا بالحسرة والندامة -ولات ساعة مندم- والمرء المسلم مطالبٌ بكتمان غيظه، وإطفاء غضبه بما استطاع من تحلم وتصبر، واستعاذة بالله من النفس والهوى والشيطان.
واسمعوا -رعاكم الله- وصية من وصايا المصطفى صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فيما رواه البخاري في صحيحه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أوصني! قال: لا تغضب، فردد مراراً! قال: لا تغضب )
والمراد من الحديث هو: ألاَّ يعمل المرء بمقتضى الغضب إذا حصل له، بل يُجاهد نفسه على ترك تنفيذه؛ فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان هو الآمر الناهي له، ولهذا المعنى قال الله عز وجل: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ [الأعراف:154] فإذا ما جاهد المرء نفسه اندفع عنه شر الغضب، وذهب عنه عاجلاً فكأنه حينئذ لم يغضب، وإلى مثل هذا وقعت الإشارة في القرآن بقول الله عز وجل وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، وقوله: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]
ويختلف الغضب في دنيا الناس إذ يتراوح صعوداً وهبوطاً باختلاف الأحوال والظروف، ولكنه من خلال الإطار الشرعي العام لا يخرج عن ثلاث مراتب:
واستب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاحمرَّ وجه إحداهما غضباً، فقال صلوات الله وسلامه عليه: {إني لأعلم لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه ما يجد } رواه البخاري ومسلم .
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقال صلوات الله وسلامه عليه: {من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلى الله عليه بها عشراً } اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم!
اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ما سألناك من خير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قصرت عنه آمالنا من الخيرات فبلغنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله! اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر