أما بعــد:
أيها الإخوة! أشكر الله -عز وجل- على هذا اللقاء الطيب المبارك، ثم أشكر من كان سبباً لحضوري ومثولي بين يديكم لألقي هذه الورقة في مهرجان الجنادرية وأشكر القائمين عليه واللجنة المنظمة لهذا النشاط الثقافي الذي أرجو أن يعدلوا فيه عن كلمةٍ على هامش المهرجان، فأرجو أن يُعتبر النشاط الثقافي زميلاً للمهرجان، فإن الفكر وتربية الفكر، وغذاء الفكر أظنها مقصودٌ أعظمٌ من مقصود المهرجان، فأرجو أن تستبدل هذه العبارة لأني سمعتها هذه الليلة كما سمعتها ليلة أمس، فأرجو أنهم لا يعتبرون أنها على تهميشٍ حقيقيٍ، وإنما هي عبارة دارجة، قد يكون من لفظها لم يقصد المعنى الذي قد يتبادر إلى بعض الذين لا يعرفون مقاصد هذا المهرجان الطيب المبارك الموفق، فهو تراثٌ شعبيٌ نابعٌ من فكر أصيل، ويقصد -أيضاً- تثبيت الفكر الأصيل فكر هذه البلاد النابع من دينها، ومنطلق من رسالة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة! كما سمعتم الموضوع هو "أدب الحوار" وهذا موضوع اختاره المنظمون ورغبوا من محدثكم أن يتكلم فيه، فسوف يكون الحديث عن تعريفٍ للحوار، وبيانٍ لغايته، ثم إشارة إلى بعض أصول الحوار، ومبادئه، ثم كلام في بعض آداب الحوار.
أقول: إن الذي سوف تسمعونه ليس حصراً للأصول، ولا للآداب؛ لأن هذا الأمر وبخاصة من يطلع ويقرأ؛ فإنه سوف يجد فيما يسمع أموراً لم تُذكر، أو لعله لم يسمعها، لأن الأمر فيه سعة، والإحاطة به في مثل هذا المقام متعذرة، ولكن لعلَّ في بعض الأصول والمبادئ التي ذكرت ما يغني عما لم يُذكَر.
أيها الإخوة! الحوار والجدال كلمتان لهما معناهما في اللغة ويقوم أحدهما مقام الآخر.
الحوار من المحاورة وهي: المراجعة في الكلام، والجدال من: جدل الحبل إذا فتله، الجدال في أصله كان ينبغي أن يكون ممنوعاً، وفي أصل اللغة كان يستعمل لمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق، ووضوح الصواب، ثم استغني في مقابلة الأدلة بظهور أرجحها؛ بمعنى أن تقابل فيما بينها حتى يتبين الأرجح منها.
والحوار والجدال كلمتان ذواتا دلالة واحدة، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1].
ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس مناقشةٌ بين طرفين، أو أطرافٍ يُقصدُ بها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، ورد الفاسد من القول والرأي، وسوف يتبين هذا من غاية الحوار إن شاء الله، وقد يكون من الوسائل المستخدمة في الحوار، أو في الجدال الطرق المنطقية والقياسات الجدلية من المقدمات والمسلمات مما هو مبسوطٌ في كتب المنطق، وعلم الكلام، وآداب البحث والمناظرة، وأصول الفقه.
إذاً: هو تعاون بين المتناظرين على معرفة الحقيقة والتوصل إليها؛ ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق.
يقول الحافظ الذهبي : إنما وُضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأذكى في العلم لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف.
هذه هي الغاية الأصلية، وهي جلية بيِّنة كما تلاحظون، وثمت غايات وأهداف فرعية، أو ممهدة لهذه الغاية منها:
1/ إيجاد حل وسط يرضي الأطراف: أحياناً قد تحس أن الحوار لا يمكن أن يصل إلى نتيجة قطعية، وهذا سوف نشير إليه في أصول الحوار.
إذاً: قد يحتاج الحوار ليس إلى نتيجة قطعية وإنما لتقريب وجهات النظر، وهذا هدف تمهيدي، ولكنه قد يكون نهائياً في مرحلة.
2/ التعرف على وجهات نظر الطرف الآخر، أو الأطراف الأخرى أيضاً هو هدفٌ تمهيدي هام.
3/ وهو التنقيب والبحث من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرؤى والتصورات المتاحة من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمكن، ولو في حوارات تالية، لأنه أحياناً بالغايات التمهيدية نعرف وجهة نظر الأطراف، وليس بالضرورة أن نصل إلى نهاية في أول جلسة، أو في أول مجلس حوار، ويبدو لي أنه إذا وصلنا إلى هذه الغاية في بعض ما يتطلبه فهذا جيد.
إذاً: هذا هو الحوار في تعريفه وغايته.
يعني: أن الخلافَ عادةً لا يكون إلا في مسائل مختلف فيها، لأن القطعيات والمسلمات لا حوار فيها، وسوف نذكر هذا في أصل من الأصول، إنما الحوار يكون في الأمور المختلف فيها.
إذا كان كذلك، فلا بد أن نشير إشارة إلى أن الخلاف لا بد أن يقع في الناس، ولو يتصور أننا حينما نقيم ندوات أو جلسات حوارية بين مثقفين ومفكرين ومتخصصين أننا نقضي على الخلاف أبد الدنيا، هذا لا يمكن.
ومما أحببت أن أُنبه كذلك إلى قضية تتعلق في وقوع الخلاف بين الناس، فنقول: الخلاف واقع يبن الناس في مختلف العصور والأمصار، وهو سنة الله في خلقه، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطبائعهم ومدركاتهم ومعارفهم وعقولهم، وكل ذلك آية من آيات الله نبَّه عليه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22] هذا في الاختلاف الظاهر، وهذا الاختلاف الظاهري دال على الاختلاف في الآراء والاتجاهات والأغراض، وكتاب الله العزيز يُقرر هذا في غير ما آية مثل قوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119].
يقول الفخر الرازي : والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال، ومن معنى الآية: لو شاء الله، لجعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة لا رأي لهم فيه، ولا اختيار، وإذاً لما كانوا هذا النوع من الخلق المُسمَّى البشر، يعني: لو لم يختلفوا لما كانوا بشراً، بل لكانوا في حياتهم الاجتماعية كالنحل، أو كالنمل، ولكان في الروح كالملائكة مفطورين على اعتقاد الحق والطاعة لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] لا يقع بينهم اختلاف ولا تنازع، ولكن الله خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا ملهمين عاملين بالاختيار وترجيح بعض الممكنات المتعارضات على بعضها، ولا مجبورين، ولا مضطرين، بل وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار.
أما قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119] اللام هنا في "لذلك" يقول أكثر المفسرين: ليست للغاية أي: ما خلقهم ليختلفوا، نحن نعلم أنه خلقهم لطاعته وعبادته، فهو لم يخلقهم للاختلاف، إذاً ما هو هذا الحرف؟
معلوم أنَّ اللام لها أغراض ولها معانٍ في اللغة، قالوا: إن اللام هنا للعاقبة والصيرورة، أي: من ثمرة خلقهم الاختلاف بمعنى: أن يكونوا فريقين فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7] وطبعاً اللام يسمونها لام العاقبة كما يستشهد بالبيت المعروف:
له ملكٌ ينادي في كل يومٍ لدوا للموت وابنوا للخراب |
ابنوا للخراب، ولدوا للموت ليس معناها لدوا من أجل الموت، إنما لدوا وعاقبة ما تلدون للموت، وابنوا ولكن ما تبنونه عاقبته للخراب، لا علته الخراب، فاللام هنا للعاقبة، وليست للتعليل، وقد تُحمل على التعليل من وجهٍ آخر، أي: خلقهم ليستعد كلُّ منهم لشأنٍ وعملٍ، ولذلك خلقهم، أي: يستعدوا حينما كانت عندهم اختلافات.
إذاً: ليستعدوا ويتهيئوا فكل مُيَسرٌ لما خلق له، أي: خلقهم ليستعد كلٌ منهم بشأنه وعمله، ويختار بطبعه أمراً وصنعةً مما يستتب به نظام العالم، ويستقيم به أمر المعاش، فالناس محامل لأمر الله، ويتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً، خُلِقُوا مُستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم ومشاعرهم وما يتبع ذلك من إرادتهم واختيارهم في أعمالهم ... ومن ذلك الإيمان والطاعة والمعصية.
هذا الخلاف متقرر وأمرٌ معروف، لكن هنا نقطة لا بد من التنبيه إليها وهي؟
وضوح الحق وجلاؤه، أي: أنه على الرغم من حقيقة وجود هذا التباين بين الناس في عقولهم ومدركاتهم وقابليتهم للاختلاف إلا أن الله وضع على الحق معالم، وجعل على الصراط المستقيم منائر، وعليه حُمِل الاستثناء في قوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:119] وهو المنصوص عليه في آية أخرى في قوله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213] وذلك أن النفوس هناك جردت من أهوائها، وجدَّت في تلمس الحق، فإنها مهدية إليه، بل إن في فطرتها ما يهديها، وتأمل ذلك في قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30]، قال بعدها: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32] وفي مثل هذا يقول الله عز وجل: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30] فهو أصل الفطرة، ولهذا جاء في الحديث النبوي: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) وقال عليه الصلاة والسلام: (كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء- أي: مستوفية الخلق- هل تحسون فيها من جدعاء؟ -أي: مقطوعة الأذن- حتى أنتم تجدعونها ) كذلك الإنسان مخلوق على الفطرة ومهدي إلى الحق، لكن تأتي الأهواء، وتستهويه الشياطين، وقرناء السوء، فيتأثر وقد لا يهدى إلى الحق بسبب هذه العوامل.
يوضح جلاء الحق ووضوحه أن أصول الدين، وأمهات الفضائل، وأمهات الرذائل، مما يتفق العالم الرشيد العاقل على حسن محموده وحمده، والاعتراف بعظيم نفعه، وتقبيح سيئه وذمه، كلُّ ذلك جاء في عبارات جلية واضحة ونصوص بينة لا تقبل صرفاً ولا تأويلاً ولا جدلاً ولا مراءً، وجعلها أم الكتاب الذي يدور عليها وحولها، فكل ما جاء في دين الأحكام، ولم يعذر أحد في الخروج عليها -وسوف نُشير إلى هذا في أحد أصول الحوار- وحذَّر من التلاعب بها، وتطويعها للأهواء والشهوات والشبهات، بتعسف التأويلات والمصوغات مما سنذكره كأصل من أصول الحوار، أما ما دون ذلك فقد عُوجِلَ الخلف إذا ما اختلفوا في غيرها، ورفع الحرج عنهم، بل جعل للمخطئ أجر، وللمصيب أجران تشجيعاً لنظره، وتلمس الحق، واستهداء المصالحة الرابحة للأفراد وللجماعات، ولربك في ذلك الحكمة البالغة، والمشيئة النافذة.
إذاً: هذا بما يتعلق بالخلاف ووجوده ووقوعه ووضوح الحق فيما بين ذ
ثانياً: صحة النقل في الأمور المنقولة لا بد منها، وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة: إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مُدَّعياً فالدليل.
هذه قضية لا يجوز أن يدخل المتحاوران إلا وقد تسلحا بها، لأن المادة التي معهما أو يريدان أن يطرحاها فيما بينهما لا بد أن تكون مُدعمة بدليل إن كانت قضايا عقلية، وإذا كانت أخباراً لا بد أن تكون مثبتة، وفي التنزيل جاء قوله سبحانه وتعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111] وقد جاء ذلك في أكثر من آية، وجاء قوله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي [الأنبياء:24] وجاء في آية أخرى في بني إسرائيل: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93] هذا هو الأصل الأول.
قال بعض المفسرين: وهو تناقض، فالسحر لا يكون مستمراً، والمستمر لا يكون سحراً.
ولعلي أنقلكم إلى بعض الأمثلة التي تشتمل على شيء من التناقض، أحياناً قد يريده المحاور، وهذه الأمثلة متدرجة أحدها بسيط جداً، والثاني إلى حدٍ ما أعمق، والثالث أكثر عمقاً.
الأول مثلاً: لو أن أحداً عنده ولدان سعد وسعيد، فأعطى سعداً ولم يُعطِ سعيداً، فقيل له: لماذا أعطيت سعداً؟ قال: لأنه ولدي، وهذا تعليل ساقط؛ لأنه سيقال له: وسعيد أيضاً ولدك، فمثل هذا التعليل غير مقبول.
صورة أخرى في الخلاف بين أهل العلم من الفقهاء: بعضهم يرى أن بين الماء الطهور والطاهر فرق يقول: الماء طاهر، وطهور بمعنى يتوضأ به، لماذا طهور؟ قال: لأنه مائع -سائل- فيُقال له: الدهن أيضاً سائل، وأنت لا تقول بأنه طهور.
إذاً: هذا التعليل لا يصلح؛ لأنه ينقض الدعوى.
مثال ثالث وهو أعمق قليلاً: هو أن بعض طوائف الكفار ينكرون أن تدرك القطعيات بغير الحواس، يقولون: ليس هناك قطعي إلا عن طريق السمع والبصر واللمس، فالمحسوسات هي التي نقطع بها، أما العقليات فلا نقطع بها، فيقولون مثلاً: لا قطع إلا عن طريق الحواس، يقال لهم: هذه قاعدة: لا قطع إلا عن طريق الحواس. حسية أو معنوية؟
يقولون: لا تدرك القطعيات إلا عن طريق الحواس، هذه القضية حسية، أو فكرية؟ فيقولون: فكرية! إذاً، إذا قالوا هذا فقد نقضوا منهجهم، وهناك ردود أخرى منها: أن الجزء أقل من الكبير, والواحد أقل من الألف إلى آخره، لكن هذه فقط من الردود عليهم والتناقض الظاهر.
فمثل هذا المسلمات لا يجوز النقاش فيها عند العقلاء، أو تكون مُسلمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك، ونحن مسلمون نضرب بأمثلة إسلامية، فبالوقوف عند الثوابت والمسلمات والانطلاق منها يتحدد مريد الحق ممن لا يريد إلا المراء والجدال والسفسطة، فإذا كانوا من ديانة واحدة وهناك قضايا دينية مُسلَّمة، فلا يجوز النقاش فيها، كذلك إذا كانت قضايا عقلية.
إذا كان غير مسلم فإنه يناقش في إثبات أصل الإسلام عنده، ولهذا نقول مثلاً: في الإسلام الإيمان بربوبية الله وعبوديته، واتصافه بصفات الكمال، وتنزهه عن صفات النقص، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم، والحكم بما أنزل الله؛ هذه قضايا مُسلمة لا يجوز أبداً للمسلمين أن يتناقشوا فيها، إذا كانوا مسلمين، إذا كنت مسلماً هل يتصور أن مسلماً يناقش: هل يُطَّبق شرع الله، أو لا يطبق؟ إلا إذا كان غير مسلم، وإذا كان في نفسه حرج من تطبيق شرع الله فعليه أن يراجع دينه، لأن هذه قضايا مُسلَّمة في الدين، فالقضايا المسلمة لا يجوز أن تكون محل نقاش، ففي قضايا الإسلام وربوبية الله سبحانه وتعالى وعبوديته، واتصافه بصفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم، فهذه عند المسلمين قضايا قطعية لا تقبل النقاش، ولا يجوز أن يتناقش فيها مسلم، لأنها أصل الإيمان، وكذلك الحكم بما أنزل الله، وتطبيق الشريعة، لا يجوز أبداً أن يكون محل نقاش.
قل مثل ذلك: في الربا، فالربا محسوم؛ والزنا، وتعدد الزوجات قضية محسومة لا يجوز النقاش فيها من حيث إثباتها أبداً، ومثل: عموم الحجاب، لا يجوز النقاش في أصله لأنه محسوم في الكتاب والسنة، لكن قد يكون في جزئيات من المسائل غير مسلمة.
نعم. قضية كشف الوجه -مثلاً- قضية تقبل النقاش، لكن حجاب المرأة كحجاب لا يجوز أبداً في أي حال، وكذلك قضية الربا لا يجوز، لكن بعض الصور في مسائل الربا يمكن أن تقبل النقاش، أما مبدأ الربا فإنه لا يجوز بأي حال أن يتناقش فيه.
ولهذا نقول: إذا كان الأمر كذلك، فلا يجوز أن تكون هذه محل حوار أو نقاش مع مؤمن بالإسلام، لأنها محسومة، فقضية الحكم بما أنزل الله منصوص عليها في مثل قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [النساء:60] ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]، وكذلك حجاب المرأة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، وآيات النور، وآيات الأحزاب، وآيات كثيرة.
ومن هنا: فلا يمكن لمسلم أن يقف على مائدة حوار مع شيوعيٍ أو ملحدٍ في مثل هذه القضايا؛ لأن النقاش معه لا يبتدئ من هنا، لأن هذه القضايا ليست عند الشيوعي والملحد مُسلَّمة، ولكن قد يكون النقاش معه في أصل الديانة: هل يؤمن بالله؟ هل هو مؤمن بالقرآن؟ هل هو مؤمن بمحمد؟
إذا آمن بمحمد، نقول: افتح القرآن، لأن القضايا ليست عنده مُسلَّمة، ولكن يكون النقاش معه في أصل الديانة في ربوبية الله، وعبوديته، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق القرآن الكريم وإعجازه.
ولهذا فإننا نقول: من الخطأ غير المقصود عند بعض المثقفين والكاتبين إثارة هذه القضايا، أعني: تطبيق الشريعة؛ الحجاب، وتعدد الزوجات ... وأمثالها في وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة على شكل مقالات أو ندوات بقصد إثابتها أو صلاحيتها، إذا أُثيرت بهذا القصد فهذا لا يجوز، أما إذا كان المقصود النظر في حكمها وأسرارها، وليس في صلاحيتها وملاءمتها، فهذا لا حرج فيه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
وأخيراً فينبني على هذا الأصل: أن الإصرار على إنكار المسلمات، والثوابت مكابرة قبيحة، ومماراة منحرفة عن أصول الحوار والمناظرة، وليس ذلك شأن طالبي الحق.
منها: أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده، أو على يد معاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهره له.
ومن مقولات الإمام الشافعي رحمه الله المحفوظة: ما كلَّمتُ أحداً قط إلا أحببت أن يُوفق ويُسدد ويُعان وتكون عليه رعاية الله وحفظه، وما ناظرني فباليت أظهرت الحجة على لساني أو على لسانه.
وفي ذم التعصب يقول الغزالي أيضاً: إن التعصب من آفات علماء السوء، فإنهم يُبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، بمعنى: أنهم يتناظرون على أنهم متساوون، وأن كل واحدٍ يُحاول أن يرى أنه يدلي الآخر ... أو نحو ذلك مما كان ينبغي أن يكون متواضعاً، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم بالتمسك فيما نسبوا إليه ولو كان باطلاً، ولو جاءوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه، ولكن لما كان الجاه -أي: أنهم أصحاب هوى وجاه- لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستنير الأتباع مثل: التعصب، واللعن، والتهم للخصوم، فاتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم. انتهى كلامه.
والمقصود من كل ذلك: أن يكون الحوار بريئاً من التعصب، خالصاً لطلب الحق، خالياً من العنف والانفعال، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانية مما يفسد القلوب ويهيج النفوس، ويُولد النفرة، ويُوغل الصدور، وينتهي إلى القطيعة، وهذا الموضوع سوف يزداد بسطاً في الحديث عن آداب الحوار.
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل، وهذا ما يفعله كثيرٌ من المستشرقين، يظنون أنفسهم أنهم مدافعون عن الإسلام، ومن هنا جاءت الزلات من المستغربين حينما تبعوا آثار المستشرقين، ولهذا نقول: من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل، ومن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق، وهذا قد يقع فيه بعض من يقع، ومن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل.
إذاً، فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة، والذي يجمع لك ذلك كله العلم، فلا بد من التأهيل العلمي للمحاور، ويقصد بذلك التأهيل العلمي المتخصص.
إن الجاهل بالشيء ليس كُفُؤاً للعالم به، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجته لأبيه حين قال بما حكى الله عنه: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً مريم:43].
وإن من البلاء أن يكون غير مختص ليعترض على مختص ويخطئه ويغلطه، وإن حق من لا يعلم أن يسأل ويتفهم لئلا يعترض ويجادل بغير علم، وقد قال موسى -عليه السلام- للعبد الصالح: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66] فالمستحسن من غير المختص أن يسأل ويستفسر ويفكر ويتعلم ويتتلمذ ويقف موقف موسى مع العبد الصالح، وكثيرٌ من الحوارات غير المنتجة مردها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين، ولقد قال الشافعي رحمه الله: ما جادلت عالماً إلا وغلبته، وما جادلني جاهلٌ إلا وغلبني. وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم الذي يجري بين غير المتكافئين.
ومن المهم في هذا الأصل إدراك أن الرأي الفكري نسبي الدلالة على الصواب أو الخطأ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يُبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى، وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب.
وبناءً عليه: فليس من شرط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر، فإن تحقق هذا واتفقا على رأي فنعم المقصود وهو منتهى الغاية، وإن لم يكن فالحوار ناجحٌ إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كل من منهجيهما، يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ، وما تقدم من حديث عن غاية الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً، وفي تقرير ذلك يقول ابن قدامة رحمه الله: وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في المسائل الاجتهادية ولا يكلفه أن يوافقه فهمه. انتهى من مقدمة المغني .
ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة وتدابر ومكايدة وتجهيلٍ وتخطئة.
يقول ابن عقيل الحنبلي في كتابه فن الجدل وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة، فإنه أنبل لقدره، وأعون على إدراك الحق، وسلوك سبيل الصدق. قال الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجة إلا عظمُ في عيني، ولا ردها إلا سقط من عيني.
هذه إلمامة وإلماحة إلى أصول الحوار دخل بعضها في بعض، وإلا فإن المتتبع لكتب آداب البحث وأنواره سوف يجد أموراً أخرى لم توجد هنا، ولكن ذكرت ما يسمح به المقام، وما أرجو أن ما في إشاراته ما يغني عن كثير من العبارات.
فحق العاقل اللبيب الطالب للحق أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والتهزئة والسخرية وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.
ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: الانصراف عن التعنيف في الرد على أهل الباطل حيث قال الله لنبيه: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الحج:68-69] كأن هذا نوع من المنهج؛ لأن الجدل في بعض الأحيان يجعلك تنصرف وتقف، فإن جادلوك في مقام آخر جادلهم في مقام آخر مبدأ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحج:68]، وآية أخرى:قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، مع أن بطلانهم ظاهر، وحجتهم ظاهرة، والقضية قضية مقام الربوبية قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، هذا نوعٌ من القول الحسن في بعض مواطن الجدال.
ويلحق بهذا الأصل: تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث، وتعمد إيقاع الخصم في الإحراج ولو كانت الحجة بينة، والدليل دامغاً، فإن كسب القلوب مقدَّمٌ على كسب المواقف، يا حبذا لو يحسن هذا العلماء والدعاة -كسب القلوب مقدم على كسب المواقف- وقد تفحم الخصم ولكنك لا تقنعه، وقد تسكته بحجة ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه، وأسلوب التحدي يمنع التسليم، ولو وجدت القناعة العقلية وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار الأعداء واستكفاء الإناء.
وإنك لتعلم أن إغلاظ القول، ورفع الصوت، وانتفاخ الأوداج لا يُولِّد إلا غيظاً وحقداً وحنقاًُ، ومن أجل هذا فليحرص المحاور ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة، فهذه رعونةٌ وإيذاءٌ للنفس وللغير، ورفع الصوت لا يقوي حجةً، ولا يجلب دليلاً، ولا يقيم بُرهاناً، بل إن صاحب الصوت العالي لا يعلو صوته في الغالب إلا لضعف حجته وقلة بضاعته، فيستر عجزه بالصراخ، ويواري ضعفه بالعويل، وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان والفكر المنظم والنقد الموضوعي والثقة الواثقة.
على أن الإنسان قد يحتاج إلى التغير من نبرات صوته حسب استدعاء المقام، ونوع الأسلوب لينسجم الصوت مع المقام والأسلوب استفهامياًً كان، أو تقريرياً، أو إنكارياً، أو تعجبياً ... أو غير ذلك مما يدفع الملل والسآمة، ويعين على إيصال الفكرة، ويجدد التنبيه لدى المشاركين والمتابعين.
على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوء فيها اللجوء إلى الإفحام، وإسكات الطرف الآخر، وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد، وظلم وطغى وبغى، وعادى الحق، وكابر مكابرة بينة، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]، وفي قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] ففي حالات الظلم والبغي والتجاوز قد يسمح بالهجوم الحاد المركز على الخصم وإحراجه وتسفيه رأيه؛ لأنه يُمثل الباطل، وحسنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً.
وقبل مغادرة هذه الفقرة من الآداب لا بد من الإشارة إلى ما ينبغي من البعد من استخدام ضمير المتكلم إفراداً أو جمعاً، فلا يحسن أن يقول: فعلت، وقلت، وفي رأيي، ودرسنا، وفي تجربتنا، فهذا ثقيل في نفوس المتابعين، وهو عنوان على الإعجاب بالنفس، وقد يؤثر على الإخلاص وحسن القصد، والناس تشمئز من المتعالم المتعالي، ومن اللائق أن يبدأها بضمير الغيبة، فيقول: يبدو للدارس، وتدل تجارب العاملين، ويقوم المختصون، وفي رأي أهل العلم والشأن ... ونحو ذلك، وإن كان قد لا يكاد الإنسان أن ينفك عن هذا، ولكن قدر الاستطاعة أن يقلل.
قال ابن عقيل : وبعض الناس يفعل هذا - أي: يقطع الكلام - تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه. قال ابن عقيل : وهذا ليس فضيلة، إذ المعاني بعضها مرتبطٌ ببعض.
ليس شطارة منك أن تفهم ماذا قال؟ المعاني يدل بعضها على بعض، إذ المعاني بعضها مرتبط ببعض، وبعضها دليل على بعض، وليس ذلك علم غيب، أو زجر صادق، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به، والطول والاعتدال في الحديث يختلف من ظرف إلى ظرف، ومن حال إلى حال، فالندوات والمؤتمرات تحدد فيها فرص الكلام من قبل رئيس الجلسة، أو مدير الندوة، فينبغي الالتزام بذلك، والندوات واللقاءات في المعسكرات والمتنزهات قد تقبل الإطالة أكثر من غيرها لتهيؤ المستمعين، وقد يختلف ظرف المسجد عن الجامعة والمدرسة وعن دور التعليم الأخرى.
ومن المفيد أن تعلم أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام، ومقاطعة أحاديث الرجال يرجع إلى ما يلي:
أولاً: إعجاب المرء بنفسه.
الثاني: حب الشهرة والثناء.
الثالث: ظن المتحدث أن ما يأتي به جديدٌ على الناس.
رابعاً: قلة اللامبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم.
والذي يبدو أن واحداً من هذه الأربعة إذا استقر في نفوس السامعين، كافٍ في صرفهم وصدودهم ومللهم واستثقالهم لمحدثيهم.
إذاً: من آداب الحوار:-
1- حسن الاستماع، وأدب الإنصات، وتجنب المقاطعة.
2- تقدير الخصم واحترامه.
3- حصر المناظرات في مكان محدود، وقد ذكر أهل العلم أن المحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور، قالوا: وذلك أجمع للفكر والفهم، وأقرب لصفاء الذهن، وأسلم لحسن القصد، وإن في حضور الجمع الغفير ما يُحرِّك دواعي الرياء والحرص على الغلبة بالحق والباطل، ومن أطرف الاستدلالات! أنهم استدلوا بمثل قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى [سبأ:46] أما حينما يكون الحديث مثنى وفرادى، وأعداداً متقاربة، فيكون أدعى إلى استجماع الفكر والرأي، كما أنه أقرب إلى أن يرجع المخطئ عن الحق، ويتنازل عما هو فيه من الباطل أو المشتبه، بخلاف الحال أمام الناس، فقد يعز عليه التسليم والاعتراف بالخطأ أمام مؤيديه، أو مخالفيه.
هذه الخصلة من الأدب متممة لما ذُكِرَ، من أصل التجرد في طلب الحق ... إلى آخره، ومن أجلى المظاهر في ذلك أن يُدافع المناظر والمتحاور عن نفسه حب الظهور، والتميز على الأقران، وإظهار البراعة، وعمق الثقافة والتعالي عن النظراء والأنداد.
إن قصد انتزاع الإعجاب والثناء واستجلاب المديح مفسدٌ للأمر، صارف عن الغاية، وسوف يكون فحص النفس ناجحاً ودقيقاً لو أن المحاور توجَّه إلى نفسه بهذه الأسئلة:
هل ثمت مصلحة ظاهرةٌ تُرجى من هذا النقاش، وهذه المشاركة؟
هل يقصد تحقيق الشهرة، أو إشباع الشهوة في الحديث والمشاركة؟
هل يتوقع أن يتمخض هذا الحوار عن نزاع وفتنة وفتح أبواب من هذه الأبواب التي حقها أن تُسدَّ؟
ومن التحسس الصادق والنصح الصادق للنفس: أن يحذر بعض التلبيسات النفسية والشيطانية، فقد تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق، وواقع دخيلتها أنها تقف مواقف انتصار ذات هوى، ويدخل في هذا الباب: توطين النفس على الرضا والارتياح إذا ظهر الحق على لسان الآخر ورأيه.
ومن الجميل وغاية النبل والصدق مع النفس وقوة الإرادة وعميق الإخلاص: أن توقف الحوار إذا وجدت نفسك قد تغيرَّ مسارها ودخلت في مسارب اللجج والخصام ومدخولات النوايا.
وأكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر