أما بعــد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وارغبوا فيما عنده، ولا تغرنكم الحياة الدنيا فطالبها مكدود، والمتعلق بها متعبٌ مجهود، والزاهد فيها محمود، واستعيذوا بالله من هوىً مطاع، وعمرٍ مباع، ورحم الله عبداً أُعطي قوةً وعمل بها في طاعة الله، أو قَصُر به ضعفٌ فكف عن محارم الله.
أيها المسلمون! للمسلم في كل ساعةٍ من عمره وظيفة لربه عليه أن يقوم بها حسب الاستطاعة، وعلى قدر الطاقة: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] إنها وظائف ومطلوبات تستغرق الحياة كلها: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163].
ناهيكم أيها المسلمون! بما امتنَّ الله به على عباده من مواسم الفضل ونفحات الدهر في شهر رمضان كله، ثم في عشره الأخيرة ، وفي عشر ذي الحجة، وفي يوم عرفة، ثم في الحج ومناسكه، في كل هذه المواسم والنفحات مزيد الفضل ومضاعفات الأجر، إن هذه الوظائف والمرغوبات تستدعي من المسلم الحصيف أن يتلمس الأعمال الصالحات ويتحراها في حقيقتها وأثرها وسعتها وثمارها.
أيها المسلمون حجاج بيت الله! الأعمال الصالحات منزلتها في الدين عظيمة ومرتبتها في الإسلام عالية، فهي قرين الإيمان في كتاب الله وأثره وثمرته وجزاؤه: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه:112] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107] مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97] وكتاب الله العزيز وسنة محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قد قضى في بيان حقيقة ذلك ومتطلباته، وأثره وثماره، وسعة دائرته، وعلامة صحته، وأسباب قبوله.
أيها الإخوة! إن الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده، ومعرفة الحق وإخلاص العمل، ولزوم السنة، وأكل الحلال، والمداومة والقصد والتوسط، وإتباع السيئة الحسنة، والتوبة والاستغفار، والبكاء على الخطيئة؛ كل أولئك علائم ومنارات، وضوابط ومتطلبات لتحقيق العمل الصالح، فمن عرف الله ولم يعرف الحق لم ينتفع، ومن عرف الحق ولم يعرف الله لم ينتفع، ومن عرف الله وعرف الحق ولم يخلص العمل لم ينتفع، ومن عرف الله وعرف الحق وأخلص العمل ولم يكن على السنة لم ينتفع، وإن تم له ذلك ولم يأكل الحلال ويجتنب الحرام وأكب على الذنوب لم ينتفع.
وإذا كان الرياء هو العمل لأجل الناس، فإن هناك نوعاً خطيراً ذلك هو العمل لأجل النفس وحظوظها، لا لأجل الله وابتغاء مرضاته والأمل فيما عنده، إن من عدم التوفيق أن يعمل العبد ليرضي نفسه ويبتغي حظوظ دنياه، يصوم ويتصدق ويتزهد ويتورع لما يرجو من الدنيا وغايتها.
الإخلاص حفظك الله: أن يستوي حال الظاهر والباطن، فإن المخلص يعمل عمله لله سواء رآه الناس أو لم يروه، وسواء كان له حظ من حظوظ الدنيا أو لم يكن، فليس له توجه إلا لله، وليس له طمعٌ إلا في جنة الله، وليس له غاية إلا في رضوان الله، وليس له هربٌ إلا من سخط الله، وليس له حذر إلا من عذاب الله، المخلص لن يزيد عمله لأجل حظوظ عاجلة ولا ينقص بنقصها، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، إذا حضر لم يعرف وإذا غاب لم يثقل.
أيها المسلمون حجاج بيت الله! إن موضوع النيات ومعالجاتها موضوعٌ خطيرٌ ودقيق، هو أساس القبول والرد، وهو سبيل الفوز والخسران، يقول سفيان الثوري رحمه الله: ما عالجت شيئاً أشد من نيتي فإنها تنقلب عليَّ.
وعن يوسف بن أسباط : تخليص النية وفسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
وما أتي كثيرٌ من الناس إلا من ضياع نياتهم وضعف إخلاصهم.
الله الله في أنفسكم عباد الله، إن المطلوب في الأعمال الصالحة رعاية القلوب وإخلاصها؛ فبالإخلاص -بإذن الله- يورث القوة في الحق والصبر والمصابرة والمداومة، وبالإخلاص يتضاعف أجر العمل ويعظم وثوابه، بل الإخلاص يجعل المباحات طاعات وعبادات وقربات، ومن ثم تكون حياة العبد كلها لله قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163].
ومن صفات نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث، والمؤمن طيب كله؛ قلبه ولسانه وجسده، فقلبه طيب لما وقر فيه من الإيمان، ولسانه طيب لما يقوم به من الذكر، وجسده طيب لما تقوم به الجوارح من كل عملٍ صالح.
ومن أعظم ما يحصل به طيب العمل: طيب المطعم وحل المأكل، فالعمل الصالح لا يزكو إلا بأكل الحلال، وقد أمر الله به المؤمنين كما أمر به المرسلين، فقال آمراً رسله عليهم السلام: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً [المؤمنون:51] وقال آمراً عباده المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].
يقول بعض السلف : لو قمت قيام السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك، { وكل لحمٍ نبت من سحت فالنار أولى به }.
يقول الإمام النووي رحمه الله: بدوام القليل تستمر بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله، فينمو القليل الدائم حتى يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة.
ويقول ابن الجوزي رحمه الله: مداوم الخير ملازم لخدمة مولاه، وليس من لازم الباب في وقتٍ ما كمن لا زم يوماً كاملاً ثم انقطع.
ويقترن بالمداومة تحري القصد، والاعتدال، والتوسط، ومراعاة الحقوق والواجبات، والموازنة بين المسئوليات {فإن لنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه } فلا ينبغي للعبد أن يجتهد في جانب ليفرط في جوانب {فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا } {وإن الله لا يمل حتى تملوا } {واكلفوا من العمل ما تطيقون }.
أيها الإخوة! هذا هو العمل الصالح، وهذه هي مقتضياته ومتطلباته، ومع هذا فإن العبد محل التقصير، ومحط الخطايا، {وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون } الموقفون للعمل الصالح ذوو قلوبٍ مخلصة، وتوحيدٍ خالص، وهممٍ جادة، موفون بتكاليف الشرع، بعيدون عن الغفلة والأثرة، يسلكون مسالك الإيثار: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الإسراء:57].
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون َ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعــد:
أيها الإخوة المسلمون! الغفلة رأس الخطايا، يقول الحسن رحمه الله: [[الحسنة نور في القلب وقوة في البدن، والسيئة ظلمة في القلب ووهن في البدن، وظلم المعصية يطفئ نور الطاعة ]] فاجتهدوا رحمكم الله في المبادرة للخيرات، والمسارعة في الطاعات، والمسابقة إلى الصالحات وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11] وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون [المطففين:26] لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61].
فاستبقوا الخيرات وفقكم الله، فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت يأتي بغتة، والتسويف من مداخل الشيطان، والمبادرة أخلص للذمة، وأحزم في الأمر، وأبعد عن المطل، وأربى للرب، وأمحى للذنب، ولقد استوقف الصالحين قول الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] فكان فيها خوف السلف ، بكى عامر بن عبد الله حين حضرته الوفاة فقيل له: [[ما يبكيك وقد كنت وكنت...؟ قال: إني أسمع الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [لمائدة:27] ]]، ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه: [[لئن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاةً واحدة أحب إليَّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [لمائدة:27] ]].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله واحذروا وحاسبوا.
كيف بمن عرف الله فلم يؤد حقه؟!
وكيف بمن يدعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعمل بسنته؟!
وكيف بمن يقرأ القرآن ولم يعمل به؟!
تقلب في نعمة الله فلم يشكرها، لم يتخذ الشيطان عدواً، لم يعمل للجنة، ولم يهرب من النار، لم يستعد للموت، اشتغل بعيوب الناس وغفل عن عيوب نفسه، هذا وأمثاله في غمرة ساهون، تستدرجهم النعم ويطغيهم الغنى ويلهيهم الأمل اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [المجادلة:19] ولسوف يندمون إن لم يتوبوا، ولات ساعة ندم.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله! وجدوا واجتهدوا، وسددوا وقاربوا، والقصد القصد تبلغوا، ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل عليماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة وأعداء الملة والدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، اللهم وأصلح له بطانته وأيده بالحق، وأيد الحق به، وأعلِ به كلمة الدين، واجعله نصرة لعبادك المؤمنين، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعزاز دينك وإعلاء كلمتك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم سدد سهامهم وآراءهم، واجمع كلمتهم على الحق، وكن لهم، اللهم أيدهم وسددهم، اللهم واجعل الذلة على أعدائهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد على القوم المجرمين.
سبحانك ربنا، عزَّ جاهك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك، سبحانك وبحمدك لا يهزم جندك ولا يخلف وعدك، اللهم إن هؤلاء اليهود المحتلين الغاصبين قد طغوا وبغوا، وآذوا وأفسدوا، وقتلوا وشردوا، وأحرقوا ودمروا، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم اهزمهم وزلزلهم واجعل الدائرة عليهم، اللهم انصر إخواننا في فلسطين عليهم يا قوي يا عزيز!
اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين!
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم ارفع عنهم الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر