وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أكْرِم به نبياً! وأنْعِم به عبداً! صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، كانوا أمثل طريقة وأقوم وأهدى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
أيها المسلمون: زينة الحياة الدنيا وعُدة الزمان بعد الله؛ شباب الإسلام الناشئون في طاعة ربهم، لا تكاد تُعْرَف لهم نزوة، أو يعهد عليهم صبوة، يستبقون في ميادين الصالحات، أولئك لهم الحياة الطيبة في الدنيا، ولهم الظل الظليل يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظل المولى.
ولئن تطلعت الأمة لإصلاح ناشئتها، ورغبت في أن تقر عينها بصلاحهم، فعليها أن تهتم بتربيتهم وتسليحهم بسلاح الإيمان، وتحصينهم بدروع التقوى، وأخذهم بجد وقوة إلى العلم النافع والعمل الصالح.
إن العناية بالنشء مسلك الأخيار وطريق الأبرار، ولا تفْسُد الأمة وتهلك مع الهالكين إلا حين تفسُد أجيالها، ولا ينال الأعداء من أمة إلا إذا نالوا من شبابها وصغارها.
فمن دعاء زكريا عليه السلام: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38] ولا خير في ذرية إن لم تكن طيبة.
ويقول إبراهيم عليه السلام: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم:35].
وفي دعاء له آخر: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:40].
وكل صالح من عباد الله يبتهل إلى ربه: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي [الأحقاف:15].
من الشباب ينشأ العلماء العاملون، والجنود المجاهدون، وفيهم الصناع والمحترفون، إذا صلحوا سعدت بهم أمتهم، وقرت بهم أعين آبائهم وأمهاتهم، وامتد نفعهم وحسنت عاقبتهم، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرعد:23].
إن أولها: حفظ الله بحفظ حقوقه وحدوده، ومن ثم الاستعانة به وحده في الأمور كلها، والتوكل عليه، واليقين الجازم بأن بيده سبحانه الضر والنفع.
يأتي كل ذلك -أيها الإخوة- ليكون دافعاً للشباب، وهو في ثورته وطموحه وتكامل قوته؛ ليكون قوي العزيمة عالي الهمة.
إن قوي العزيمة في الشباب -أيها الشباب- من تكون إرادته تحت سلطان دينه وعقله، ليس عبداً لشهواته، {فتَعِس عبد الدينار وعبد الدرهم }.
من صرامة العزيمة وعلو الهمة أن يفرغ الفؤاد عن الشهوات القريبة والعواطف السريعة.
اسمعوا إلى صقر قريش عبد الرحمن الداخل في قصة حفظها لنا التاريخ، يقول التاريخ: حينما عبر هذا الصقر البحر أول قدومه على الأندلس أهديت له جارية فارعة الجمال، فنظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شُغِلْتُ عنها بما أَهُمُّ به ظلمتها، وإن أنا اشتغلت بها عمَّا أَهُمُّ به ظلمتُ هِمَّتِي، ألا فلا حاجة لي بها، ثم ردها إلى صاحبها.
أيها الشباب: إن الشهوات والعواطف وحب الراحة وإيثار اللذات هو الذي يُسْقِط الهمم، ويفتِّر العزائم، فكم من فتيان يتساوون في نباهة الذهن، وذكاء العقل، وقوة البصيرة؟! ولكن قوي الإرادة منهم وعالي الهمة فيهم، ونفَّاذ العزيمة بينهم هو الكاسب المتفوق، يجد ما لا يجدون، ويبلغ من المحامد والمراتب ما لا يبلغون، بل إن بعض الشباب قد يكون أقل إمكانيات وأضعف وسائل؛ ولكنه يفوق غيره بقوة الإرادة وعلو الهمة والإصرار على الإقدام.
وإنه لحقيق بالرجال القوامين على التربية أن يعطوا هذا الدرس مكانه من التوجيه من أجل بناء صروح من العز شامخة، إن لم يكن ذلك فقد ظلمت الأمة نفسها، وخسرت أجيالها، وهضمت حق دينها، وأضاعت رسالتها، يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً [مريم:12].
وما اقترن العزم الصحيح بالتوكل الوثيق على مَن بيده ملكوت كل شيء إلا كانت العاقبة فوزاً ونجاحاً، فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159].
وإن من مظاهر ضعف الهمم في التعليم والتوجيه، ومن بخس حق العلم والمعرفة: أن يطلب الفتى العلمَ لينال به رزقاً، أو ينافس به زميلاً، حتى إذا أدرك الوظيفة، أو فاز على الزميل، أخلد إلى الراحة، ونسي العلم، وأضاع المعرفة، وتنحَّى عن الطلب، وإنما يرتفع رأسُ الأمة ويظهر عزها بهمم أولئك الذين يُقبلون على العلم بجد وصبر وثبات، ولا ينقطعون عن التحصيل والاستزادة إلا حين ينقطعون عن الحياة.
ومن هنا كان لزاماً -أيها المسلمون- اقتران العلم بالعمل، فمَن عَلِم خيراً فليبادر إلى فعله، ومن عَلِمَ شراً فليحذر الاقتراب منه، وما يحيي القلوب بالمعرفة اليقظة والعلم النافع إلا المبادرة إلى العمل، فبه تستنير القلوب، ويصح المسير في دروب الحياة.
يقول بعض السلف: [[كنا نستعين على حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمل بها ]].
ويقول بعض الحكماء: إذا أردت الاستفادة من النصائح المكتوبة والمسموعة فجربها واعمل بها، فإنك إن لم تفعل كان نصيبك نسيانها.
إن المعلومات النظرية التي لم ينقلها العمل من دائرة الذهن والأفكار المجردة إلى واقع الحياة لا فائدة فيها، فالجندي لا تنفعه معلوماته إذا لم يمارسها في الميدان، وماذا ينفع الطبيب علمه وكراريسه وآلاته إذا لم يمارسها طباً وعلاجاً؟!
من أجل هذا -أيها الإخوة- فلا فرق بين عمل وعمل، فالأعمال المباحة على كثرتها واختلافها مطلوبة متأكِّدة حسب حاجة الأمة إليها، وبناء حياتها وقوَّتها عليها، {ألا فاعملوا فكل ميسر لما خلق له }.
أمةُ الإسلام مطالبةٌ بالدعوة إلى الله، مطالبة بإعداد القوة لإرهاب أعداء الله، بحاجة إلى التكامل والتكافل.
إن على كل شاب أن يعلم من العلم ما يقوده إلى حسن العمل، فيتخذ موقعه المناسب حسب قدرته وموهبته وحاجة الأمة إليه، والعلم بشئون الدنيا وأمورها مطلوب إذا كان طريقاً لعز أمة الإسلام وقوَّتها، حيث الابتكار والاختراع والتفوق، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
واحذروا الوقوف عند حدود الأماني، والاقتصار على الكلام والمقترحات المجردة، فذلك يفتح أبواباً مَخُوفَة من الجدل الطويل، والثرثرة القاتلة للوقت والجهد والمواهب، وما الأماني إلا رءوس أموال المفاليس.
فاتقوا الله جميعاً أيها المؤمنون، واعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، وهدانا صراطه المستقيم، وجنَّبنا طريق أصحاب الجحيم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه .. إنه هو الغفور الرحيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالرحمة والهدى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن بنهجهم اهتدى.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله أيها الناشئة، واعلموا أن للعمر أجلاً، والآمال عريضة بحر لا ساحل له، فسارعوا إلى العمل الصالح، واحفظوا لحظات العمر، واشغلوا الوقت بما ينفع في العاجل والآجل.
إن الشاب إن لم ينشغل في مشروعات الخير والجهاد والمجاهدة والإنتاج المثمر نهبته الأفكار الطائشة، وعاش في دوامة من النـزاهات والمهازل.
إن شغل الأوقات وشحنها بالأعمال والواجبات والانتقال من عمل إلى عمل، ومن مهمة إلى مهمة -ولو كانت خفيفة يسيرة- يحمي المرء من علل البطالة ولوثات الفراغ.
والنفس -كما قال الإمام الشافعي رحمه الله- إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. وإن الأمة تتخلص من مفاسد كثيرة وشرور عريضة لو أنها تحكمت في أوقات الفراغ لأبنائها، وليس بالإفادة منها بعد أن توجد، ولكن أيضاً بإيجاد ترتيب لا يكون معه فراغ قاتل.
إن مشاعر الخوف والقلق والحقد والغيرة والحسد لا تندفع إلى النفس الإنسانية إلا حينما تكون فارغة غير مشغولة، وإن توزيع التكاليف الشرعية في الإسلام منظور فيه إلى هذه الحقيقة.
إن شرائعه تدور على الجهاد والمجاهدة؛ مجاهدة النفس، ومجاهدة الناس، فالصلوات الخمس في ترتيبها وتوزيعها، والعبادات الأخرى في واجباتها ونوافلها بدنية ومالية، والأذكار بكرة وعشياً، قياماً وقعوداً وعلى المضاجع، والحرف والمهن، والقيام بالحقوق للقريب والبعيد، كل ذلك جهادات ومجاهدات تستغرق العمر كله لحظة لحظة، لا تبقي فرصة للغفلات والذهولات.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا صالحاً، وسيروا على النهج، وأصلحوا النشء.
ثم صلوا وسلموا على المبعوث بالحق رحمة للعالمين، نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم بذلك ربكم، فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأزواجه وذريته.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وعن سائر الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر