إسلام ويب

الوسطية في منهج أهل السنة والجماعةللشيخ : صالح بن حميد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله سبحانه وتعالى جعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم، لذلك يقول: كنتم خير أمة أخرجت للناس ثم جعلها الله عز وجل أمة وسطاً شاهدة على الناس والأمم السابقة ولذلك يقول: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً .

    فهم وسط في أمور الدين والحياة جميعاً.

    1.   

    سبب الحديث عن الوسطية

    أحمد الله تبارك وتعالى وأثني عليه بما هو أهله، وأستغفره وأستهديه وأتوب إليه وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدٌ عبدُ الله ورسولُه الداعي إلى سبيل ربه صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فسلام الله عليكم جميعاً ورحمته وبركاته.

    الموضوع -كما في ضمن هذه السلسلة التي يعقدها هذا المسجد المبارك في منهج أهل السنة والجماعة - هو ما رغب الإخوة المنظمون أن يكون تحت عنوان الوسطية في منهج أهل السنة والجماعة .

    وعناصر الموضوع -حسب الوقت المتاح- كالتالي:

    لماذا الحديث عن الوسطية؟

    تعريف بـأهل السنة والجماعة .

    عرض لأهم خصائصهم ومعالم منهجهم.

    حديث عن الوسطية ومظاهرها.

    أما لماذا الحديث عن الوسطية؟:

    فذلك لأن الأمة الإسلامية -ولا سيما في حالها المعاصر- تعيش ضَعفاً ظاهراً في كثير من ديارها وأحوالها، ومن أظهر مظاهر الضعف: ظهور طرفي الإفراط والتفريط والغلو والجفاء بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45] و-مع الأسف- أن هذا كما هو حال كثير من عموم المسلمين، فهو موجود في بعض من ينتسبون إلى الدعوة والعلم والإصلاح، ففيهم من غلا وأفرط، فنشأت فيهم جماعات تكفير وهجرة، وهناك من فرط وجفا، وأضاع معالم الدين والعقيدة، بقصد جمع الناس ووحدة الصف، ففشى الإرجاء، وانطمس عندهم معالم التوحيد وحقيقة العبادة، والمسلك الوسط في ذلك هو اقتفاء الأثر، وتبين الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، سلوك هذا المسلك حتى يتبين غلو الغالين، وانتحال المبطلين، وتفريط الكسالى والمرجئين، ودعاوى المنهزمين والمرجفين على حد قوله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].

    معنى الوسطية في اللغة والشرع

    أما الوسط والوسطية من حيث المعنى:

    فلا يبدو لي أن هناك حاجة إلى بيان معنى الوسطية بشكل مفصل، ولكن يكفي أن نشير إلى أن الوسط في لغة العرب، وفي مختار القرآن الكريم في الوسط والأوسط والوسطى، وأوسطهم هو: معنىً يجمع بين العدل والفضل والخيرية والجودة والرفعة والمكانة العلية والنَّصَف، كما أنه: توسطٌ بين طرفين، أي: بين رغيدتين، كما قالوا: خير الأمور أوسطها، والفضيلة وسط بين رغيدتين.

    ولقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين، فلها من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها على ما سوف يأتي لهذا من مزيد تفصيل إن شاء الله.

    1.   

    تعريف بأهل السنة والجماعة

    أما ما يتعلق بتعريف أهل السنة والجماعة :-

    فأهل السنة والجماعة يُطلَق بإطلاقين:

    إطلاق عام.

    إطلاق خاص.

    الإطلاق العام: يطلق على أهل السنة والجماعة مقابل الشيعة والخوارج .

    ويطلق بإطلاق خاص: وهو مقابل جميع المخالفين من أهل الأهواء. وهذا هو المراد هنا، فالمراد به السلف ، وأهل السنة والجماعة ، وأهل الحديث ممن برز مذهبهم ومنهجهم وبخاصة في إثبات الصفات لله عزَّ وجلَّ، وقولهم في القرآن بأنه غير مخلوق، وإثبات رؤية الله عزَّ وجلَّ في الآخرة، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل السنة والجماعة .

    المراد بالسنة والجماعة

    والسنة هي: الطريقة المسلوكة في الدين الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون على حد قوله صلى الله عليه وسلم في الفرقة الناجية : {... مَن كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي }.

    والمراد بالجماعة: الاجتماع الذي هو ضد الافتراق، فتَسَمَّى أهلُ السنة والجماعة بهذا الاسم؛ لأنهم أهل سنة تمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، واقتفوا طريقته باطناً وظاهراً في الاعتقادات والأقوال والأعمال، وهم الجماعة؛ لأنهم جدُّوا في الاجتماع على الحق والأخذ به، واجتمعوا على أئمتهم، وعلى الجهاد، وعلى السنة والاتباع، وترك الابتداع والأهواء.

    مسميات أخرى لأهل السنة والجماعة

    كما أنهم هم أهل الحديث والأثر لشدة عنايتهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم روايةً ودرايةً واتباعاً، فهم يقدمون الأثر على النظر.

    وهم السلف إذ المراد بـالسلف : الصحابة رضي الله عنهم وتابعوهم وأتباعهم إلى يوم الدين، وقد يراد بـالسلف : القرون المفضلة الثلاثة الأولى.

    ومن هنا فإن منهج أهل السنة والجماعة ومذهبم على جهة الإجمال: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وأعيان التابعين لهم بإحسان وأتباعهم وأئمة الدين ممن شُهِدَ له بالإمامة وعُرِفَ عِظَمُ شأنِه في الدين، وتلقى الناس كلامَهم خلفاً عن سلف دون مَن رُمِي ببدعةٍ، أو شُهِر بتوجهٍ غير مرضٍ، من أمثال: القدرية ، والمرجئة ، والجبرية ، والجهمية ، والمعتزلة ، وغيرهم.

    1.   

    معالم أهل السنة والجماعة

    قبل أن ندخل إلى صلب الموضوع، لا مانع أن نذكر أهمية منهج أهل السنة والجماعة :

    تنبع أهمية هذا المنهج من أهمية الدين نفسه والعقيدة نفسها، وضرورة العمل الجاد الدءوب لأخذ الناس بالحق وأخذهم بدين الله عزَّ وجلَّ، وذلك لأمور منها:

    من معالم أهل السنة تعظيم الكتاب والسنة والاعتصام بهما

    تعظيم الكتاب والسنة والاعتصام بهما عامل مهم لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، فلا تجتمع كلمة المسلمين إلا على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى نهج الجيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما التجمع على غير ذلك فمصيره الفشل والتفرق.

    هذا المنهج يجعل المسلم يُعَظِّم نصوص الكتاب والسنة، وتعصمه -بإذن الله- مِن رَدِّ معانيها، أو التلاعب في تفسيرها فيما يوافق الهوى.

    وهذا المنهج يربط المسلم بـالسلف من الصحابة ومَن تبعهم، فتزيده عزة وإيماناً وافتخاراً، فهؤلاء السلف من الصحابة ومَن سار على نهجهم هم سادة الأولياء وأئمة الأتقياء.

    وهذا المنهج يتميز بوضوح، حيث إنه يتخذ من الكتاب والسنة منطلقاً في التصور والفَهم، بعيداً عن التأويل والتعطيل والتشبيه، وينجي -بإذن الله- المتمسك به من هلكة الخوض في ذات الله، ورَدِّ النصوص من كتاب الله وسنة نبيه محمدٍِ صلى الله عليه وسلم، ومِن ثَمَّ تُكسِب صاحبَها الرضا والاطمئنان لدين الله وأمره وقدره وتقديره، ولا يكلف العقل التفكير فيما لا طاقة له به من الغيبيات، فهذا المنهج سهل ميسر بعيد عن التعقيد والتعجيز، ولهذا جاء الأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: [[من كان مستناً، فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونَقْل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على هدىً مستقيم ورب الكعبة ]] ومن ضمن ذلك مقالة ابن مسعود رضي الله عنه المحفوظة في قوله: [[إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً، فهو عند الله سيئ ]].

    عدم التعصب لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم

    ومن معالم هذا المنهج أيضاً: البُعد عن التعصب إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهل هذا المنهج هم أعلم الناس بأقواله عليه الصلاة والسلام وأحواله وأعظمُهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها.

    هذا المنهجٌ يجعل الكتاب والسنة هو الإمام، ويجعل طلب الدين مِن قِبَلِهِما، أي: مِن قِبَل الكتاب والسنة، وما وقع في العقول والخواطر والآراء، فإنه يُعرَض على الكتاب والسنة، فإن كان موافقاً قُبِل، وإن وُجِدَ مخالفاً تُرِك، وليس إقبالٌ إلا على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ومِن ثَمَّ صاحب هذا المنهج إذا وَجَد في نفسه حرجاً، فإنه يرجع بالتهمة على نفسه، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، وإلى التي هي أقوم، ورأي الإنسان قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً.

    أهل السنة ليس لهم انتساب خاص

    كذلك ليس لهم اسمٌ خاصٌ ينتسبون إليه، كما قال بعض أهل العلم وقد سئل عن السنة، فقال: السنة ما لا اسم له سوى السنة. وأما غيرهم فينتسبون إلى المقالة تارة، أي: إلى المبدأ، أو إلى القائد تارة، أما أهل السنة فإنما نسبتهم إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديثه ومأثوره وسلف الأمة.

    جميعُ كتبهم المصنفة مِن أولها إلى آخرها في باب الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يَجْرُون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، بل لو أنك جمعت ما كتبوه وما نقلوه عن سلفهم، لوجدته وكأنه قد جاء عن قلب رجل واحد، وجرى على لسان رجل واحد، ولهذا قال أبو المظفر السمعاني : وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الاجتماع والائتلاف، فإن النقل والرواية من الثقاة المتقنين قَلَّما تختلف، وإن اختلفت في لفظة أو كلمة، فذلك الاختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه، وأما المعقولات والآراء والخواطر فقَلَّما تتفق، فعقل كل واحد ورأيه وخاطره، يُرِي صاحبه غير ما يُرِي الآخر.

    من خصائص أهل السنة تبنيهم للتوحيد والدعوة إليه

    من خصائص هذا المنهج، أو من معالمه الكبرى كممارسة، أو كمَعْلَم بارز: قضية التوحيد، بمعنى: الحديث عن التوحيد، والدعوة إليه، والالتزام به.

    وقضية التوحيد وضدها الشرك، تحتاج إلى وقفة حقيقية لأنها فعلاً ميزة، وهي -مع الأسف- محل تردد عند بعض الناس.

    إن من المعلوم تميز هذه البلاد بخاصة -ولله الحمد- بتبنيها لقضية التوحيد والدعوة إليه، وبروز ذلك بروزاً بيناً مما دعا بعضَ الناس والمفكرين وبعض الذين لم يتبينوا المنهج ولم يميزوا، أو بعض المخالفين، لما رأى إصرارَنا على الحديث عن التوحيد والالتزام به والدعوة إليه وتعليمه وتربية الناس عليه ما كان من أمثال هؤلاء إلا أن قالوا: إن هذا المنهج كأنه يشير بأننا نَتَّهِم الناس في عقائدهم، وحقيقةً هذا يحتاج إلى وقفة كبيرة.

    فالدعوة إلى التوحيد هي طريق القرآن، والدعوة إلى التوحيد ليست للمشركين فقط ومن قال: إنه لا يُدْعى إلى التوحيد، ولا يُذَكَّر بالتوحيد إلا المشركون فهذا غير صحيح، والقرآن كله حديث عن التوحيد وعن ضده، كما وصف ذلك ابن القيم رحمه الله.

    فالله عزَّ وجلَّ حينما ذكر عباد الرحمن وذكر صفاتهم، ومعلوم أن عباد الرحمن مؤمنون، بل إنهم هم الصفوة الذين يُقتَدى بهم، قال سبحانه: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:63-67] هذه كلها صفات لا تلفت النظر من حيث أنها فعلاً صفات سلوكية، وصفات عبادات وتعبد، لكن قال بعدها: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68] مع أن الله سبحانه وتعالى سماهم عباد الرحمن، ولا شك أن كلمة عباد الرحمن تعني: أنهم مستقيمون على الطريقة، لكن من صفاتهم: أنهم لا يدعون مع الله إلهاً آخر، مما يدل على أن قضية التوحيد قضية دقيقة.

    وفي قوله سبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء:36] العلماء رحمهم الله وقفوا عند هذه الآية وقفة عجيبة ودقيقة، فكلمة (شيئاً) نكرة وفي سياق النهي تفيد العموم، وقد ذكر العلماء التقدير المحذوف، فقالوا: إن التقدير: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً من الأشياء، فإذا حاولت أن تفهم هذا الفهم الدقيق من المعنى، لا تشركوا به شيئاً من الأشياء، مهما قل، أي: أدنى تعلق بغير الله عزَّ وجلَّ، فهو صورة من صور الشرك المحذوف.

    فالتقدير الأول: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً من الأشياء.

    والتقدير الثاني: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً من الشرك.

    فشيئاً من الأشياء، أي: شيئاً من المعبودات سواء أكان ذباباً أو أقل من ذباب.

    وشيئاً من الشرك، أي: شيئاً من أدنى تعلُّق بقلبك، فأنت على خطر؛ لأن الله عزَّ وجلَّ يقول: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106].

    إذاً حينما نقول: إن من منهجهم الدعوة إلى توحيد الله عزَّ وجلَّ، فلأنها هي طريقة القرآن.

    وإن شئتم مزيد إيضاح، فالله عزَّ وجلَّ حذر من الشرك حتى في خطابه الأنبياء، وحاشاهم أن يشركوا، وذكر من سيرهم أنهم يحذرون أبناءهم، وأبناؤهم على الحق، فالله عزَّ وجلَّ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] وحاشاه أن يشرك، فهل هذا كان اتهاماً للنبي صلى الله عليه وسلم في عقيدته أو في توحيده؟!

    إنما هي طريقة القرآن، فالله عزَّ وجلَّ قال لإبراهيم، وإبراهيم هو صاحب الملة الحنيفية، والذي أُمِر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم باتباعه، قال له: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً [الحج:26] حاشا إبراهيم عليه االسلام أن يشرك، وهو صاحب الملة الحنيفية، وهو الذي قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم:35] ولهذا قال إبراهيم النخعي : "ومَن يأمن الفتنة بعد إبراهيم؟" وهو الذي قال: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132] وكذلك في آيات كثيرة منها قول الله عزَّ وجلَّ لنبيه: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً [الإسراء:22] وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً [الإسراء:39] وحاشاه عليه السلام أن يُشرك.

    إذاً مِن أصول أهل السنة والجماعة، ومن منهجهم: الدعوة إلى التوحيد.

    يأتي ولهذا لو فكرت -فعلاً- كيف لو أن الناس تُرِكُوا من التعاهد بتوحيد الله عزَّ وجلَّ! لا شك أنهم سينحرفون، ولهذا كثرت صور الشرك الموجودة في كثير من بلاد المسلمين من التعلق بالقبور، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وأشياء كثيرة مما هو شرك أكبر يخرج من الملة، فالناس تضعُف، ولعلك تـلاحظ -مع الأسف- حتى في بلادنا لما ضعُف تركيز علمائنا رحمهم الله في التربية والتعليم، بدأ يظهر قبول الشعوذات والسحر، والكهانة، وشيء ما كنا نعهده، مما يدل على أن النفوس ضعيفة.

    إن النفوس ولو كانت مؤمنة، ولو كانت تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أن محمداً رسول الله، وتؤمن بالله عزَّ وجلَّ، وتؤمن بتوحيد الربوبية، وتؤمن بحق الله عزَّ وجلَّ وقوته وقدرته وتدبيره، لكن فيها ضعفاً، فتحتاج دائماً أن تعاهَد بالتوحيد، وتعاهَد بالإخلاص إلى الله عزَّ وجلَّ، والتعلق به، وتجريد العبادة له سبحانه وتعالى، وإفراده بالعبادة بأنواعها.

    إذاً فمن المنهج: الدعوة إلى توحيد الله عزَّ وجلَّ، والتحذير من ضده الذي هو الشرك بشتى ضروبه وصنوفه مهما دَقَّ، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {الشرك أخفى من دبيب النملة السوداء في ليلةٍ ظلماء على صخرةٍ سوداء } أخفى؛ لأنه لا يُرَى مما يدل على عِظَم الأمر، وشدة خطره وضرورة التذكير به والدعوة إليه، وتحذير الناس من الشرك، وبيان التوحيد.

    من منهج أهل السنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    كذلك ومن منهجهم أيضاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي قضية مهمة جداً في الدين، فهناك بعض الفرق السابقة تقول بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن إما بطريقة خارجة عن سلطة الأئمة وولاة الأمور، أو غير ذلك، لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منهجٌ من منهاج أهل السنة والجماعة ، وليس الحديث طبعاً عن الإفاضة في دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحفاظ على الدين، والحفاظ على الأمة؛ لكن يكفي أن نقارن بين آيتين:

    الآية الأولى: في حق المنافقين، قول الله عزَّ وجلَّ: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67].

    والآية الأخرى: في حق المؤمنين، قوله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].

    وبالمقارنة بين هاتين الآيتين يتبين الفرق الكبير، والمقصود فعلاً بحياة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منهجاً.

    الآية الأولى: [التوبة:67] (مِنْ) هنا جنسية، يعني كما تقول: هذا مِن هذا، أو هذا البيض مِن هذا البيض، بمعنى: هم متجانسون في الطباع، كأنك تقول: هذا من هذا [التوبة:67] جنس واحد، كما تقول العامة أحياناً في بعض الأقاليم: البيض الفاسد يتدحرج مع بعضه، هذه معنى مِنْ بَعْضٍِ [التوبة:67] أجناس مِن بعض.

    أما أهل الإيمان، فـ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] بمعنى أن بينهم نصرة، بينما المنافقين لا نصرة بينهم، لأن أصلَ النفاق تَلَوُّنٌ، والنفاق سَيْر على حسب المصالح لا على حسب المصلحة الحقيقية ولا على حسب الحق، وإنما على حسب الهوى، ولهذا فإن المنافق يسير على هواه، أو على هوى مَن يخافه، فمن هنا كان بعضهم من بعض.

    أما أهل الإيمان المؤمنون بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] متناصرون، فما هي مظاهر النصرة؟

    ليست المجاملة، ولا النفاق، وإنما: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] مع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لو أقيم على وجهه فإنه ثقيل، لكن نظراً لأن الذين بينهم ولاء، ونصرة وتعاقد على الحق كان مظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاشياً، بل مسلكاً مِن مسالكهم، لأنك لو تأملتَ في طبائع النفوس، فإن الأمر بالمعروف شاق، والنهي عن المنكر كذلك شاق، فإذا رأيت أخاك على منكر، ثم نهيته عنه، فإن هذا ثقيل على النفس؛ لكن لِمَا وقر في النفس من إيمان، وفي القلب من يقين والتزام أصبح هذا منهجاً ومقبولاً، بل أصبح هذا هو مظهر من مظاهر المؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71].

    من منهج أهل السنة ضبط العلاقة بين التوكل والأسباب

    وهناك قضية مهمة جداً في بيان هذا المنهج هي: قضية ضبط العلاقة بين التوكل والأسباب:-

    تنبع هذه القضية من صفاء المنهج وصفاء العقيدة، وهي أنه لا تختلط عليه ما يتعلق بالإيمان بالله عزَّ وجلَّ، والإيمان بقضائه وقدره، والتوكل عليه، وتسليم الأمر له، وأنه سبحانه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا خافض لما رفع، ولا رافع لما خفض، هذه كلها قضايا راسخة في قلب المؤمن، وهذا لا يعني إنكار الأسباب، فالمؤمن الحق يعلم أن الله سبحانه وتعالى وضع في هذه الدنيا سنناً، وأن هذه السنن إذا أخذ بها العبد بإذن الله، فإنها تنتج آثارها، فيأخذ بالسبب، ويقوم بمهمة الاستخلاف؛ لأن الله سبحانه وتعالى استخلفه في هذه الأرض ليعمرها هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود:61] فهو يربط بين الأسباب، فيأخذ بها، ويحتاط لنفسه، وبين الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، بمعنى أن السبب إذا لم ينتج، فإنه لا ينتكس،؛ لأنه يعلم أن من وراء الأسباب رب الأرباب، ولهذا يكون على عقيدة مطمئنة، يأخذ بالسبب، فإنه إذا تزوج، والزواج سبب للإنجاب بإذن الله، فإذا لم يأته ولدٌ، رضي وسلَّم، فهو قد أخذ بالسبب، لكنه لم يضطرب، ولم ينتكس حينما لم ينتج السبب؛ لأنه يعلم أن الله سبحانه وتعالى من وراء الأسباب، وأن الكون كونه، والتدبير تدبيره سبحانه وتعالى.

    إذاً هناك ربطٌ وثيقٌ وضبطٌ بين التوكل على الله سبحانه وتعالى والأخذ بالأسباب، وهذا لا يحتاج إلى توقف كثير.

    نأتي إلى قضية الوسطية، مع أن ما سبق كله إشارة للوسطية، فكل ما سبق من مبادئ ومعالم هي لا شك أنها وسط خاصة في مقابل الفرق المخالفة سواء أكانت من غير المسلمين، أو من الفرق المنتسبة إلى الإسلام.

    1.   

    الوسطية والاعتدال في الإسلام

    الوسط والمسلك الوسط هو مسلك الإسلام، والله عزَّ وجلَّ يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143] فالوسط هو الخيار، والوسط هو ما يكون بين الطرفين طرفي الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء، فقد اختلفت فيها الحوادث حتى أصبحت طرفاً.

    فالإسلام دين الوسط، وسوف نأتي إلى وسطية الإسلام عموماً، ثم نأتي إلى وسطية أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص، لكن لا شك أن ما نذكره لا يقيم الإسلام على وجهه إلا مَن فَقِهَ هذه الوسطية.

    وسطية الإسلام بين الديانات الأخرى

    فالإسلام وسطٌ بين طريق المغضوب عليهم أمثال: اليهود الذين قتلوا أنبياء الله، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، وأسرفوا في التحريم، وحرموا كثيراً مما رزقهم الله، وبين الضالين أمثال: النصارى الذين اتخذوا الأنبياء آلهة واتخذوا الأحبار والرهبان معبودات من دون الله، وأسرفوا في التحليل حتى قالوا: كلُّ شيءٍ طيبٍ للطيبين.

    أما أهل الحق، فصراطهم صراط مَن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

    والإسلام وسط في الاعتقاد بين خرافيين يصدقون بكل شيء، ويتعلقون بكل شيء، ويؤمنون بغير برهان حتى عبدوا آلهة من دون الله، فعبدوا الأبقار وقدَّسوا الأحجار والأوثان، وبين مَن يُنْكر كل شيء، ولا يتعلقون إلا بالماديات المحضة، ويتنكرون من رداء الفطرة والعقل وبراهين المعجزات؛ ولكن القرآن يقول لهؤلاء وهؤلاء: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].

    إن الحديث عن الوسطية في الاعتقاد ملح وبخاصة في عصرنا الحاضر، فتجد حتى في الوقت الحاضر غلواً في الماديات، حتى أنكروا وجود الله عزَّ وجلَّ وعبدوا المادة، بل وأصبحوا دُهْرِيين، وغلوا في المعبودات حتى عُبد الشيطان، أي: وصل بهم الفراغ الروحي، وهو الشطط والإفراط إلى أن عبدوا الشيطان، في الوقت الحاضر الذي يسمونه عصر التنوُّر، مع أن الشيطان عُبِد من قديم، لكن ظهرت عبادة الشيطان حتى في أبناء هذا الجيل.

    فوسطية الإسلام في هذا: الإيمان بالله وحده، إلهاً واحداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] وكل مَن سواه مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.

    وسطية الإسلام في الأنبياء

    والإسلام وسط بين الذين عظَّموا الأنبياء وقدَّسوهم ورفعوهم فوق منزلتهم حتى جعلوهم آلهة، أو أبناء لله، وبين الجفاة الذين كذبوهم وأهانوهم، بل عذبوهم وقتلوهم، بل في الوقت الحاضر بعضهم يقولون: إنهم مجرد مصلحين اجتماعيين، أو هم مصلحون في أوقاتهم فحسب، أما الآن فما أتوا به غير مناسب لهذا الوقت!

    وسطية الإسلام في العقل

    كذلك الإسلام وسط بين الغلاة في العقل الذين جعلوه مصدر المعارف والحقائق في الوجود وما وراء الوجود، وبين الجفاة الذين تنكروا له وانزلقوا وتعلقوا بالإلهامات، وعَمَت أبصارُهم.

    فمع الأسف جمع الماديون بين التعلق بالمادة، والتعلق بالعقل، فما أوصلتهم إليه عقولُهم قبلوه، وما لم تقبله عقولهم ردُّوه، كما أنه يقابلهم طرف آخر أفرطوا، فألغوا عقولهم بالكلية، فتعلقوا بالأوهام، وتعلقوا بالخرافات، فالإسلام وسط من ذلك، فهناك أمور غيبية لا يدركها العقل فيُسَلِّم بها بضوابطها، وأمور معقولات، وقد جعل الله عزَّ وجلَّ لنا عقولاً، وجعلها هي محطة التكليف.

    إذاً نحن أهل الإسلام ديننا دين وسط في ذلك، فالعقل له منزلته، بل العقل هو محطة تكليف، وفي المقابل نحن لا نغلو بحيث ما لم تصدقه عقولنا لا نقبله؛ لأننا نعلم أن العقل محدود، كما أن طاقاتنا كلها محدودة، فقوة اليد، والبصر، والسمع كلها محدودة، كذلك قوة العقل محدودة، لكنها قوة نعترف بها في حدودها.

    كذلك ديننا وسط في الأحكام والعبادات، فالتكاليف في حدود الاستطاعة، لم يكلفنا الله عزَّ وجلَّ إلا في حدود قدرتنا لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] في الصلوات، في الزكاة، في الصيام، في الحج، في سائر المطلوبات الشرعية، بل الذين أرادوا أن يشددوا على أنفسهم في العبادة، نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف منهم موقفاً شديداً، كما في قصة الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن عبادته: {فكأنهم تقالُّوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما أنا فأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني }.

    إذاً هو وسط في التكاليف، بل -في التكاليف- إذا طرأ عليك ظرف خَفَّفَ الله عليك، فإذا جاء ظرف سواء أكان شاقاً أو في الأسباب التي قررها الشرع كالسفر مثلاً، قد لا يكون شاقاً، لكن لو حصل ظرف شاق فإنه يأتي التخفيف.

    فإذاً التكاليف وسط، ولهذا المداومة على العبادة تكون في حدود ما تطيق {عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا } {وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه، وإن قل } ولهذا ابن الجوزي رحمه الله يعلق على قضية المداومة، فيقول: إنما أحب الله الدائم لمعنيين:

    أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرض للذم، ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية، ثم نسيها، وإن كان من قبل حفظها لا يتعين عليه.

    ثانيهما: أن مداوم الخير ملازمٌ للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يومٍ وقتاً كمن لازم يوماً كاملاً، ثم انقطع.

    وسطية الإسلام في الأخلاق

    والوسطية في الأخلاق:

    دين الله وسط بين الغالي الذي جعل الإنسان مثالياً، فأراده في هذه الدنيا مَلَكاً مُبَرَّئاً من كل عيب، سليماً من كل نقص، فطَلَبَ من معالي القيم والآداب ما لم يمكن أن يبلغه إلا بالعصمة لو كان معصوماً، وبين الجفاة الذين جعلوه حيواناً بهيمياً، فلم يعيبوا عليه أن ينحط في السلوك إلى أسفل الدركات، و-مع الأسف- أن عصرنا الحاضر شاهد على هذا الانحطاط البهيمي في الشهوات.

    إذاً مسلك الإسلام في الأخلاق وسط بين المثالية والواقعية، بمعنى أنه لا شك أن الإسلام وضع لنا نماذج مثالية أَحَبَّ منا أن نرقى إليها، لكنه لم ينكر واقعيتنا وضعفنا كبشر، قال الله عزَّ وجلَّ: وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً [الأنفال:66] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28] بل حتى في الجهاد فرض علينا في أول التشريع أن يقف المسلم مقابل عشرة من الكفار، ثم خفف فقال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفَاً [الأنفال:66].

    فالإسلام وسط بين المثالية النموذج المحلق، وبين الواقعية، مثلاً: في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل:90] عدل وإحسان، فالعدل الذي هو إعطاء حق وأخذ حق، كل واحد يطيقه والإحسان فضل، فالإحسان هو الذي تتنافس فيه النفوس الكريمة، و-أيضاً- في قوله تعالى مثلاً: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة:194] لكنه قال في مقام آخر: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126] إذاً فََمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [البقرة:194] واقعية وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ [النحل:126] مثالية.

    إذاً ديننا ذو وسطية في منهج الصدق والأخلاقيات، لا يريدنا أن نكون -فعلاً- كما يقول النصارى: من ضربك على خدك الأيمن فأعطه خدك الأيسر، لا. هذا خنوع، إنما الغاية التي لا تنقص عنها أن تعطي حقاً وتأخذ حقاً. والشرف يكون في الإحسان، أما الممنوع فهو الظلم والتعدي، ولهذا حتى في الحرب قال الله عزَّ وجلَّ: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [البقرة:190] حتى في الحرب، وهي مقاتلة في سبيل نصرة الحق، لكن لا تعتدي، فلا تمثيل، ولا قطع آذان، ولا أنوف.

    فالإسلام وسط يعترف بواقعية البشر كبشر، فهو يعطي حقاً ويأخذ حقاً، ويرفعه إلى السمو في المثالية.

    وسطية الإسلام في الاستمتاع بالزينة

    وقضية الاستمتاع بالزينة، وهي وسطية ظاهرة في الإسلام، فقد أباح الله عزَّ وجلّ لنا الزينة، بل امتن علينا بإباحة الزينة: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:5-8].

    إذاً هذا مسلك في الإسلام وسط، لَمْ ينكِر، ولم يمنعنا مما وضعه فينا من طبع حب زينة، وحب استمتاع وتمتع، فلم يجعلنا كالذين شددوا على أنفسهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فهؤلاء بقاياهم في الصوامع } أو كما في بعض العبادات الوثنية كما عند بعض الهندوكية والروحانيات المغرقة، لا هذه، ولا هذه.

    فالزينة مباح لنا أن نستمتع بها، وتأملوا قول الله عزَّ وجلَّ: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ [النحل:5-6] الثلاث الأولى أساسيات في وظيفة الأنعام لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ [النحل:5-6] فجعل هذا مما امتن الله عزَّ وجلَّ به علينا.

    ولو تتأملون المعنى -يا إخواني- أعني إدراك الجمال في الأنعام، والأنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم، وقد يكون غيرها من الحيوانات حسب الأقاليم، وليس كل أحد يدرك جمال الأنعام، إلا بعض الهواة، فأنت ربما لا تشاهد غنماً ولا تفكر فيها، ولا تشاهد بقراً؛ لكن بعض الناس مفتون بالغنم، ومفتون حتى بالإبل، فبعض الناس يشتري الإبل بمئات الآلاف، إذاً لا شك أن الجمال في الإبل، أو في الأنعام فإن كان بعضنا لا يدركه، لكن هناك من يدركه، وأظن الشباب الآن يدركون جمال السيارات، وموديلاتها، وألوانها.

    فعلى كل حال المقصود: أن هذا لا حرج فيه في حدود ضوابط، فاستمتاعك بالجمال، بل حتى اقتناؤك للجمال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الخيل: {هي لرجلٍ سِتر } فالرجل الذي يعطي حقها ويستمتع بها، ليس عليه شيء، ما دام أن يعطي حقها، فشعورك وإحساسك بالجمال في هذه الأشياء، أو في غيرها مما امتن الله عزَّ وجلَّ به جائز حتى في الحمير وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8] أي: تتخذها لغير الركوب، تتخذها للزينة، فالخيل والبغال والحمير ربما لا تتخذها للركوب، وتتخذها للزينة، فالآية لا تمنع من ذلك ما دام في حدود وضوابط الشرع. وإن شئتم آية أخرى فاقرءوا قول الله عزَّ وجلَّ: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ [النمل:60] ما معنى: (ذَاتَ بَهْجَةٍ)؟ معناه: أننا من حقنا أن نبتهج بألوان الزهور، وروائحها، وأشكالها؛ لأن الله ما قال: ( ذَاتَ بَهْجَةٍ) إلا من باب الامتنان، والله سبحانه وتعالى لا يمتن علينا إلا بمباح.

    إذاً هذا له حدوده وضوابطه، لكن أن تستمتع، وأن تجد لذة، وأن تمارس لذتك المباحة في الاستمتاع كالاستمتاع مثلاً بالشم فلا بأس، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {حُبِّب إليَّ من دنياكم الطيب } فالطيب متعة وكمالي، وليس بضروري، بل الطيب من الكماليات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بنفسه وبزينته وجماله في حدود ما يَجِد، وكان يلبس للضيوف عليه الصلاة والسلام، ويوم الجمعة له حُلَّة، والعيدان لهما حُلَّة، والضيوف لهم حُلَّة، والحُلَّة هي: البدلة المتكاملة، وهي: الطقم الكامل بكامل اللبس، إزاراً ورداءًَ، أو قميصاً وسراويل، على حسب لباس كل بلد، فتسمى حلة، بمعنى: لباس كامل، فالمقصود أن دينَنا وسط: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [الأعراف:31-32] لكن لا إسراف، ولا غلو، ولا تصرف على الأساسيات، بل لها ضوابطها.

    1.   

    وسطية أهل السنة والجماعة

    أهل السنة والجماعة وسط، أي: عدول خيار متوسطون بين طرفي الإفراط والتفريط، فهم وسط بين الفرق المنتسبة للإسلام كما أن أمة الإسلام وسط بين الأمم.

    وسطية أهل السنة في باب الأسماء والصفات

    فهم في باب أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته وسطٌ بين المعطلة من الجهمية ومَن على شاكلتهم، وبين أهل التمثيل المشبهة ، ويخطئ بعض الذين يكتبون عن منهج السلف في باب الأسماء والصفات، فيظنون أن السلف مفوِّضة، وهذا أمر يجب أن يُجَلَّى كثيراً، فـأهل السنة والجماعة يثبتون لله أسماءه وصفاته التي سمى بها نفسه، وسماه بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ووصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، يثبتونها على الحقيقة، لكنهم يفوضون في الكيفية، فيثبتون أن لله يداً، وأن له عيناً، سبحانه وتعالى، حقيقة كما يليق بجلال الله عزَّ وجلَّ وعظمته، ولا يلزم أبداً من إثبات الحقيقة التشبيه البتة، والأمر ظاهر؛ لأن المخالفين لمنهج أهل السنة والجماعة يثبتون لله صفاتاً، حتى المعتزلة يثبتون صفة العلم والحياة، والقدرة، والإرادة -على اختلاف في حقائق هذه الصفات بيننا وبينهم- بل الجميع يثبتون أن لله ذاتاً حقيقةً، فنقول لهؤلاء المثبتين: كما أن لله ذاتاً حقيقةً وتقولون -وهذا حق- إنها لا تشبه الذوات، فكذلك له صفات لا تشبه الصفات، فإثباتها على حقيقتها لا يلزم منه التشبيه، فكما أن هناك من أثبت الكلام وهو حق، وأثبت الإرادة، وقال إن الإرادة لا تشبه الإرادات.

    فكذلك -أيضاً- الرحمة؛ لأن الذين أثبتوا الإرادة نفوا الرحمة، فما دام أنك أثبت الإرادة لله فأثبت له الرحمة، وما دام أنك قلت: إن الإرادة لا يلزم منها التشبيه، فكذلك إثبات الرحمة لا يلزم منها التشبيه، وهكذا، فالأمر في هذا جلي ولله الحمد.

    وسطية أهل السنة في أفعال العباد

    كذلك هم وسط فيما يتعلق بأفعال العباد:

    بمعنى: أن أهل السنة قالوا: إن للعبد اختياراً ومشيئة وفعلاً يصدر منه، وهو محاسب عليه؛ لكنه لا يفعل إلا بمشيئة الله عزَّ وجلَّ، وهناك من أنكر مشيئة الله عزَّ وجلَّ، وقال: إن العبد يفعل، وأنكر مشيئة الله، وهناك من ألغى فعل العبد ومشيئته، فتوسط أهل السنة والجماعة على حد قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29] وهذا -أيضاً- جليٌ وبخاصة إذا تبينا أن العبد لا يحاسب من أفعاله إلا على ما كان داخلاً تحت قدرته واختياره، والشيء الذي يفعله بغير اختياره لا يُحاسَب عليه، ولهذا فإن النائم، والمغمى عليه، والعاجز، وإذا سقط الإنسان بنفسه سقوطاً على الخطأ فإنه لا يُحاسبه الله عزَّ وجلَّ، وإن كان يحاسَب فيما يتعلق بحقوق الآدميين على تفصيل ليس هذا مكانه، لكن المقصود أن العبد لا يحاسَب إلا على اختياره، فمثلاً: إذا مرض العبد، فإن الله عزَّ وجلَّ لا يحاسبه لماذا مرضتَ؟ أو لماذا أصاب يدك جرح؟ إنما يحاسبه هل صبر أم لا! لماذا؟ لأن الصبر اختيار، فأنت تحاسَب في المرض على الصبر، ولا تحاسب على ذات المرض، لأن المرض ليس بيدك، بل وقع عليك مرض ليس من اختيارك، وإنما الذي هو داخل تحت اختيارك هو الصبر.

    لعل ما قدمتُ فيه شيء من الفائدة، وأكتفي بهذا القدر.

    أقول هذا القول، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

    1.   

    الأسئلة

    الرد على من قال: إن أهل السنة متزمتون

    السؤال: بعض الناس يقول عن أهل السنة والجماعة أنهم جماعة متزمتة لا يؤمنون بالتطور، وأن قضايا العصر تحتاج إلى مسايرتها، فما هو رد فضيلتكم على هذا الإشكال؟

    الجواب: على كل حال مثل هذا يقال فيهم وفي غيرهم، فهذا يقول: متزمت، وذاك يقول: متساهل، لكن العبرة بالمواقع، والعبرة بالشيء المعاش، أما مثل هذه التهم ماذا تقول فيها؟ وفيما يتعلق بالدين وثوابته وضوابطه وقواعده فأمره جلي، هذا حلال وهذا حرام؛ لأن الإسلام له في كل حادثة فتوى، وله في كل نازلة خطب، لا شك في ذلك، وإذا رجع المسلمون في أمورهم إلى أهل العلم، فإن الأمر يكون جلياً، ويكون منضبطاً؛ لكن -مع الأسف- وبخاصة في وقتنا الحاضر تغيَّرت كثير من الأوضاع، ولا سيما فيما يتعلق بتواصل الناس، وتواصل العالَم، بمعنى أنه كما يقال: أصبح العالَم شبه قرية واحدة، أو مكاناً واحداً، ولهذا فيما يتعلق بوسائل الإعلام المتعددة سواءً، أكان فيما يتعلق بالقنوات الفضائية، أم ما يتعلق بشبكة المعلومات العالمية وغيرها أصبح التواصل بشكل واضح، ومن هنا تأتي البلبلات، ومن هنا لا تستطيع أن تقول القول الفصل، فأنا لا أزعم أنني إذا قلت قولاً سيكون قولي فصلاً، أو حينما يقول فلان لهذا السائل -جزاه الله خيراً- قد تأخذ بما أقول مثلاً، لكن غيرك لن يأخذ بما أقول، فمثل هذا لا أظنه يُحْسَم بمثل أن يثار هذا السؤال، إنما قد يكون متعيَّنٌ على العلماء خاصة أن ينظروا -فعلاً- في المتغيرات، وكيفية بيان الحق للناس، لأنه -مع الأسف- في وسائل الإعلام هذه كلٌّ أو كثير منهم يهرف بما لا يعرف، ويتحدث أناسٌ غير متخصصين البتة، لا يفقهون في دين الله شيئاً، بعضهم قد يكون عنده عاطفة إسلامية، أو يكون -كما يقولون- مفكراً إسلامياً، أو عنده ثقافة إسلامية، وهذا لا يكفي، فيتحدثون بأحاديث خطيرة، ناهيك عن أنهم يأتون به بمقابل واحد منحرف، يعني: شيوعي صرف، أو له مواقف مناوئة صرفة للدين وأهله، وهذا كله لا يمكن، أولاً: لأن مثل هؤلاء لا يعول عليهم، لكن ينبغي على أهل العلم الراسخين والربانيين أن يكون لهم نظر في توعية الناس وتنبيههم وردهم إلى الحق ووقايتهم من كثير من هذه البلبلات.

    بذل الوسع في الأسباب لا ينافي التوكل

    السؤال: سؤالان متشابهان: يقول الأول منهما: فيما يتعلق بالأسباب يأخذ بعض الناس بعض الأسباب، بل أدنى الأسباب، ويترك أعلاها، وخاصة في بعض الأمور التي يمكن اتخاذ أسباب عدة لها فلو اتخذ أسباباً أعلى يضمنها الشرع؟

    السؤال الآخر يقول: هل بذل سبب واحد يكفي إذا لم ينفع، أم بذل أسباب أخرى من الواجب مع فشل السبب الأول؟

    الجواب: هذا السؤال غير واضح، لكن فيما يتعلق بالأسباب: الإنسان هو حاكم نفسه ومعلِّم نفسه، بل إذا كان الإنسان كسولاً، فغالباً أنه يُرْجِع الأمور إلى الآخرين، أو يجعل التبعات على الآخرين، وإذا كان ذا همة وعزيمة، فغالباً أن يطرق كل ما يرد في خاطره من أسباب، فالقضية ترجع إلى همة الإنسان، وإلا فالمطلوب منه أن يطرق كل ذلك، وأن يبذل كل سبب، ولا أظن أن هناك سبباً واحداً، في كل أمور الدنيا إنما إذا وجدتَ أن هذا السبب قد استغلق عليك، فانتقل إلى شيء آخر، أو حتى هذا الطريق إذا استغلق عليك فاذهب إلى غيره، أو هذا الباب الذي توجهت إليه سواءً أكان عملاً أو كان زواجاًً أو كان صنعةً، إذا كان هذا الباب ما أفلحت فيه، وقد بذلت جميع الأسباب الموصلة إليه، ثم لم تصل، فانتقل إلى سبب آخر، وهذا معروف، فالناس في حياتهم ومعاشهم يستطيعون أن يتصرفوا، أما الكسول، أو الاتكالي، فهذا هو الذي غالباً يقول: حاولتُ فما استطعتُ، ولهذا يقول البيت المعروف:

    أخْلِقْ بذي الصبر أن يظفر بحاجته     ومُدْمِنِ القَرْعِ للأبواب أن يَلجا

    فلا شك أن الإنسان لا بد أن يدمن القرع ويكثر، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم-: {إن الله يحب الملحِّين في الدعاء } والله عزَّ وجلَّ لو شاء لأعطاك مباشرة؛ لكن لا بد من إلحاح وبذل سبب، ومن ذلك -أيضاً- ما ذكره أهل العلم فيما يتعلق بمريم عليها السلام حينما أمرها الله عزَّ وجلَّ أن تهز جذع النخلة حتى يتساقط، فقال أهل العلم:

    ألم تر أن الله قال لمريم      وهزي بجذع النخل يساقط الرطب

    ولو شاء أن تجنيه من غير هزه      جَنَتْه ولكن كل شيء له سبب

    فالله عزَّ وجلَّ كان بإمكانه أن يسقطها عليها بدون هز، لكنه تعليم بالأسباب، فالمقصود أن التوجه نحو بذل ما تستطيع من أسباب، وطرق ما تستطيع من أبواب هذا هو الذي يفعله أصحاب الهمم العالية.

    إمكانية توحد المسلمين مع اختلاف توجهاتهم

    السؤال: هناك من يذهب إلى أن المسلمين بحاجة إلى توحيد الصفوف وإن اختلفت توجهاتهم، ويقول: بأن تقسيم المسلمين إلى فرق من شأنه أن يضعف وحدتهم، فلا يتمكنوا من الوقوف في وجه أعدائهم من أهل الكفر، فما الموقف من هذه الدعوى؟

    الجواب: لا شك أن تحري الحق مطلوب من كل أحد، ويلزم الإنسان أن يتحرى الحق، وأن يسأل الله عزَّ وجلَّ أن يبصره بالحق، وأن يجعله على الحق وعلى هدى مستقيم، و-أيضاً- قضية أن يتصور أن يجتمع الناس على طريق واحد فهذا مما لا يُتَصَوَّر تحقُّقه، فالاختلاف موجود، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، حتى إن بعض العلماء قال: إن هذه هي الفرق الكبار، وإلاَّ فلو أردتَ أن تعدد فرقها ومشتقاتها، لوجدتها أكثر من ذلك، فوجود الاختلاف هذا وارد، ولكن حق المسلم أن يتحرى الحق، وأن يسأل، وإذا اجتهد وتحرى، فالله سبحانه وتعالى لا يحاسبه إلا على جهده وبذله وتحريه، وخاصة فيما يتعلق بالعامة، أما العلماء، فشأنهم أكبر، وقضية تصور أن يجتمع الناس -كما قلتُ- هذا بعيد، لكن يمكن ما يسمى بالتعايش، فالتعايش شيء، لكن مع هذا لا بد أن تبقى دعوة الحق، وعلى أهل الحق مسئوليتهم أن يدعوا إلى الحق، وإلى دين الله على بصيرة.

    هل تطلب الوسطية في طلب العلم

    السؤال: ما هو الضابط في الوسطية عند أهل السنة والجماعة في طلب العلم وتحصيله؟

    الجواب: هناك بعض أمور -كما قلنا- في الإحسان، الإحسان مثالي بمعنى: لا يكاد ينتهي الوصول إليه، وهنا تأتي قضية أصحاب الهمم العالية، أين يتنافس الناس؟ وأين يتنافس الشرفاء؟ بل أين يتنافس المؤمنون؟ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10] لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61] فالعلم شيء عالٍ، ولا أظن أن هناك وسطية في طلب العلم من حيث التحصيل والقوة وبذل الجهد، أما التحري في العلماء الثقات، فنعم، هذا معروف، أن يتحرى الحق والعلماء الثقات، وعمن تأخذ؛ لكن العلم تطلبه حتى تلقى الله عزَّ وجلَّ، ولا ينتهي العلم أبداً، وهذا معروف ومن ظن أنه قد علم، فقد جهل وإنما كما قالوا: أعط العلم كلك يُعْطِك بعضَه، فهذا تنافس شريف، وأرجو ألا أكون مغالياً إذا قلت: إنه لا وسطية في العلم، إنما ترقى، ترقى إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى من حيث ما تريد، سواء العلم الشرعي، والعلم الصحيح، والعلم المباح، والمباح كثير سواء أكان من علوم الدنيا بألوانها مما هو مباح شرعاً، أو كان من العلم الشرعي.

    ونسيت أن أقول في قضية العبادة في الإسلام: إن العادة بالنية تصبح عبادة، وهذا -أيضاً- مسلك من مسالك الإسلام واسع، وهو أن العادة بالنية تصبح عبادة، فحتى علوم الدنيا مثل: الطب، والهندسة، وغيرها، فهذه لا شك أنها محمودة وطيبة، وعلوم شريفة، لكنها دنيوية، لكن إذا كان لك نية صالحة لخدمة المسلمين وعلاجهم فتؤجر إن شاء الله، و-أيضاً- كذلك فيما يتعلق بالصيدلة مثلاً، أو غيرها من المصنوعات بحيث تأتي بأمور مباحة، وتجنب المسلمين المشتبهات، فهذا شيء يتحول إلى عبادة، ويصبح من أشرف العلوم ديناً ودنيا.

    والمقصود هو أن طلب العلم فيما يتعلق بالوصول إلى المنتهى لا وسط فيه، بل حتى قال العلماء: إن العلم لا يبقى على حال، إن تركته ينقص، ليس إذا تعلمت يبقى على مستواه، لا، بل إما أن يزيد بالتعلم، وإما أن ينقص، ولا يمكن أن يبقى على مستوى ثابت.

    حكم الدعاء على كفار معينين

    السؤال: البعض عندما يسمع عن حدوث زلازل أو فيضانات في بلاد الكفار، فإنه يدعو عليهم بالمزيد، وإذا قلنا له: لماذا تتمنى لهم المزيد؟ قال: لأنهم كفار، فما رأيكم في هذا؟

    الجواب: والله لا يبدو أن هذا متعسف، والدعاء على الكفار على غير جهة التعيين لا مانع منها مثل: لعنة الله على الظالمين، لعنة الله على الكافرين، لكن أن يُدْعَى على معينين فلا، والمسلم ليس باللعان، فلا تدعُ على معين سواء أكان قطراً معيناً أو جهةً معينة، إنما تدعو على عموم الكفار، وعلى الظالمين، لكن لا يُلعن معين، ولا يدعى على معين.

    التوبة فعل العبد والتوفيق من الله

    السؤال: هل التوبة تكون معتمدة على توفيق الله فقط، أم على مشيئة العبد بعد مشيئة الله جل وعلا؟

    الجواب: لا شك أن توفيق الله عزَّ وجلَّ هو الذي يؤمله العبد، لكنك لو تأملت في شروط التوبة التي ذكرها العلماء لوجدت أن عمل العبد فيها بيِّن، وهي:

    الإقلاع عن الذنب. وهذا فعلك.

    والعزم على أن لا تعود. هذا فعلك.

    والندم على ما فعلت. هذا فعلك.

    هذه كلها أفعالك أنت، فلا تكون التوبة إلا بهذه الشروط، وهذه الشروط هي أفعالك، ولا شك أن التوفيق بإذن الله عزَّ وجلَّ، وهذا معنى قولنا:أنهم يجمعون بين الأسباب والتوكل، ويربطون ويضبطون بين الأسباب والتوكل، فأنت تفعل السبب، فتُقْلِع وتندم وتعزم على ألا تعود، ولو وقعتَ، تعود مرة أخرى وتتوب وتستغفر، وهكذا.

    ضعف التوجيه إلى التوحيد والعقيدة

    السؤال: ذكرتم أن منهج السلف أهل السنة والجماعة أنهم دائماً يدعون ويذكِّر بعضهم بعضاً بالعقيدة، لكننا نلحظ في هذا الزمن ضعف هذا الجانب، حيث ضعفت التربية المنزلية، وحصل في بعض المناهج الدراسية ما يضعف جانب التوحيد إضافةً إلى تسلط الإعلانات بنشر ما يفسد العقيدة من أفلام وغيرها، فما توجيهكم للدعاة ولغيرهم في هذا؟

    الجواب: غالباً هذه هي مهمة الدعاة، والعلماء، وكذلك المناهج -أيضاً- وكذلك البيوت إذا كان فيها طلبة علم، أو أناس على مستوى من التعليم، فهذا جيد؛ لكن قضية التذكير بالتوحيد، وتعليمه، وتربية الناس عليه، هذا الذي يتعاهدها العلماء ومَن في حكمهم من المعلمين وأصحاب المناهج، لأن العامة قد لا يفقهون أحياناً، فيقع أحدهم في الخطأ وهو لا يدري، وإنما مهمة العلماء، ومَن في حكمهم من المعلمين، وأصحاب التوجيه والتربية، والذين لهم تأثير هي توجيه المجتمع، فهذه مسئوليتهم، ولا شك كما أشار السائل الفاضل أن المؤثرات الأخرى الخارجية لها أثر سواء أكان فيما يتعلق بالأفلام أو بالبرامج، وخاصة فيما يتعلق بالإذاعات الأخرى، والوسائل الإعلامية الأخرى، والصحافة، والقنوات، والإذاعات، وغيرها، لا شك أن لها تأثير كبير، ولهذا ينبغي -كما قلت قبل قليل- أن ينظر أهل العلم والتعليم في كيفية مراجعة كثير من الأمور في سبيل وقاية الناس قدر المستطاع من الآثار السلبية لمثل هذه الوسائل.

    اختيار الرفقة الصالحة

    السؤال: يواجه كثير من الشباب الذين منَّ الله عليهم بالهداية بمشكلة، وهي الصحبة، فإن استمر مع صحبته السابقة، فقد يعود وينتكس، وإذا صاحب صحبة صالحة أخياراً، فإنه قد يواجه مشكلة أخرى، وهي ممانعة الوالدين من الاستمرار في هذه الصحبة خوفاً من الغلو كما يزعمون، فيعيش الشاب في فراغ وصراع نفسي كبير، أفيدونا بما منَّ الله عليكم من علم كيف الخروج من هذه الحيرة؟

    الجواب: أما أن تترك قرناء السوء، فهذا لا بد منه، وقد تتركهم تركاً كلياً، وقد يكون فيه نوع -إلى حدٍ ما- من التلطف، ولكن لابد أن تتركهم، ولا بد أن تتجنب كل ما هم فيه من سوء، ولا شك أن الحق في أن تصحب أخياراً، وأن يكون لك أصدقاء فضلاء، والذي يبدو لي: أنه ينبغي أن يكون لك أنت تأثير على والديك، كيف؟

    لقد كنت في حال سيء كُنت مع أصدقاء السوء، ولا شك أنهم لاحظوا عليك الآن تغيرات، وهذا أمر حسن، لكن ينبغي أن يلحظوا عليك تغيراً فيما يتعلق بعلاقتك بهم بمعنى أن يزيد إحسانك لهم، وأن يزيد برك، وحسن تعاملك، وأن يظهر عليك مزيدُ صلاحٍ وبرٍّ فيما يتعلق بحقهم، في أمك وأبيك وإخوانك بحيث أنت الذي تسعى في أمور البيت إذا تيسر لك، مثل: حوائج البيت فتأتي بها معك، وملاحظة إخوانك فيما يتعلق بشئونهم الدراسية، بمعنى أن يلحظوا عليك تغيراً إيجابياً فيما يتعلق بأمور البيت وسلوكياتهم، وحينها تأكد أنهم سوف يفرحون كثيراً، أما أن يكون التغير هو أنك كنت قديماً مباسطاً لهم وتتحدث معهم، ثم لما التزمت -كما يقال- أصبحت رجلاً لا تتكلم ولا تتحدث وتنـزوي في زاوية من البيت، فهذا غير صحيح، إنما حقهم أن يروا فيك تغيراً إيجابياً نحو حسن العلاقة معهم، وصلاح، وأدب، واحترام، وخدمة، وبر، قدر ما تستطيع باللحظ، وباللفظ، وبتقديم -ما تسميه- خدمات وهدايا إذا كنت تستطيع، وبتحسين علاقتك بإخوانك فتمازحهم، وتجلس معهم، ويكون أكثر أوقاتك وساعاتك مع أهلك، فيرون تغيراً إيجابياً، فبهذا تستطيع أن تؤثر.

    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765797420