أما بعــد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله -رحمكم الله- حيثما كنتم، فهو سبحانه يعلم ما أخفيتم وما أعلنتم، فزكوا نفوسكم بالتوبة وطهروها، وأيقظوها من سِنَة الغفلة وذكّروها أن لكم موعداً لن تُخلَفوه، وموقفاً بين يدي ربكم لا بد أن تقفوه، ولسوف تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، ثم توفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون.
أيها المسلمون: إن العزة والكرامة من أبرز الخلال التي نادى بها الإسلام، وغرسها في نفوس المسلمين، وتعهَّد نماءها بما شرع من عقائد، وسن من أحكام، ووجَّه من آداب؛ فالمؤمن عزيزٌ بما أعزه الله، وبما منحه من كرامة، قال الله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] له الكرامة والعلو: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].
وكيف لا يكون عزيزاً وهو في معية الله وكنفه ورعايته؟!
أي تكريمٍ وإعزاز أعظم وأعلى من مخلوقٍ استخلفه الله في أرضه، وسخر له مخلوقاته في أرضه وسماواته، وكلفه بإقامة الحق، ونشر العدل، وإشاعة الخير، وبسط الفضيلة؟!
ربه في معيته، والملائكة الكرام في حفظه، ويطمع ويطمح بإيمانه أن يكون رفيقاً للَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً!
هل بعد هذه المعاني الكبيرة، والمشاعر العالية من تكريمٍ وعزة؟!
إنها إذا سرت في كيان فرد، جعلت منه إنساناً كريماً، كبير الآمال، واثق الخطى، لا يحني رأسه لمخلوق، ولا تخضع رقبته لجبار، أبِيَّاً على الضيم، عصيَّاً على الذل والهوان.
إن المسلم بإيمانه وتوحيده، وحسن ظنه بربه، ينقل أقدامه على هذه الأرض مكيناً كريماً في عزة وخضوعٍ لله وخشوعٍ وخشيةٍ وتقوى ومراقبةٍ لله في السراء والضراء.
ومن هذا الخضوع ترتفع الجباه، ومن هذه الخشية يصمد المؤمن ويصد كل ما يأباه، ومن هذه المراقبة لا يتطلع إلا إلى رضا مولاه.
يقال ذلك -أيها الإخوة- والمتحدثون يتحدثون هذه الأيام عن الهجرة وحَدَثها، وتاريخها، وعبرها، ولكنه مع الأسف في كثيرٍ من أحواله حديث ذكريات وسرد لأحداثٍ مضت وانقضت، من غير توجهٍ جاد نحو الاستفادة الحقة والتأسي الصادق واقتران الأقوال بالأعمال.
وإن درس العزة تحتاجه الأمة في حوالك أيامها، ومظاهر تسلط أعدائها، وصور الذلة والخنوع في كثيرٍ من جنباتها.
إن درس العزة والثقة يتجلى في ثقة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم بربه، ويقينه بحفظه ونصره، قال الله تعالى: إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40] ثم يقول عليه الصلاة والسلام لصاحبه: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما ).
ليكن العدو من يكون وما يكون، في شدته وبطشه وقوة سلاحه وكثرة جنده، فالله أقوى، والمسلم بربه أعز، ولن يُغْلَب صفٌ يكون رب العزة معه بالنصر والتأييد.
حساب السنين بتاريخ الهجرة سُنَّةٌ عُمَرية، هدى الله عز وجل إليها أمير المؤمنين المُحَدَّث عمر بن الخطاب وإخوانه من الصحابة، رضوان الله عليهم، حين تشاوروا في وضع تاريخ يبدأ منه حساب المسلمين، لقد اتفقوا على حدث الهجرة، لأنه الحدث الذي قامت به دولة الإسلام، وصارت به للمسلمين دار، ونشأ لهم به كيان، وشهر الله المحرم جاء بعد شهر الحج، والحج هو آخر الفرائض الكبرى تشريعاً.
فاليوم في الإسلام يبدأ من غروب الشمس، والشهر يبدأ من ظهور الهلال، والسنة تبدأ من شهر الله المحرم، هذا هو تاريخ المسلمين، وهذا ما جرى عليه عملهم، وتعاملوا به في كتبهم ومكاتباتهم، ومواعيدهم وآجال حقوقهم وديونهم، إنه تاريخٌ في ذاكرة كل مسلم، عند إشراقة شمس كل يوم، وإطلالة كل شهر، وحلول كل عام.
وظل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يؤرخون به أحداثهم، ويسجلون به وقائعهم، ويكتبون به مكاتباتهم، ويثبتون به مواعيدهم، ويقدِّرون به أعمارهم، بل تقوم جملةٌ من الأحكام على هذا التاريخ المجيد.
لقد صار هذا التاريخ مترسخاً في نفوس كل المسلمين، عامتهم وعلمائهم، منذ الطفولة المميزة وحتى الشيخوخة المتأخرة، فهو مرتبط بهم ارتباط الأحكام بمواقيتها: في الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وفي جزئيات الأحكام: في العيدين، وأيام البيض، وستٍ من شوال، وعشرٍ من ذي الحجة، وأيام التشريق، وعاشوراء، في أحكامٍ وأيام لا تقع تحت حصر، يضاف إلى ذلك أيام الإسلام المجيدة المرتبطة بأحداث التاريخ، من مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرته، وأيامه، ثم فتوحات الإسلام من بعده في القادسية ، واليرموك ، وفتح الأندلس ، وحطين ، والقسطنطينية ، وكل انتصارات المسلمين، وتاريخ أئمة الإسلام وأعلام الأمة.
لقد جاءت عهود الاحتلال من قِبَل الأعداء، فاحتُلَّت كثيرٌ من ديار المسلمين، وتنبه هؤلاء الأعداء المحتلون لدور هذا التاريخ وأثره في ربط المسلمين بدينهم ومجدهم، في يومهم وشهرهم وعامهم.
لقد أدركوا دور هذا في الدين والتاريخ، فخططوا للفصل بين ذاكرة الأمة وتاريخها، فأدخلوا تاريخاً لا يمت لشعائر الإسلام بصلة، ولا تذكّرها أيامه وشهوره وأعوامه بدينها وأحكامها ومجدها، بل إنه تاريخٌ يُشَوِّش الأذهان، ويخلط الأزمان، تاريخٌ يُشْعِر المسلمين بالذلة والتبعية والدونية.
لقد عمل الأعداء ودأبوا حتى استطاعوا اقتلاع التاريخ الهجري الإسلامي العُمَري الراشدي من جميع بلاد المسلمين، ما عدا بلاد الحرمين الشريفين ، صانها الله وحماها، وستظل بإذن الله حافظةً للعهد، قائمة بالحق، صامدةً ثابتة، مع علمنا وإدراكنا لمحاولة الأعداء التي لا تنثني -مما يؤكد ضرورة اليقظة- ولكنها ثابتةٌ بإذن الله، وكيف لا يكون ذلك، وهي البلاد التي تُحَكِّم شرع الله، وانطلقت منها البعثة والهجرة، وانبعثت منها أفواج الفتوح ورايات الحق؟!
أيها الإخوة: إن موقف الدرس والعبرة، وحديث العزة والهجرة، ليستوقف المتأمل، كيف ألغت غالبية المسلمين من ذاكرتها الشهور الهلالية، والسنين الهجرية، والقرون الإسلامية، وأحلت محلها تاريخ الأعداء وقرون المحتلين؟!
الله أكبر! ما هذه الذلة؟! وما هذه المهانة؟!
لقد جعلوا التاريخ الذي وضعه يوليوس قيصر بدلاً من التاريخ الذي وضعه عمر إمامهم وخليفتهم وصاحب نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ ورضي الله عن عمر وعن الصحابة أجمعين.
لقد رحل المحتل بعسكره، ولكنه مع الأسف قد غرس البذور في رءوس المنهزمين والمهازيل والأذلاء، فحصلت الاختراقات المطلوبة، فعندما رحل الأعداء كان الطمس قد عم، والانحلال قد حل، وإن شئتم مزيداً من المآسي؛ فانظروا كم تتحدث الصحف ووسائل الإعلام عن الاستعداد والتخطيط لدخول القرن الحادي والعشرين.
إنها أمورٌ تُحْشَر حشراً، وإصرارٌ على حشو الأذهان بها قسراً، وكأن دورة الكون والتقدم الحضاري للبشرية، مرتبطة بهذه القرون وحدها.
إنكم لتعلمون، ويعلم كل منصفٍ عزيزٍ مستقل، أن التقدم الإنساني ليس مرتبطاً بقرنٍ دون قرن، فالمسيرة الإنسانية قد بدأت فيما مضى، وسوف تستمر بإذن الله وما شاء الله، ولا علاقة لها بحساب السنين من أي نوعٍ كان، شمسياً أو قمرياً أو غيرها.
أيها الإخوة: إنه لمن المحزن والمخزي، وإنه لمن الذلة والهوان أن ترى دول الإسلام تؤرِّخ وتحتفل وتبتهج بتاريخ الذين طمسوا دينها، وألغوا تاريخها، وامتهنوا موروثاتها.
كيف ترضى أمةٌ هي خير أمةٍ أخرجت للناس، بمن يمحو ذاكرتها، وذاكرة شعوبها، ويلغي تاريخها ويطمس مجدها؟!
وإن مما يسوء أن ترى أقلاماً في الأمة، وعقولاً في الناس، قد جدَّت في سلوك مسالك السخرية بتراث الأمة، والتشكيك في ثوابتها، ليتجلى فيها ومن خلالها إهدار الكرامات، واستباحة الحرمات، وتَرْهَقَ الوجوهَ الذلةُ، ويروجَ الباطلُ، وينزوي الحق، ويسود المنكر، ويتلاشى المعروف.
إنها زرافاتٌ من حملة الأقلام، ووجوه الإعلام، قد صُنِعَت رءوسهم خارج ديار الإسلام.
إن تصورَهم لكثيرٍ من حقائق الإسلام، وحكمَهم في كثيرٍ من القضايا لا صلة له -والله- بدين الله، ولا ارتباط له البتة بشرع الله، بل مع الأسف كل الأسف أن آخر ما يهتمون به هو الإسلام وحاضره وتاريخه ومستقبله ومصيره.
لقد كان المخلصون يظنون أن زوال الاحتلال وانكشاف خطط الأعداء كفيلٌ بإعادة هؤلاء إلى صوابهم، ولقد ازداد الأمر وضوحاً وجلاءً في معركة أهل الإسلام هذه الأيام مع اليهود المحتلين ومَن شايعهم!
أما كان هذا كافياً في مراجعة الحسابات وتصحيح الأخطاء؟!
ولكن مع شديد الأسى لقد كان كثيرٌ من ذلك وهماً، مع علمهم الجازم أنهم هاجت في دمائهم أصول ديانتهم المحرفة ولوثات تعصبهم المقيت، فهجموا على بلاد الإسلام، يبغون محو الأمة والدين والحضارة، وفي ملاقاة هذا العدوان لا تسمع إلا أحاديث الكُتَّاب والمثقفين عن اللهو والغناء، والتسابق المحموم في قنوات الرقص والمجون، فضلاً عن المنكر الصارخ في الإلحاد والتنكر للدين والتاريخ والتراث.
كيف ترجى عزة أو يؤمَّل النصر، وقد اهتزت العقيدة، وفُقِد المثل الأعلى، وطمس التاريخ؟!
بل لا تكاد ترى في مناهجهم وإعلامهم إلا ما يصور الذلة والخنوع والتبعية، وما يُجَرِّد الأمة بأفرادها من كل معاني العزة والعفة والغيرة، وتماسك الشخصية، والبعد عن مواطن الطهر النفسي والجسدي.
وعلق على هذه الآية الإمام القرطبي رحمه الله، وهو ممن عاش أيام سقوط الأندلس وأفول شمس المسلمين هناك.
يقول رحمه الله: "هذا تنبيهٌ لذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين تستحق؛ فمن طلب العزة من الله وحده، وصدق في طلبها في افتقارٍ لربه وذلة وسكونٍ وخضوع، وجدها عند الله -إن شاء الله- غير ممنوعة ولا محجوبة عنه، وفي الحديث: {مَن تواضع لله رفعه }.
قال: ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده.
وقد ذكر الله أقواماً طلبوا العزة عند من سواه، فقال: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء:139-140] .
قال رحمه الله: فأنبأك صريحاً لا إشكال فيه أن العزة لله سبحانه، يُعِزُّ بها من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء، ومن اعتز بالله أعزه الله، ومن اعتز بغيره أذله الله.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، فالحق أبلج، والمحجة بيضاء، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، والعزة لله وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، ذو العزة والجلال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، شامخ العزة وكريم الخلق وشريف الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل، والتابعين لهم ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المآل.
أما بعـد:
فاتقوا لله عباد الله، واستقيموا على طاعته؛ فقد قال: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14] .
أيها المسلمون: في ماضي تاريخ المسلمين مرت فتراتٍ حوالَيه، مستهم فيها البأساء والضراء وزلزلوا، فاجتاح التتار ديار المسلمين، فضج منهم السهل والجبل، وأريقت دماء، وسجل التاريخ هول المناظر، وبشاعة الأحوال، وقد وُقِّف زحفُهم، ولكن لم يوقفه إلا العودة إلى الأصل والمنبع، إنه الإسلام ولا شيء غير الإسلام الذي تردد في بطاح عين جالوت ، ولم يوقف تيار التتار سوى هذا النداء، نداء الإسلام: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8] .
أيها الإخوة: إن العزة الحقة حقيقةٌ تستقر في القلب، فيستعلي بها المرء على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله، عزةٌ يستعلي بها على الشهوات المذلة، والرغائب القاهرة، وحين تتحقق العزة لمؤمن، فلن يملك أحدٌ إذلاله وإخضاعه، وإنما تذل الناسَ شهواتهم ورغباتُهم، ومطامعُهم ومخاوفهم.
أيها الإخوة: ليست العزة عناداً جامحاً، يستكبر على الحق، ويتشامخ بالباطل، وليست طغياناً فاجراً، يضرب في عتوٍ وتجبر، وليست اندفاعاً، يخضع لنزوة، ويذل لشهوة، لكنه استعلاءٌ على الذلة والمهانة، واستعلاءٌ على الخضوع لغير الله.
هاهو ربعي بن عامر ، ابن الصحراء الجافة القاحلة، يباشر الإيمانُ قلبَه، ويستبطن القرآن بين جنبيه، فيقف أمام قائد الفرس، فيسأله رستم ، بأبهته وعسكره: من أنتم؟ فيجيب ربعي بن عامر في عزة المؤمن إجابةً خلدها التاريخ: [[نحن قومٌ ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ]] إنها عزة النفس، وعلو العقيدة، وشموخ الراية التي يقف تحتها المؤمن في مواجهة أعداء الله.
إنها الثقة بالحق الذي معه، والخير الذي يحمله، عزةٌ تجعله يحمل الآخرين على الحق، لا أن يذوب معهم في الباطل، وهي قبل ذلك وبعده الثقة بالله، والثقة بغلبة الحق وأهله، مهما أصابه من قرحٍ في مسيرة الحياة الطويلة، كما قال عز وجل: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:139-141].
فهل يفقه هذا أهل الإسلام؟! وهل يعي المسلمون تاريخهم ومسيرة دينهم؟!
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز قائلاً عليما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] .
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك مـحمد، وعلى آله وأزواجه وذريته، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن سائر الصحابة أجمعين، المهاجرين منهم والأنصار، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة، وسائر أعداء الدين.
اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك الصالحين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأعزه بالحق، وأعز الحق به، وأعز الحق به، واجعله نصرة للإسلام وللمسلمين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم كتابك وسنة نبيك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ؛ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر