والإسلام قد جسد حقيقة الرعاية الاجتماعية، حيث وضع عدة أنظمة للتكافل الاجتماعي، فمن ذلك الزكاة ومصارفها، وكذلك النفقات كالنفقة على الأبناء والآباء، وعلى المطلقات.. إلخ.
وهناك عصران وجدت فيهما أعلى وأسمى معاني الرعاية الاجتماعية للمسلمين، وهما في عهد العمرين: عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز.
وقد تكلم الشيخ عن ميادين الرعاية الاجتماعية، وتحدث عن دور الدولة السعودية في مجال الرعاية الاجتماعية، كما تعرض للرعاية الاجتماعية في عصرنا الحاضر واتجاهاتها.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة الحق واليقين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعــد:
فبتحية الإسلام -أيها الإخوة- أحييكم، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ثم أشكر لمركز الأمير سلمان الاجتماعي تكرمَه بدعوتي للحضور مع هذا الجمع الطيب المبارك، وإن كان مَن يُخَص بالشكر، فهو الأستاذ: عبد العزيز الغريب ، وسعادة المدير العام المهندس: عبد العزيز اليوسفي ، والشكر للمقدم الأخ الشيخ: حمود السالمي ، وأشكر لكم جميعاً حضورَكم وحسنَ ظنكم بمحدثكم، والشكر كذلك جملةً لهذا المركز لكل توجهه وللقائمين عليه ومن يحمل اسمه لإتاحة هذه الفرصة، بل لإتاحة هذه الأنشطة لتُقام في هذه الرقعة العزيزة من بلادنا، بل من الرياض رياضنا النضرة، وسوف يكون لي في عناصر هذه الكلمة جزءٌ من حديث عن هذا المركز.
أيها الإخوة: كما سمعتم، فإن عنوان الكلمة هو: الرعاية الاجتماعية في الإسلام، وقد رأيت أن تكون هذه الكلمة مشتملة على العناصر التالية:
أولاً : معنى الرعاية الاجتماعية، أو ما أسميتُه: مدخلاً تعريفياً.
ثانياً : الإسلام والرعاية الاجتماعية.
ثالثاً : دور الخلفاء والملوك وأهل الثراء في مثل هذه الأنشطة أو المناشط.
رابعاً: ميادين الرعاية الاجتماعية وبخاصة من جملة المناشط الإسلامية في السابق مما دلت عليه نصوص الشرع وقام ماثلاً في تاريخ أمتنا.
خامساً: الرعاية الاجتماعية في المنظور المعاصر.
سادساً: السعودية والرعاية الاجتماعية.
سابعاً : مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
فمن حيث التعريف أو المدخل التعريفي فإن الرعاية الاجتماعية سوف ينتظم تعريفُها ببيان حقيقتها وأهدافها، وإشارة سريعة -مع أنها سوف تأتي مفصلة- إلى من ينتظمهم نشاط الرعاية الاجتماعية.
فالرعاية الاجتماعية: كفالة اجتماعية تنظر إلى الاحتياجات الإنسانية نظرة متكاملة ولا تظنوا -حينما نقول: كفالة- أنها كفالة قاصرة على المسنين أو على أصحاب القدرات القاصرة، فسوف ترون أن الرعاية أوسع من ذلك وأشمل، فهي كفالة اجتماعية تنظر إلى الاحتياجات الإنسانية نظرة متكاملة لا تبتغي الربح من وراء عملها، شعارها: (الرفاهية للجميع) بطريقة علمية مفيدة، من غير إحساس بشفقة خاصة أو استضعاف أو ممنونية.
وأعداء الإنسانية في منظور الرعاية الاجتماعية خمسة: الجوع، والمرض، والجهل، والبطالة، والتشرد.
الهدف الأسمى للرعاية الاجتماعية: هو تأمين مستوىً كريم من المعيشة والخدمات الأساسية للجميع، بمعنى: أنه إذا كان هناك من يناله بجهده وبمِلكه الخاص وبقدراته الخاصة فإن الرعاية الاجتماعية توفر ذلك لمن ينتظم فيها وينتسب إليها، ولقد قال أهل الاختصاص: إن تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى مراجعة منتظمة بين فَينة وأخرى حسب المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية حيث تتغير الحاجات التي تحتاج إلى إشباع، وهذا سوف نأتي إليه مفصلاً -إن شاء الله- في ثنايا هذه الكلمة من حيث المتغيرات التي أدت إلى أن يلتفت الناس إليها، وبخاصة في عصرنا الحاضر إلى مثل هذا النوع من النشاط.
وزيادة في التعريف والإيضاح: فإن الرعاية تعني -وهذا هو المهم- تحقيق تكافؤ الفرص، أي: أنها مبادئ وأسسٌ وتوجهاتٌ تحكم الأعمال الجماعية المتعلقة بكثيرٍ من الجوانب الإنسانية والعلاقات بين الناس، غير مرتبطة بالعلاقة الاقتصادية البحتة، أو الوظيفية ذات المردود المادي.
وحيث إننا بصدد التعريف، فلا بد من الإيضاح أن الرعاية الاجتماعية غالباً ما تتوجه إلى العناية بالإنسان حين يكون عاجزاً عن رعاية نفسه، وهذا غالباً هو المفهوم السائد، ولكن الذي يبدو -وما سوف نرى- أن ذلك أوسع؛ لكن لا بد أن نشير إلى هذا؛ لأننا بصدد التعريف، فلا يمكن أن يُغفَل هذا الجانب، وهو من أهم مناشط ومفاهيم الرعاية الاجتماعية.
إن الرعاية الاجتماعية غالباً ما تتوجه إلى العناية بالإنسان حين يكون عاجزاً عن رعاية نفسه. ومن هنا فإن وظيفة الرعاية تنصب على برامج التأمين ضد الشيخوخة، والعجز، وإصابات العمل، وموت العامل، ورعاية الأمومة، وفُشُو البطالة، ورعاية الأسرة، والعلاوات الأسرية، أي: أنها تلاحظ فئات من المجتمع تغيرت عليهم الأيام أو لحقت بهم كوارث أو حلت بهم نوازل، كما قد يُبتلى بعضهم بعاهاتٍ أو إعاقات، يستحقون معها رعاية خاصة تحافظ عليهم ليبقوا منتمين إلى الجماعة، مرتبطين بالمجتمع، قادرين على العطاء، وقادرين على التكيف في ذات الوقت.
وإذا كان هذا الشمول كله يتناول معنى الرعاية الاجتماعية كمصدر مستقل من مصادرها ومراجعها، فإن المسئولية فيها لا تخص فرداً أو فئة، بل إنها مسئولية مشتركة، يسهم فيها المجتمع والأمة والدولة، غير أنها قد تبدأ متدرجة من الأسرة والوالدَين، ثم القرابة والخيرين الموسرين، ثم على الدولة أن تتحمل مسئوليتها وتقدم الرعاية لمن هم في أمس الحاجة إليها، وهذا التوزُّع في المسئوليات هو ما سوف يتجلى من خلال الكلمات القادمة إن شاء الله.
إذاً: هذا هو تعريفها من حيث حقيقتها، ومن حيث أهدافها، ومن حيث المنتمين إليها، والقائمين عليها.
وعليه: فإن السعي في تهيئة الفرص لمريد العمل ومستطيعه ومطيقه أمرٌ تدل عليه تعاليم القرآن والسنة وتوجهاتهما، ويتاح لكل إنسانٍ من العمل قدر استطاعته الجسمية والعقلية، ومن قعدت به قوته عن العمل، فحقٌ أن تهيء له أسباب الحياة الكريمة.
فنصوص الشرع جلية متكاثرة في تخصيص أصحاب القدرات الناقصة، والإمكانات القاصرة بنوع من الرعاية، سواءٌ أكان في سن الحضانة أم مَن كَبُر حتى صار زمناً أم كان من أصحاب الإعاقات أو ذوي العاهات والأرامل واليتامى والمساكين والمسافرين وأبناء السبيل.
ومن المؤكد أنه يدخل فيهم ما يستجد من حوادث ونوازل حسب الحاجة والمتغيرات من نزلاء دور التوجيه الاجتماعي والملاحظة الاجتماعية، وسيزداد الأمر هذا جلاءً -إن شاء الله- حين الحديث عن صورٍ من الرعاية في الإسلام.
ولم أورد نصوصاً كثيرة في هذا؛ لأني أعلم أنها -ولله الحمد- في مجتمعنا معروفة، فأكثر الناس يعرفون نصوص الكتاب والسنة الخاصة في المطلقات واليتامى والمساكين وكبار السن والأطفال، حتى المجانين، فكلٌ له نصيبه في هذه النصوص مما أعلم أنه جلي، ومن هنا لم أورد نصوصاً في هذا اللقاء، وإن كان بودي لو أستشهد بها باعتبار أنها توضح المقصود؛ لكن أعلم أنها جلية لديكم، ومقامي لن يسمح بأن أوردها على النحو الذي كنت أريده، مع أنه في ثنايا هذا الدرس سوف تأتي بعض النصوص؛ لكنها -في ظني- غير كافية لمن يريد أن يستشهد لذلك، ولا يحتاج إلى برهان، كما سوف نرى.
إن تاريخ أمتنا الإسلامي عريقٌ وعميق، له قصب السبق في كل شأنٍ من شئون الحياة، وفي كل مرفقٍ من مرافقها، سواءٌ أكان في ميدان العلم والفكر، أم في ميدان العمل والبناء، أم في ميدان الرعاية والعناية، وهو عندنا أمرٌ لا يحتاج إلى برهان، فنصوص الكتاب والسنة واستنباطات أهل العلم جلية واضحة، والفقرة السابقة كان فيها إشارة إلى ذلك، والذي يعني في هذا المقام التنبيه والإشارة والإشادة بدور الخلفاء والحكام والأمراء وأهل الثراء في رعاية هذه الميادين والاحتفاء بها واحتضانها، وهذا نابعٌ من طبيعة احتفاء الإسلام بالعلم والعمل وعظم منزلتهما ومنزلة أهلهما لديه، فلا غرو أن يتبارى الحكام والولاة في التنافس الشريف.
يقول هذا المستشرق: كان الارتباط بين العلم والملوك وأثرياء التجار والنبلاء في العهود الإسلامية مصدراً لقوة العلم.
قال: وفي خلال فترة قصيرة هي عهد الخلفاء العباسيين: المنصور ، وهارون الرشيد ، والمأمون ، والمتوكل ، لَقِيَت العلوم تشجيعاً لم تشهده منذ أيام متحف الإسكندرية ، يعني: عهد الرومان.
والعناية العملية التطبيقية ولدت مزدهرة مع بزوغ فجر الإسلام، أي: منذ أن قام نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم بمهمة الدعوة من أول أيامها، فهو الذي يقول: {من كان له فضل زادٍ فليعد به على من لا زاد له، ومن كان له فضل ظهرٍ فليعد به على من لا ظهر له } وهو الذي نهى عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل دافة من البادية دفت على المدينة وسوف نبسط بعض البسط -إن شاء الله- في الفقرة التالية شيئاً عما أنجزه العُمَران: عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز من النظم الاجتماعية في هذا الباب.
أقول ونحن بصدد الحديث عن دور هذه القيادات في المجتمع الإسلامي في تاريخه الطويل: لقد أنشئت في تاريخ الإسلام الدواوين الخاصة للعطاء وتقديم مساعدات في ضوء الاحتياجات الشخصية للعاجزين من المرضى والعجزة وكبار السن والأرامل والمطلقات في سَوْقٍ سوف يأتي إيضاحه وبيانه.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هو صاحب قصة الصبية الجياع مع أمهم حين حمل لهم كيس الدقيق على ظهره، وذهب به إلى هذه المرأة وصبيتها، والدموع تتناثر على لحيته، والدقيق يتناثر على وجهه، شعوراً بالمسئولية، وخشية من ضياع الرعية، وهو الذي رأى يهودياً قد طعن في السن يسأل الناس، فقال: ما ألجأك إلى ما أرى؟ فقال: أسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده، وأعطاه ما يكفيه، وقال لخازن بيت المال: انظر هذا وضرباءه -أي أمثاله- فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثم نتركه عند هرمه.
والحديث عن المدارس ليس فقط لأنها دُوْرٌ للعلم؛ ولكننا لأن هذه المدارس غالباً ما تشمل مرافق من الإعاشة والأرزاق، ويضع الواقفون من الشروط ما يحفظها، ويحفظ المنتسبين إليها في معاشهم ومواصلة تعليمهم.
مؤسسة الملك فيصل الخيرية، وجائزته العالمية.
مكتبة الملك فهد الوطنية.
مكتبة الملك عبد العزيز .
مؤسسة الأمير سلطان الخيرية بموسوعتها العلمية التي شرَّق صيتُها وغرَّب.
كرسي الملك فهد.
كرسي الأمير نايف .
جوائز تحفيظ القرآن والجوائز العلمية للمتفوقين التي يقوم عليها ويرعاها أمراء المناطق حفظهم الله.
فهي أعمالٌ جليلة لها دلالتها الكبرى، ومن أهمها وأبرزها مكانة المعرفة في وعي القيادة واهتمامها.
إن المعرفة والوعي قضية كبرى توازي قضايا السياسة، والاقتصاد، والدفاع، والأمن، والشئون الداخلية، والخارجية؛ حيث العلم والدين والمعرفة هي عنوان الريادة والسيادة واستحقاق الصدارة.
ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظهرت بعض النظم الاجتماعية:
أولاً: ظهرت خدمات عمر بشكلٍ واضح عام الرمادة، إذ أعسر المسلمون في الحجاز وفي نجد ، وجاعوا، فكان يأخذ الطعام من الأمصار ويوزعه، وكان يرسل الطعام والأموال إلى بيوت المعوزين والمرضى، ويعتني بمرضاهم، ويجهز موتاهم على حساب بيت المال، ولم يكن ليقدم هذه الخدمات اعتباطاً، بل كان يحصر أسماء الفقراء ومن يحتاجون إلى عناية ورعاية، ومن تصلهم الإعانة فعلاً، ويقدم للمحتاجين ما يطلبونه.
ثانياً: وقد أحصى أسماء الفقراء والمساكين والعجزة، وفرض لهم مرتباتٍ خاصة، وكفل معيشتهم وكل ما يحتاجون إليه، فكان يقدم لهم مرتباتٍ منتظمة، كما يقدم لهم تمويناً من الأطعمة ثابتاً، وذلك بناءً على تجربة أجراها -وسوف نذكر التجربة بعد قليل إن شاء الله- تجربة أجراها، فعَرَف بها كم يحتاج هؤلاء من طعامٍ ومالٍ شهرياً.
ثالثاً: أحصى العائلات التي لا عائل لها، سواء أمات هذا العائل أو قُتِل، ففرض لها أعطياتٍ ومرتباتٍ شهرية وكفل المعيشة لها من بيت المال.
رابعاً: اللقطاء، والمرضى، والأطفال كان عمر يفرض معاشاً لكل فطيمٍ في الإسلام، ثم حدث أن شاهد امرأة يبكي طفلها -وسوف يأتي هذا الموضوع مفصلاً- فأصدر أمره أن يرتَّب لكل مولودٍ في الإسلام معاشٌ قدره مائة درهم يزداد كلما كبر سنه، ولم تقتصر عنايته على أولاد المسلمين الشرعيين، بل كان يجمع اللقطاء، ويفرض لهم مرتباتٍ شهرية، ويجعل معاشهم من بيت المال.
خامساً: أمر بعزل المرضى، حتى لا تُنْقَل عدواهم وخاصة من كان مجذوماً، وجعل العناية بهم من بيت المال.
أولاً: اعتنى بالفقراء، وسوَّى بين جميع المسلمين في العطاء، وكان كل والٍ من ولاته يحصي عدد فقراء ولايته، ويقدم لهم المرتبات الشهرية والإعانات حتى يعيش عيشة الكفاف.
ثانياً: فرض لكل مولود يولد في الإسلام مرتباً يعيش منه، كما جعل الحد بين عطاء الرجل والطفل من الخامسة عشرة، فكان يعطي الذي يبلغ هذا السن غير ما يعطيه لمن جاوزه.
ثالثا: كانت السُّخْرة منتشرة -أي: إجبار الناس- قبل عمر ، فأمر بإبطالها، ومنعها منعاً باتاً، وعُنِي بالمساجين، ففصل بين المجرمين الأشرار، وبين من يُحبَس لأجل الدين، وأوقف للجميع مرتبات يتقاضونها، كما كان يقدم إعاناتٍ لعائلات الفقراء منهم.
رابعاً: أقام عمر بن عبد العزيز مطاعم عامة، وكان الطعام يقدم فيها مجاناً للفقراء، وكذلك أمر بإحصاء أبناء السبيل والمرضى وذوي العاهات، وأمر بقائدٍ لكل أعمى، وبخادمٍ لمن لا يستطيع القيام، قالوا: إن المقصود بالقيام هنا: القيام للصلاة.
خامساً: خصص للفلاحين عشرات الألوف من الدنانير تقدم لهم ليستعينوا بها على إصلاح أراضيهم واستغلالها، كما رفع عنهم كثيراً من الضرائب والمكوس.
سادساً: كان يفرض لكبار السن مرتباً شهرياً، وكذلك اعتنى بالعاجز والمريض، وقد كتب إليه والي الكوفة ذات مرة يقول: إنه قد بقي لديه من المال الكثير، فكتب إليه عمر : انظر من كانت عليه جزية من أهل الذمة، فضعُف عن أرضه فأسْلِفْه حتى يقدر على عمله، وفي بعض النقول أن والي مصر كتب له: إنه قد فاض المال، فقال: تلمس المحتاجين، قال: قد فاض المال، قال: أعط أصحاب الجزية كما هنا، قال: قد فاض المال، قال: اشتر رقاباً، فأعتقها في سبيل الله.
ولعلكم بهذه النماذج تدركون أن ما أثبتته البحوث المعاصرة حول مبادئ الرعاية الاجتماعية الحديثة، وأيضاً ما سموها بمبادئ الديمقراطية التي تعمل على نشرها بالوسائل المختلفة، وتساعد الناس على السير عليها، تلاحظون أن كل ذلك كان أصيلاً في الإسلام، بل وإن التعاليم والمبادئ الإسلامية أكثر تقدماً وأوسع أفقاً من هذه المبادئ المعاصرة، وإن الناظر في المدارس والأوقاف وطرق تنظيمها وشروط واقفيها لَيُدْرك بجلاء أننا لا نتكلم عن مثالياتٍ لا تطبيق لها، ولكن الأمة مع الأسف حين يصيبها الضعف، فإنها تضعف من داخلها، وتنهزم في روحها، وتتعلق بالقوي، وتسير في ركابه، وتعجز أن تثق بنفسها.
ولمزيدٍ من تأكيد أصالة الأمة، ووضوح التصور عندها، فهذه وقفاتٌ عند بعض نماذج وصور من الرعاية وميادينها.
فمثلاً: مبدأ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار منه صورة مِن صور التكافل بين المسلمين، حين ترك المهاجرون أهلهم وأموالهم هجرة في سبيل الله، فاستقبلهم إخوانهم الأنصار بالإيثار في أسمى المعاني، وليدعم الإسلام مبدأ التكافل، ووضع تنظيماتٍ يوفر بموجبها للأفراد غير القادرين على الكسب مورداً أو الذين لا يكفيهم كسبهم.
فمن صور التكافل: نفقة الصغار، ونفقة الزوجة والمطلقة، ونفقة الوالدين والأقارب، ونفقة الحاضنة، والزكاة ومصارفها، وبخاصة مصرف ابن السبيل ومصرف الغارمين، وكذلك الأوقاف بكل نصاعة ونضارة.
ونفقة الأقارب واجبة على تفصيلٍ مبسوط في كتب الفقه -وعندي بعض التفصيل لكن قد أتجاوزه وأخشى أن يطول الوقت.
والكفارات في الإسلام نصرفها للمساكين وبتنويعٍ عجيب، سواء أكانت كفارة اليمين، أو كفارة الظهار، أو كفارة الجماع في نهار رمضان، أو كفارة محظورات الإحرام ... إلخ.
كذلك دية القتيل لا يتحملها القاتل، في حالة القتل الخطأ، بل على العاقلة.
ومن هنا ندرك عظمة ديننا حين خص عن الفئة برعاية خاصة اعترافاً بماضيهم، وتقديراً لخبرتهم، وحفظاً لحقهم.
ويرتسم هذا المنهج حين نتأمل التوجيه القرآني في حق الوالدين في عبارة قرآنية رقيقة يحس بها أصحاب القلوب المؤمنة الرحيمة حينما يقول الله عز وجل: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24] وهذا انطلاق للإحساس بالمرحلة التي يبلغها كبير السن، حينما يؤدي ما عليه، ويبقى الذي له، وحينما يكون ضعيفاً لا يستطيع أن يقوم بالنشاط الذي كان يقوم به.
كنتَ ضعيفاً أنت في حال الصغر والصبا: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23] إلى أن قال: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:24] فجديرٌ حينما يمر أحدنا بكبيرٍ قد أقعده الزمن أن يتذكر حالة عجزه حينما كان يعطف عليه الكبار، فحقٌ عليه أن يعطف هو على هؤلاء الذين عطفوا عليه.
ولقد وُجِدَت أربطة للمطلقات والأرامل يمكثن بها حتى يتزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن، وكثرت المستشفيات والبيمارستانات والملاجئ والأربطة ونُزُل المسافرين لإيواء أبناء السبيل والمرضى والفقراء وغيرهم من ذوي الحاجات على حسب تنوع حاجاتهم.
فإذا كان الوصي قائماً بما عليه من نظر في مصالح اليتيم والسفيه والمجنون، استمر الحاكم أو السلطان على إجازة قيامهم به، ولم يتعرض له، وإن كان مقصراً أو متهماً، أسند معه غيره، وإن كان مستحقاً للعزل عزل.
واسمع إلى ما يقوله بدر الدين بن جماعة الشافعي في هذا الباب، وهو يتكلم عن حق الجنود، إذا تُوُفوا في المعركة أو استشهدوا يقول: إذا مات بعض المرتزقة من الأجناد -المرتزقة أي: الذين يأخذون رزقاً من بيت المال، وليس بالمصطلح المعاصر (مرتزقة) إنما هؤلاء هم الذين يأخذون جزءاً من بيت المال، والغزاة الذين يستحقون الزكاة قال العلماء: هم الذي لا ديوان لهم، أي: لا يأخذون شيئاً من بيت المال، لكن هناك نوعٌ من الجنود يأخذون من بيت المال نصيباً- فقال: وإذا مات بعض المرتزقة من الأجناد استمر عطاؤه على بناته وزوجاته إلى أن يتزوجن من يكفيهن، وعلى صغار أولاده الذكور إلى أن يبلغوا، ويستقلوا بالكسب، أو يرغبوا في أهلية الجهاد -أي: يسجلوا مع المجاهدين- وعلى الأعمى والزَّمِن منهم أبداً قدر الكفاية -أي: إلى أن يموت- كل ذلك لترغيب أهل الجهاد وتوفير خواطرهم عليه وتطييب قلوبهم على عيالهم بعدهم، فهذا كلام ابن جماعة .
إذا رأيتم نظام التقاعد أو نحوه أو نظام إصابات العمل فستجدون أنها لم تبلغ حتى هذا التعبير الذي عبر به ابن جماعة من الشافعية رحمه الله، ورحم علماءنا جميعاً.
كذلك -أيضاً- قد نقف عند رعاية الطفولة، فهي تشمل تلك الجهود الاجتماعية والاقتصادية ونواحي النشاط الأخرى التي تعمل على رفع مستوى الرخاء للطفل، كفردٍ له مكانته وكيانه، وكعضو في المجتمع الكبير.
واهتم الإسلام بالطفل -كما هو معلوم- وحدد معاني العناية بالجنين قبل ولادته، كما عنى بحقوقه بعد ولادته، كما اهتم بحضانته وتربيته ... الخ.
وقد كان عمر رضي الله عنه لا يفرض لمولودٍ شيئاً حتى يُفْطَم، إلى أن سمع ذات ليلة امرأة تُكْرِه ولدها على الفطام وهو يبكي، فسألها عنه فقالت وهي لا تعرفه: إن عمر لا يفرض للمولود حتى يُفْطَم، وأنا أكرهه على الفطام حتى يفرض له، فقال: يا ويل عمر ! كم احتمل من وزرٍ وهو لا يعلم! ثم أمر مناديه، فنادى: لا تعجلوا أولادكم بالفطام، فإنه يفرض لكل مولودٍ في الإسلام.
ثم إنه كَتَب إلى أهل العوالي وكان يُجري عليهم القوت -لاحظوا التجربة التي أجراها حتى يعرف كم تستحق كل عائلة، وهي التجربة التي وعدنا ببيانها- فأمر بجريبٍ من الطعام فطُحِن -جريب أي: مقدار من الكيل- ثم خُبِزَ ثم فُرِدَ بزيتٍِ، ثم دعا بثلاثين رجلاً، فأكلوا منه غداءهم حتى أصدرهم، ثم فعل في العشاء مثل ذلك، فقال: إذاً يكفي الرجل جريبان من كل شهر، والتجارب قابلة للتجديد وقابلة للتطوير، لكن لاحظوا مدى حرصه على العدل، ثم انظروا أيضاً إلى واقعيته في طريقة تحقيق الحق للناس.
وكان يرزق -أي: يصرف للرجل وللمرأة وللمملوك- جريبين جريبين في كل شهر، وكان إذا أراد الرجل أن يدعو على صاحبه قال له: رفع الله عنك جريبك، أي: قطع الله رزقك.
وتقدير العطاء كذلك -وهذا قد يكون من اللطائف- فالكفاية قال العلماء معتبرة للإنسان بحسب ما يلي:
أولاً: عدة من يعوله من الذراري والممالك، يُحصَى البيت، ليُعرَف كم فيه ممن يعولهم هذا الرجل، أو كم يسكن في هذا البيت.
الثاني: عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر إنه يُعْطَى بدل بنزين، فمادامت أن الخيل والظهر محسوبة فإذا كان إنسان ليس عنده ظهر، وعنده سيارة، فقد يُعْطَى بدل وقود.
الثالث: الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص، أي: اختلاف الأسعار، فلاحِظ أن التقادير جميلة، فالعلماء ما تركوا شيئاً.
فباختصار هي:
أولاً: عدة من يعوله من الذراري والمماليك.
ثانياً: عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر.
ثالثاً: الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص، أي: فارق الأسعار، فقد كان عندهم تضخم، وكان عندهم انخفاض، فيقدر كفايته في نفقته وكسوته في عامه كله، فيكون هذا المقدر في عطائه، ثم يُعرَض حالُه في كل عام، فإن زادت رواتبه الماسة زِيْدَ وإن نقصت نُقِصَ.
وعلى قيم اليتيم أن يراعي حاله وصلاحه، ويكون تحت إشراف القاضي كما هو معلوم، ويعمل على تنمية مال اليتيم وزيادته، وكذلك -أيضاً- يوضع مال اليتيم في خزائن أمينة يؤمن عليها من الضياع.
فيمثِّل الوقف في تاريخ الأمة ركنا قوياً في الرعاية الاجتماعية، لما يتضمنه من شروط الواقفين، لصرف غلة الوقف على العجزة والأرامل والمساكين وذوي الحاجات؛ بل حتى على طلبة العلم وإحياء العلم ورسالته ووظائفه، والأوقاف العامة والخاصة مفوضةٌ إلى القضاة، فإن خص الإمام بها من يصلح لها وفوضَّها إليه، صح ذلك، وليست دائماً مفوضة للأئمة؛ فإذا كان الواقف -كما تعلمون- وضع ناظراً، فإن كان عدلاً، فإنه يتعين عملاً بشرط الواقف كما هو معروف.
والأوقاف واسعة في ميادينها، فنهاك أوقاف مساجد، وأوقاف أربطة، وأوقاف مدارس، ونزل مسافرين، وأشياء كثيرة.
قبل الحديث عن العصر الحاضر يحسن أن ننبه إلى متغيرات لا بد من ملاحظتها مع العصر الحاضر.
لقد حدث في الوقت الحاضر ونتيجة للانقلاب الصناعي الذي لم يعد مقتصراً على الدول الصناعية، بل تعداه للدول النامية، حدث تغير أدى إلى تخلخل التركيبة الاجتماعية، وطبيعة العلاقات الاجتماعية والأسرية.
ومن مظاهر ذلك:
أولاً:تحول السكان من الأرياف والقرى والبوادي إلى المدن مما أضعف دور الجماعات الأولية، كالأسرة والأقرباء والجيران وأهل الخير.
ثانياً: حلت مؤسساتٌ مجتمعيةٌ في المناطق الحضرية محل الأسرة وأهل الخير في أداء كثيرٍ من وظائفها حتى التعليم والصحة، وقد كانت في السابق هي مسئوليات أسرية خالصة.
ثالثاً: قلَّ إسهام الأطفال وكبار السن في الحياة الأسرية في المناطق الحضرية بعد أن كان إسهامهم رئيسياً في الزراعة والرعي، بل وفي كل مناشط الحياة.
رابعاً: ضعف أثر الدين أن الذي كان يحكم العلاقات الاجتماعية من الحياة الزوجية والأقربين والأرحام مما أدى إلى تفككٍ ملحوظ، بل لقد كانت الأسرة في السابق تضم ثلاثة أجيالٍ تحت سقفٍ واحد مع الأقرباء والخدم وغيرهم، وهذا الضعف بالتالي أدى إلى التقليل من مقدرة الأسرة على رعاية المسنين والمعاقين وأصحاب القوى الضعيفة والناقصة.
خامساً: التقلبات الاجتماعية والجغرافية والوظيفية -بل والحياة الشخصية- في المدن أضعفت من روابط الجيرة، وكذلك المهن الحرفية التي كانت قوية في العهود السابقة تلاشت؛ لأنه جاء عصر الآلة.
سادساً: عصر الآلة الحاضر أدى إلى تعطل كثيرٍ من الحرف والمهن، مما يترتب عليه فائضٌ في العمالة يفوق باستمرار فرص العمل المتاحة مع تدني الأجور وشروط العمل الثقيلة وعدم مسايرة المهارات للتطور التقني المذهل.
هذه المتغيرات جعلت من الملاحظ أن برامج الرعاية الاجتماعية تختلف في مداها وممارستها وتنظيمها من بلد إلى بلد، ومن فترة إلى فترة، بل إنها قد تختلف حسب الظروف وطبيعة الأخطار، والتقلبات في الأقاليم والمناطق مناخياً واقتصادياً ونوع الحرف والمهن، حتى قالوا: إن إصابات العمل في البلدان الصناعية أكثر منها في غيرها.
بعد هذا التمهيد والمتغيرات نأتي إلى الاتجاهات في وظيفة الرعاية الاجتماعية في المنظور المعاصر:-
أي: المنظور المعاصر ما هي نظرته إلى الرعاية الاجتماعية؟ هل هي وظيفة الدولة ؟ أو وظيفة القطاع الخاص؟ أو وظيفة الأسرة؟ ... إلخ.
هناك اتجاهان جليان وكبيران، ولكلٍّ وجهته، فالباحثون والكاتبون في الرعاية الاجتماعية لهم اتجاهان في النظر إلى الرعاية الاجتماعية ودورها الوظيفي في المجتمع.
قالوا: وإذا تدخلت الدولة فيجب أن يقتصر تدخلها على حالات الحرمان القصوى في الظروف الاستثنائية، عندما تعجز القناتان الطبيعيتان وهي الأسرة وسوق العمل، إذ هاتان المؤسستان هما الجهة المفضلة لإمداد الفرد باحتياجاته في الظروف العادية.
وخلاصة هذا الاتجاه: أن أجهزة الرعاية الاجتماعية التي تقدمها الدولة يجب أن يكون دوراً مؤقتاً، ووفقاً لهذا المفهوم للرعاية الاستثنائية والمؤقتة، فإن الرعاية الاجتماعية يجب ألا تصبح جزءاً روتينياً من البرامج الحكومية، وإنما يجب أن يُنْظَر إليها على أساس أنها عملية برٍ وإحسان وصدقة، حتى لا يستمرئُها المحتاج ويتكئُ عليها.
فالرعاية الاجتماعية بمعناها الشامل تهدف إلى توفير الخدمات التي تشبع الاحتياجات الأساسية لكل المواطنين، ويُلْحظ أن هذين الاتجاهين برزا نتيجة المجتمع الصناعي وتعقيداته، والتي أصبحت حقائق معترفاً بها، لعدم قدرة الفرد على تلبية أو إشباع كل احتياجاته بالاعتماد على نفسه أو على أسرته أو على سوق العمل، فأصبحت حقيقة واقعية، ومن هنا برزت المؤسسات التي تساعد الفرد على تحقيق وضعيته الاجتماعية العادية بصورةٍ دائمة وكافية.
إذاً هذان هما الاتجاهان، ولعلنا نشير -بعد الحديث عن هذا إلى السعودية والرعاية الاجتماعية- إلى رأيٍ وسطٍ في هذا إن شاء الله.
وإذا رجعنا إلى هذه الأنظمة -التقاعد والتأمين، والضمان الاجتماعي- نلاحظ أنها تهتم بجانبٍ، وهو جانب الحاجة أو الإشباع المادي إن صح التعبير، ولكن النظرة التطورية التي أشرتُ إليها أيضاً تستدعي المتأمل والمهتم أن يعيد النظر في هؤلاء الكبار ليدرك أنهم -وبفضل الله أولاً، ثم بفضل التطور الصحي التي تشهده البلاد- أصبح أحدهم يعيش فترة طويلة من حياته، وهو يتمتع بصحة جيدة، وبقوى بدنية ممتازة.
إذاً: هو يحتاج إلى رعاية من نوع آخر، فهو ليس بحاجة إلى نوع من الخدمات السابقة، وإنما هو محتاجٌ إلى رعاية تنتشله من عزلته، وتشعره بكيانه، وتعترف له بسابق فضله، وتؤمن ببقاء الحاجة إليه.
وهذا نوع متطور من الرعاية، فهي رعاية تهتم به في نواحيه النفسية والشخصية، تمنعه من الوحدة والانعزال، وتملأ عليه وقته بطريقة علمية مفيدة من غير إحساسٍ بشفقة خاصة أو استضعافٍ أو مِنَّة.
وإن العمل الخيري مما يتجسد شامخاً في هذه البلاد وأهلها وقيادتها بفضل الله ومَنِّه.
هذا الربط بين ما تحدثنا عنه فيما سبق من دور الخلفاء والأمراء وأهل الثراء في رعاية بعض هذه المرافق، وبين الاتجاهين اللذين ذكرناهما في وظيفة الرعاية الاجتماعية، فالذي يبدو في نظر محدثكم أن بروز هذه المراكز كالمركز الذي نحن فيه، مركز الأمير سلمان الاجتماعي، فالذي يبدو في نظر محدثكم أن بروز هذه المراكز هو نوعٌ من الخصخصة أو هو نوعٌ من المرتبة الوسطى بين تدخل الدولة الكامل وبين انفراد القطاع الخاص بهذه المراكز والمؤسسات الخدمية الاجتماعية، وعلى أي نحوٍ كان التوجه أو الترجيح، فإن هذه المراكز بهذه الصفة تمثل صورة ناجحة في أداء الرعاية الاجتماعية لوظيفتها على ما سنرى متجسداً في خاتمة حديثنا عن مركز الأمير سلمان الذي نحن في رحابه هذه الليلة.
وتوجه الدولة في الخصخصة توجهٌ قوي جداً، ويتبناه سمو الأمير نايف باعتباره رئيساً لمجلس القوى العاملة، وهو متابع متابعة كبيرة جداً، خاصة للندوة التي أقيمت العام الماضي، وكان لها توصيات، وأيضاً هذا العام -كما تعلمون- تابع توصياتها، حتى إنه قال: إن الوطن ليس هو المصلحة الاقتصادية وحدها، ولكنه باختصار هو الحياة.
فهذا المركز ينتسب إلى شخصية في بلادنا مرموقة، لها بصماتها التي لا تمحى، وبخاصة في حاضرة البلاد وعاصمتها رياضنا النضرة، ومن غير المبالغ فيه أن نقول: إنها لم تكن لتصبح بهذه النضارة لولا توفيق الله أولاً ثم هذا العمل الدءوب المتميز الذي يوليه سموه لها ولأهلها وأبنائها والوافدين إليها من أنحاء المملكة وخارجها.
إن هذا المركز يمثل منتدىً ثقافياً اجتماعياً صحياً وظيفياً مهنياً، ولعل ما رُسم للمركز من أهدافٍ طموحةٍ تلبي طموحات الأمير من تقديم الرعاية المفتوحة لكل مرتاديه، حيث يجدون فيه ما يشغل الوقت، ويبهج النفس من برامج هادفة ومناشط متنوعة، تتناسب مع الظروف والإمكانات في مناخٍ اجتماعيٍ تسوده روح المودة والاحترام مع جو التعاطف والمرحمة، في مركز متكامل المرافق من الأنشطة الثقافية والرعاية الاجتماعية بشتى مجالاتها صحيةًَ وغذائيةً وترويحية.
إنه مركزٌ يستفيد ويفيد، يستفيد من ذوي الخبرة والتجربة ممن يرغبون في تقديم خدماتهم وشغل أوقاتهم بأسلوبٍ علمي، كما أن من طبيعة إنشائه فتحه أبوابه لإسهام كل مختصٍ، حيث يتيح جو المشاركة في العلاقات الاجتماعية من أجل اكتساب المزيد من المعرفة وتنمية القدرات وكسب المهارات، ولعل من أهم مهام المركز تهيئة كل منتمٍ إليه ليدرك متغيرات المجتمع وتعاقب الأجيال، لتبقى الجماعات بكل فئاتها محتفظة بتواصلها الاجتماعي والأسري.
إنه مركزٌ يتيح جو المشاركة في العلاقات الاجتماعية والمناسبات المتعددة من أجل اكتساب المزيد من المعرفة وتنمية القدرات وكسب المهارات.
هذا ما تيسر تدوينه، وأرجو ألا أكون أطلت عليكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
والموضوع ثَرِيٌّ وثَرٌّ، ويحتاج إلى مزيد من البسط والكتابة أيضاً وبنوع من العمل الموسوعي أو الفهرسي وبخاصة فيما يتعلق بحصر صور الرعاية الاجتماعية في تاريخ أمتنا من خلال طبيعة وظائف الأوقاف، ومن خلال المدارس، ومن خلال الأربطة، ومن خلال النُّزُل، فلو أن الإنسان درسها ودرس شروط الواقفين وشَرَط أيضاً توجيهات الولاة فيها -كما أشرنا إلى ذلك- وكذلك الفقهاء وتوجيهات العلماء -كما أشرنا في كلام بدر الدين بن جماعة - فإن هذا سوف يعيد لنا أولاً ثقتنا بأمتنا وبأنفسنا ويعلم أن ما جاء به المعاصرون ما هو إلا بناء على ما سبقهم من أمم وبخاصة أمتنا، كما أشار المستشرق في كلامه الذي استشهدنا به.
وأقول هذا القول، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه وسلم.
الجواب: أنا ليس عندي تصورٌ كامل عن بعض صوره، هناك من الصور ما هو ليس بجائز قطعاً، كالتأمين على الحياة، والتأمين التجاري، هذا لاحَظوا حرمتَه، وأفتى فيه علماؤنا، ومجامع الفقه أفتت بحرمة التأمين التجاري، وكذلك التأمين على الحياة.
لكن هناك صور من التأمين، كالتأمين التعاوني، بمعنى: أن تجتمع مجموعة، سواء أكانت باسم شركة أو باسم آخر، بحيث تدفع مبالغ إسهاماً منها، وهذا المبلغ لا مانع أن يُتاجَر به، بمعنى أن يُنَمَّى بحيث أن هؤلاء المشاركين إذا احتاجوا أو أصابتهم نكبات يأخذون من هذا الصندوق؛ لكنهم يدفعون نصيبهم على شكل تبرع، لا يُقصَد من ورائه التجارة، ولا يُقصَد من ورائه تنمية هذا السهم أو تنمية هذا النصيب الذي أسهم به صاحبه.
كذلك -أيضاً والأمر يحتاج إلى مزيد من البحث- فيما يتعلق بالتأمين الصحي ونحوه، رأيتُ كلاماً جميلاً لمتقدمين وبخاصة أن التأمين الصحي إذا كان أيضاً من جهة بيت المال أو كان أيضاً من حيث الغرامة التي تترتب على المقصر في طبيبٍ ونحو ذلك، فهذا أيضاً فيه إشارات علمائنا بما يفيد الجواز، ولكني لا أجزم بذلك، والأمر يحتاج إلى مزيد نَظَر.
الجواب: فيما يتعلق بالرعاية الاجتماعية يبدو لي أن الموضوع ما زال جديداً، بمعنى أن الرعاية الاجتماعية تحتاج إلى كتابة من منظور إسلامي إن صح التعبير، وهناك كتب يمكن أن تكون مصدراً لها:
فهناك كتاب جميل اسمه: تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام ، لـبدر الدين بن جماعة ، وهو جميلٌ جداً في هذا الباب.
ويوجد كتاب: غياث الأمم ، للإمام الجويني ، فيه كلام جميل.
كذلك كتب الأحكام السلطانية ، تتكلم كلاماً جميلاً في هذا الباب، وتشير إلى حقوق هؤلاء الضعاف والعجزة واليتامى والأرامل وأبناء السبيل في إشاراتٍ جميلة جداً، لكن الموضوع لا يزال محتاجاً إلى كتابة بمنظور جديد من حيث التنظيم والتبويب، وإن كان التأصيل موجوداً.
كذلك كتاب التنظيم الإسلامي للمجتمع للشيخ محمد أبي زهرة لا بأس به.
وهناك كتب في الخدمة الاجتماعية؛ لكنها ليست من منظور إسلامي، وإن كانت لا غبار عليها، لكنها تبحث في منظور معاصر بحت، ككتاب الخدمة الاجتماعية لـمحمود حسن ، والخدمة الاجتماعية لـصلاح الدين علي ، والرعاية الاجتماعية وأثرها على مداخل الخدمة الاجتماعية المعاصرة للدكتور مختار عجوبة ، وهذه كتب يمكن أن يستفاد منها.
الجواب: والله لست أدري، ليس عندي -الحقيقة- معلومات دقيقة في هذا الباب، لا أدري من أتيت بحكمك هذا؛ وأهل هذه البلاد يحبون الإسهام كثيراً في أمور الخير، وبخاصة إذا وثقوا بالقائمين عليه، وهم -والحمد لله- ثقات، والجمعيات -والحمد لله- تحظى بكثيرٍ من التأييد من القادرين والمستطيعين والموسرين، وأيضاً القائمون على الجمعيات فيما أعلم أخيار، وحريصون جداً على أن يصرفوا ما يردهم من أموال في وجوهها، وفيما نعلم أنها محكومة بأنظمة سواء مصادق عليها من جهة وزارة العمل والشئون الاجتماعية، وهي دقيقة جداً في هذا، ومحكومة بضوابط وقوائم ...إلخ.
وحتى الإدارة فهي حديثة؛ لكن أحياناً قد يمكن النظر إلى حدٍ ما: تباطؤ وصول الإعانات أحياناً، فقد يكون هناك مزيد تحر، هذه قد تحتاج فعلاً إلى أن يُقضَى على شيء من الروتين، ويُقضَى على شيء من هذه الأشياء، وإن كان دافعها خير وتحرٍ وحرص على براءة الذمة؛ ولكن ينبغي أيضاً لهذا الحرص أن يصحبه حرصٌ على هؤلاء الذين ينتظرون هذا المدد من هذه الجمعيات، وبخاصة فيما يتعلق بالجمعيات التي تعين على المساعدة في الزواج.
السؤال الثاني يقول: ما رأي فضيلتكم في القسم النسائي في هذا المركز؟ هل هو من أبواب الخير أم من أبواب الشر التي فتحت على المسلمين في هذا العصر؟
السؤال الثالث: هل يجوز للمرأة أن تمارس الألعاب الرياضية؛ لأنه يوجد قسم في هذا المكان مخصص للنساء لممارسة الرياضة؟ فما هي ضوابط هذا العمل؟
الجواب: كلها تحتاج إلى تفصيل.
أما مجال الدعوة إلى الله فلا شك أنه حقٌ، وأظنه -إن شاء الله- في ذهن القائمين على هذا المركز، وبخاصة أيضاً إذا عرفنا أن الدعوة إلى الله عز وجل ميادينها واسعة، حينما يأتي المنتسب إلى هذا المركز، ويعلم أن قواعد المركز ملتزمة بالشرع، ويأتي هو ملتزماً بالشرع في أداء أنشطته وممارسة أنشطته، فهذا نوعٌ من الدعوة، بمعنى: أنه لا ينتسب إلى هذه المراكز إلا من يحافظ على شعائر هذا الدين، سواء أكانت بإقامة الصلوات أو بالالتزام بالأمور الشرعية فيما يتعلق بكشف عورات أو السباحة ... إلخ، والسباحة إذا كانت بنية صالحة: فهي عبادة، وقد قال عمر رضي الله عنه: [[علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل ]] مثلاً إذا دخل بقصد: إعداد القوة، لقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] ويبدو لي أنه يحسن أن تمتلئ ردهات المركز بكتابة هذه الآيات وهذه الأحاديث التي إذا دخل المشارك بنية تطبيقها، كان دخوله نوعاً من الدعوة إلى الله عز وجل، كإصلاح النفس.
فالدعوة ميدانها واسع، وإن كنتُ أقول: قد لا يلزم أن يكون النشاط الذي يقوم به هذا المركز نفس النشاط الذي يقوم به جهاز متخصص بالدعوة كوزارة الدعوة والشئون الإسلامية مثلاً أو وزارة الأوقاف والدعوة والإرشاد، بل يمكن أن تكون الدعوة من خلال طبيعة النشاط، ما دام المنتسبون سينضبطون بضوابط الشرع، وليذكر المنتسبون بهذه النصوص الشرعية وبهذه الضوابط الشرعية، فيبدو لي أن هذا قدرٌ كبيرٌ جداً في المساعدة على الالتزام والانضباط الشرعي.
عموماً القسم النسائي أيضاً ينطبق عليه ذلك إذا كان ملتزماً ومنضبطاً.
ولا شك أنه قسم حساس، ومع الأسف أنه قد يأتي أناسٌ مغرضون يسيئون، وأرجو أن يكون عند المسئولين -وظننا حسن جداً بهم- الحس المرهف؛ بحيث يكون الداخل إلى المركز ملتزماً بضوابط هذا المركز القائم على الضوابط الشرعية التي هي دستور هذه البلاد وقانونها.
ومن هنا أرجو مخلصاً ألا نسمع عن المنتسبات لهذا المركز -سواء أكُنَّ من الإداريات والقائمات عليه إدارياً أو المنتسبات ممن يمارسن الأنشطة- أرجو ألا نسمع إلا ما يسر، وما يعكس أخلاق النساء في هذه البلاد، فنحن مسلمون، ولا عز لنا إلا بالإسلام، ولا قيمة لنا إلا بالإسلام، ونرفض أي مبدأ أو أي دعوة مهما كانت هذه الدعوة، ومهما كان غلافها، فالذي أرجوه مخلصاً أن يكون من ذات المركز رقيبٌ؛ حتى يكون منضوياً تحت هذه المظلة التي نعيش في أمنها وأمانها ورخائها وتحت رايتها لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجواب: لا شك أن هذا -مع الأسف- من الأمور التي يندى لها الجبين، لأن الله عز وجل في قوله سبحانه: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً [الإسراء:23] والكبر هنا مطلق، فالكبر يصل إلى ما قبل الوفاة؛ لأنه لو كان قوياً سليم القوى، فما لك منه؟! ولو كان يخدم نفسه فأين البر؟! فإذا كانت كلمة (أُف) منهياً عنها، فما بالك بما هو أشد منها؟! فلا شك أن الأمر خطير، اللهم إلا إذا كان شيئاً لا تستطيعه كما لو كان رعاية صحية، فإذا كان رعاية صحية كأن يحتاج إلى علاج أو يحتاج إلى تنويم في المستشفى، فهذه أمور أخرى ولا شك، وأحياناً قد يكون أحد الوالدين مصاباً بجلطة، وإذا كان في المستشفى فإنه يُخدم أكثر، بل ربما لو بقي عندك لمات، باعتبار أنك لا تستطيع أن تغذيه، لأنه لا يتغذى من فمه، ولا يتغذى بطريقة طبيعية، فهذه أمور مستثناة إذا كان المستشفى فعلاً أصلح له وأكثر رعاية، لكن يبقى عنايتك به، وهو هناك في المتابعة والملاحظة والحرص على أن تكون بجانبه والصدق في الدعاء له، فهذه قضايا لا بد من رعايتها والاعتناء بها.
الجواب: أنا أرجو أن يكون هذا هو السؤال الأخير؛ لأنني أرجو أن يكون كل ما ذكرتُه يصب في هذا الأمر، فما دام أننا سمعنا الرعاية الاجتماعية، وسمعنا كثيراً من الميادين والمجالات، وكثيراً من هؤلاء الذين يعينهم الله سبحانه وتعالى، فيقومون بهذه الأدوار النبيلة في رعاية هؤلاء ممن نقصت قدراتهم، فحقٌ علينا فعلاً أن نتقرب إلى الله عز وجل وأن نجعل ديننا واقعاً في أعمالنا، ونحن لا نتكلم عن مثاليات، بل نتكلم عن شيء واقع، تاريخنا حافل، ومع الأسف قد تكون المتغيرات التي أشرت إليها فيما يتعلق بالصناعة وما الصناعة، والمجتمع الحضري والبدوي، مع الأسف قد يكون لها تأثير؛ لكن لا ينبغي لنا أبداً أن نتأثر بها، وبخاصة أن أمامنا نصوص شرعنا حية ماثلة، ومذكرون وواعظون، وكثيرٌ من الميادين والمجالات تقابلنا، فتذكرنا بهذه النصوص في مناهجنا الدراسية وفي منابرنا، فينبغي أن نتقي الله عز وجل، وكما قلتُ أنا لم أورد نصوصاً لأني أعرف أن كثيراً منها نعرفه وكثيراً منها نسمعه ولله الحمد، وكتاب رياض الصالحين كله مليء بمثل هذا، فمجرد أن يُفتح أي باب من كتاب رياض الصالحين تجد فيه من هذا الشيء الكثير.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر