ومنها: تضييع وتمييع عقيدة الولاء والبراء.
والله جل وعلا لا يغير نعمة أنعمها على عبد إلا إذا تغير هذا العبد بكفر أو عصيان، وبالمقابل إذا أصيب المجتمع بعقوبات فلا يزيلها إلا بتوبة وعودة إليه.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أيها الناس! المجتمع المسلم المتميز هو ذلكم المجتمع الذي تتحقق له ضروراته وحاجياته وتحسيناته تحت ظل الشريعة الغراء التي لا تنغصها أزمة، ولا يعكرها ضيق، ذلكم المجتمع الذي يجد حرمته مصونةً مكرمة، لا تهدر تحت ناب سبعٍ عادٍ، ولا تستباح بمخالب باغٍ متوحش، أو سطوة معتدٍ صائل، هكذا يعيش المجتمع المسلم إذا كان في صورته المثلى واستقراره المعهود، غير أنه عند أدنى اختلال لما مضى، وإحلال الضد محله، من الاستخفاء وراء أسوارٍ من الصلف والغطرسة، والمقت لوحي الله وحملته، وجعل سبيل الله موحشةً لطول ما ترادف على سالكيها من أدواء وأعباء، لهو الباب الحقيقي للمثول أمام حاضرٍ كريه، ومستقبلٍ مغلق، وحينئذٍ تزل القدم بعد ثبوتها، ويسبق الخصم إلى إذلالها وكبح حريتها.
إن التدين الحقيقي هو الإيمان بالله، والشعور بخلافته في الأرض قلباً وقالباً، والتطلع إلى السيادة الشرعية التي اقتضتها هذه الخلافة، بيد أن ذلك لا يتم إلا بتطويع كل ما جعله الله وسيلة مشروعة؛ لتحقيق هذا المفهوم وسط دنيا ينبغي أن يحكمها المجتمع المؤمن باسم الله وعلى بركة الله وفضله، من خلال الحكم بما أنزل الله شريعة ومنهاجاً، وإحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتذليل السبل في الدعوة إلى الله جلَّ وعلا، والجهاد في سبيله وابتغاء مرضاته، وبمثل هذا يُقضى على الجفوة بين مفهومي الحضارة والإسلام، ويرأب الصدع، وتُسد الثلمة، لتصل سفينة المجتمع المسلم الماخرة إلى شاطئ العز والتمكين، كما أنه يجب أن يكون واضحاً جلياً تقرير أن الفضائل والعبادات التي شرعها الله لنا لا تعوق ازدهار الحياة وتقدمها المادي وسط المجتمعات المسلمة؛ لأن الإنسان عقل وقلب، ومن يظن أن صحوة القلب لا تتم إلا مع خمول الفكر وتهميش الدنيا من كل جوانبها، فهو مخطئ خطأً فاحشاً، كما أن من يظن بأن سيادة العقل وبلوغ الأرب في التقدم المادي لا يتم إلا بتحنيط الإيمان بالله، وفصله عن واقع الحياة، لهو مخطئ أيضاً خطيئة كبيرة.
ولذا فإن زكاة الروح قد تتم بدون دمار الجسد، وضمان الآخرة والتشمير لها قد يتم بدون ضياع الدنيا وخسرانها، ولقد صدق الله حين قال: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
وأي تبعية أقبح من أن تشبه بدخول جحر الضب المظلم مع ما فيه من ضيقٍ وقوارس، إلا وأن ذلك دليل على التبعية مع عصب العينين على وجه الانتحار غيلة: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [التوبة:69] يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم ]] ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتاً وهدياً، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟ ]].
وفي كلا السببين عباد الله! تتضاءل إن لم تتلاش صلة المسلم بربه ودينه، وينحصر الأفراد والجماعات داخل بوتقةٍ من ضيق الأفق، فلا يرون فيها إلا مصالحهم الخاصة، ويندفع جهدهم كله وراء المنفعة العادلة بغض النظر عما يحكم ذلك من حلالٍ أو حرام، والله جل وعلا يقول: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
ولقد {بايع
ومن هذا المفهوم -عباد الله- يوقن كل منصفٍ أن أهل الكفر والإلحاد لم ينتصروا بقواهم الخاصة قدر ما انتصروا بفراغ قلوب المسلمين من خلال شهواتهم اليقظة، وإخلادهم إلى الأرض، واتباع الهوى، والسعار إلى الملذات والرغبات، وافتقار صفوفهم إلى ما يجمعها ولا يفرقها، وإلى ما تعتز به من الدين لا ما تستحيي منه أو تخجل بسببه: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:13-14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صواباً فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارا.
أما بعد:
فالعودة إلى الله سببٌ في الفلاح وسر في النجاح، غير أن العودة لا يمكن أن تكون بمجرد شقشقة لسانٍ، أو حركة ببنان، أو بوعودٍ كاذبة في التصحيح والاستقامة فور انكشاف الكربة وانقشاع الغياية، كلا. فتلك وعودٌ كاذبة لو انطلت على بعض البشر فإنها لا تخفى على رب البشر، ولذلك أعقب الله حديثه عن الأسرى بقوله: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الأنفال:71].
فالحاصل -عباد الله- أن استقامة المجتمع وفلاحه ونجاحه في سياسته العامة، وبلوغه المكانة العالية، إنما تجيء من الحرص على التكامل، وتهذيب النفوس من الوحشة والنفرة بعد تحقيق الصلة بالله، ولدى المسلمين في مجتمعهم الحاضر كنوزٌ مشحونةٌ بمثل هذه المعاني الغضة تسع أهل الأرض جميعاً لو قُسِّمت بينهم، ولكنهم عن ذلك ذاهلون ، وفي نيل الغاية الأسمى مُفرطون: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [النمل:91-93].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يُجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وآتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اجعل ما أنزلته سقيا رحمة لا سقيا هدمٍ ولا بلاءٍ ولا غرق ولا استدراج يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لتحيي به البلاد، وتسقي به العباد، ولتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر