أما بعد:-
فإن النصيحة المبذولة لي ولكم -عباد الله- هي تقوى الخالق جل شأنه، فهي عدة الصابرين، وذخيرة المجاهدين، وسلوان المصابين، ما خاب من اكتسى بها، ولا ندم من اكتنفها، بها النجاة في الأولى، والفوز في الأخرى، لا يسألكم الله رزقاً هو يرزقكم والعاقبة للتقوى.
أيها الناس: لعل المسلمين في ثنايا هذه العصور المتأخرة هم أكثر الناس آلاماً، وأوسعهم جراحاً، ولعل أرضهم وديارهم وأموالهم هي التي يستنسر بها البغاة، وتستأسد الحمر، والمسلمون مع ذلك يتجرعون هذه الجراحات في صياصيهم وهم لا يكادون يسيغونها.
ويحملون معها أثقالاً إلى أثقالهم.
إنهم يدعون إلى الاستكانة والاستجداء دعاءً، وتتقاذفهم مضارب الغالبين إلى أن يعترفوا بأن حقهم باطل، وباطل غيرهم حق .. يزج بهم في كل مضيق من أجل أن يقلبوا الحقائق، ويتقبلوا أضدادها على مضض حتى ينطق لسانهم بالرسم المغلوط، والفهم المقلوب، فتكون عبارتهم لعدوهم بلسان حالهم.
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتخطئون فنأتيكم ونعتذر |
وبسبب نقمتها هذه اختبأت وراء صور الاستعمار المتنوعة، تناولت من خلاله ما تشاء من الأساليب، فإذا احتاج الأمر إلى المكر لانت، وإذا احتاج الأمر إلى القسوة بطشت، وهي في لينها تبثُّ السمَّ في العسل، وفي شدتها تحترف الهمجية والجبروت، وهي في كلتا الحالتين لا تنام عن غايتها أبداً، ولو نامت بإحدى مقلتيها فإنها بالأخرى يقضانة ساهرة وهذا سر أسفنا المتصاعد يا عباد الله.
أيها المسلمون: إن الكثيرين منا ليتساءلون إثر كل بلية تحل بدار الإسلام ما السبب؟.. وكيف؟.. ولم؟.. ومم؟.. وعم؟.. كل صور الاستفهام تتناثر صيحاتها في مسامعنا حيناً بعد آخر.
ولكن هل نجعل هذا التساؤل جديداً على أسماعنا؟ أم أن في أفئدتنا وما أعطانا الله من صلة بكتابه العزيز، ما يذكر بسؤال مماثل للرعيل الأول في أزمة هي من أشد الأزمات التي حلت بهم، ألا وهي هزيمتهم في معركة أحد ، يندبون حالهم، ومن ثم يتساءلون فيقول الله عنهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] فيجيبهم الله بخمس كلمات لم ينسب ولا في كلمة واحدة سبب الهزيمة إلى جيش ولا إلى عدة، ولا إلى تحرف في قتال، وإنما قال لهم بصريح العبارة: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
يقول الله لهم ذلك؛ ليبين لهم ولمن بعدهم بوضوح أن خواتيم الصراعات والمدافعات بين الأمم على كافة الأصعدة لا يمكن أن تقع خبط عشواء، وإنما هي وفق مقدمات أثمرت النتيجة بعد استكمال أسبابها: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].
لقد كتب الله سبحانه على نفسه النصر لرسله وأوليائه، فقال سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
ولكن الله سبحانه علق هذا النصر بتحقيق الإيمان في القلوب واستيفاء مقتضاياته في كل مناحي الحياة، وهذه هي سنة الله في النصر، وسنة الله لا تحابي أحداً، وحين تقصر الأمة وتفرط فعليها أن تقبل النتيجة المرة؛ لأنها مع كونها مسلمة إلا أن ذلك لا يقتضي خرق السنن وإبطال النواميس.
ثم إن المنصف الحذق يلمح من خلال هذا التلاوم المشترك أنه ليس في الحقيقة أحد ملوم، إذ كل يلقيه على الآخر؛ فيلزم من ذلك الدور، وهو ممنوع عند جميع العقلاء.
ورحم الله مالك بن دينار حينما وعظ أصحابه موعظة وجلوا منها، وارتفع بكاؤهم، وبينما هم كذلك إذ فقد مصحفه الذي بين يديه، فالتفت إليهم وقال: ويحكم تبكون جميعاً فمن الذي سرق المصحف إذاً؟!
ويظهر هذا الأمر جلياً في سبب من أسباب هزيمة المسلمين في أحد حيث يقول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152].
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[والله ما علمت أن معنا في أحد من كان يريد الدنيا إلا لما نزلت هذه الآية ]] ولأجل هذا -يا عباد الله- كانت هذه الهزيمة، حينما لم يستجب أقوام منهم لوصية الله تبارك وتعالى في أول عظة للمسلمين، بعدما انتصروا في معركة بدر ، بأن يوحدوا صفوفهم، ويلموا شملهم، حيث قال سبحانه: بسم الله الرحمن الرحيم: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1].
أنزل الله عليهم هذه الآية ليقطع على النفس مطامع الدنيا، وغلبة حب الغنيمة على حب نصر دين الله ورفعته.
هذا هو منطق فرعون الأول، يُظهر غيرته على دين الناس وأمنهم، فهو يخاف عليهم من إفساد موسى في الأرض، فيقرر أن موسى يرهب أهل الأرض جميعاً فهو لا يستحق البقاء .. هذا هو منطق فرعون الأمس، وهاهو التاريخ يعيد نفسه، وما أشبه الليلة بالبارحة! فهل يتعظ المسلمون ويقولون من بعد ذلك: أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165].
إن استجابة النفس للدعاوى الأفاكة، والاستسلام لشيوعها، والتي تصل بسبب قوة طرحها والتأثير الإعلامي لها إلى درجة الرضا بها، والقبول لها، ومن ثم يتحول الافتراء إلى حقيقة مسلَّمة، وواقع لا مماراة فيه، ولنضرب مثالاً على هذا فنقول: نحن نعلم أن حقوق المسلمين ودماءهم في أقطار كثيرة تهدر وترخص، حتى لو داهمهم مغتصب، والتوت عليهم يد معتد، فأبدوا مقاومة واهنة أمام المغير عليهم، ودفعوا براحاتهم أفتك أنواع السلاح، وارتفعت صيحات وشنشنات أخزمية تقول: المسلمون معتدون، المسلمون إرهابيون، ومن ثم يكون هذا، تبريراً للدبابات والمجنـزرات أن تصب جام غضبها على أمة لا تملك إلا الحجارة.
ويبدو أن مثل هذا الإفك لا ينقطع أبداً، وأن الإصرار بأن المسلمين إرهابيون أكذوبة كبرى، فهي كما يقول علماء النفس: نوع من الإسقاط الذي يدفع المرء إلى اتهام غيره بما في نفسه هو من شر. وقديماً قيل: كل إناء بما فيه ينضح. ومع ذلك كله تصاب أمة الإسلام بصدمة عنيفة من قبل آراء عالمية تصف المالك الطريد إرهابياً لا حق له، وتجعل اللص الغالب ربَّ بيت محترماً، ثم بعد ذلك يقول المسلمون: أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم
أما بعد:-
فاتقوا الله أيها المسلمون! واعلموا أن ثمة مفهوماً مهماً ينبغي ألا يغفل عنه، لأنه لبٌّ في الموضوع، وعمود ارتكاز في التصحيح، ألا وهو المعصية وما لها من أثر وشؤم وموقع عظيم في تحديد معايير النصر والهزيمة.
وإن من يلقي النظر على غزوة أحد ، وإلى السبب الرئيسي للهزيمة؛ يجد أنه يكمن في المعصية، والتي تلقى المسلمون بسببها لطمة موجعة أفقدتهم من رجالهم سبعين بطلاً، على رأسهم سيد الشهداء حمزة رضي الله تعالى عنه فردتهم الهزيمة إلى المدينة ، وهم يعانون الأمرّين من جرائها وشماتة كفار قريش.
وإن تعجبوا يا عباد الله! فعجب أمر هذه المعصية في أحد ! إنها لم تكن في فشو زناً بينهم، ولا في احتساء خمرة مسكرة، ولم تكن في إقصاء شريعة وتحكيم قوانين خارجة عنها، ولا في فساد امرأة أو انحراف شباب، بل إنهم خرجوا إلى أحد ومعهم إيمانهم بالله، وحبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، ودفاعهم عن الحق، وطلبهم رفعة الدين ونصرته.
وكل ذلك في الواقع يرشحهم بأقوى أنواع الترشيح في أن ينتصروا ولا يهزموا، ولكن يبلو الله المؤمنين في أحد فينزل الرماة عن الجبل، لا لقصد عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لما رأوه من الانتصار للمسلمين، فخاف بعضهم فوات حظه من الغنائم، ثم كانت الكارثة .. هزيمة موجعة فاجعة مهولة، وأثابهم الله غماً بغم، وكسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم، وشج رأسه، وقتل سبعون شهيداً.
فالله أكبر ما أعظم أثر المعصية على واقع المسلمين! حتى في أحلك الظروف.
تلك هي معصيتهم فما هي معاصينا إذاً؟
إنه لسؤال صعب والجواب عليه أشد من لعق الصبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) رواه أحمد وغيره.
إن شؤم المعصية يعم مهما قل حجمه، أو ضعف الاكتراث به، إنه يمحق البركة، ويفسد العمل، ولو كان جهاداً في سبيل الله.
دخلت العالية امرأة أبي إسحاق السبيعي على عائشة رضي الله عنها، ودخلت معها أم ولد زيد بن أرقم ، فقالت: [[يا أم المؤمنين! إني بعت غلاماً من
فرحماك يا رب رحماك! ولا حول ولا قوة لنا إلا بك!
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال عز من قائل عليماً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين .. اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان.
اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم .. اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم اجعل شأنهم في سفال، وأمرهم في وبال، واجعلهم غنيمة للإسلام والمسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر