إسلام ويب

أخلاقيات الحوارللشيخ : صالح بن حميد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لاشك أن الحوار وسيلة من وسائل نقل الأفكار، والحاجة إلى إتقانه أكثر إلحاحاً في عصرنا الراهن.

    والحوار الناجح تعاون بين المتحاورين من أجل معرفة الحقيقة والتوصل إليها.

    وينبغي لنجاح الحوار البدء بمواطن الاتفاق، وسلوك الطرق العلمية، والسلامة من التناقض، وقصد الحق والبعد عن التعصب، والالتزام بالقول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، وحسن الاستماع والإنصات.

    1.   

    أهمية الحوار في عصرنا الراهن

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله.

    أشكره ولا أكفره، وأسأله المزيد من فضله وكرمه.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة الحق واليقين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، جعلنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فبتحية الإسلام أحييكم، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    سعادة مدير التعليم بمنطقة الرياض ، سعادة مدير ثانوية السفارات الأستاذ/ عبد العزيز الثنيان ، الإخوة أعضاء هيئة التدريس في المدرسة، أيها الإخوة الحضور، رغبت إدارة المدرسة مشكورةً في أن أشارك في أنشطتها المتميزة حسب ما رأيت وما اطلعت، سواء في المجلة الدورية التي يصدرونها، أو معرض الكتاب الذي يقرب للمنتسب لهذه المدرسة المعرفة والثقافة، ثم ما أتحفوني به لأقوم بهذا الجزء من النشاط، وهو هذا اللقاء الطيب المبارك الذي يجمعني بكم، كما أنهم في دعوتهم مشكورين خيروني أن أختار أحد موضوعين فاخترت أحدهما وكان بعنوان" أخلاقيات الحوار"

    وكما تفضل فضيلة الشيخ/ أحمد آل الشيخ في تقديمه حين ذكر أهمية الحوار، فقال: إنه مهمٌ أولاً من حيث أن ديننا جاء به، وأسلوب الدعوة قائم على الحكمة والموعظة الحسنة، كما يقول الله عز وجل آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].

    ولا شك أن الحوار مطلوبٌ في كل زمان وفي كل مكان، ولكنه يبدو في وقتنا الحاضر أن الحاجة إليه أكثر إلحاحاً.

    أولاً: لما أبرزه فضيلة الشيخ المقدم الشيخ/ أحمد ، وهي نقاط جوهرية وأساسية جداً في إبراز أهمية الموضوع.

    وثانياً: ما يتميز به هذا العصر من ميزات: ومنها اتصال العالم بعضه ببعض، حتى أصبح كبلدة واحدة؛ لا يكاد يقع شيء في الشرق؛ إلا وتسمعه بأسرع من الصدى في الغرب، وكذلك ما حصل في الغرب تراه في الشرق، ثم تلاقح المعارف والثقافات ووسائل الإعلام التي غزت لا أقول كل قطر، ولا كل بيت بل -ولا أبالغ إذا قلت- كل ركن من أركان البيت! ويرى فيها من يرى، ويسمع فيها من يسمع ألواناً وأشكالاً من الطروحات، وأنواع الغزو، وقنوات الثقافة والتأثير، مما يستدعي مراجعة، وأقولها بكل قوة: لابد أن نراجع أوضاعنا ومثقفينا وأحوالنا، وبخاصة أننا في هذا الصرح العلمي المتميز من بلادنا بمبناه ومعناه إن شاء الله، وهو مدرسة ثانوية، والثانوية كما تعلمون تحوي الطلاب في مقتبل الحياة وبدء النضوج الحقيقي.

    وهذه الفترة كما يقول المربون وكما يقول علماء النفس: هي من أحرج المراحل، ولا أكون مبالغاً إذا قلت: إن من أولى ما ينبغي أن يهتم به في هذه المرحلة قضية الحوار، وإن لم يكن حواراً فكرياً على المستوى العالي، لكنه الحوار بين الأستاذ وبين الطالب في هذه المرحلة، وبين الطالب وبين أبيه في هذا السن، القضية دقيقة جداً، وتحتاج فعلاً إلى نوع من النظر الدقيق، وإلى نوع من التفكير في هذا الباب، هذا جانب.

    والجانب الآخر -كما أسلفت قبل قليل-: الطرح الذي يطرح، فمع الأسف أن كثيراً من أسباب الإعلام ووسائله هي بأيدي غيرنا، يطرحونها ولا نكاد نرى شيئاً متميزاً، من هنا يجب أن نكون جادين وصادقين إذا كنا نريد أن نبني أنفسنا حتى نكون أصحاب مبادرات، وأصحاب طروحات، وأصحاب استقلال في فكرنا، وفي كل ما نطرح.

    من أهم ما يجب أن ننظر فيه في قضية الحوار ما يلي:

    كيف نتحاور؟

    ما هي أسباب الحوار؟

    ما هي وسائله؟

    ما هي أصوله؟

    ما هي أخلاقياته؟

    الكلام في هذا كثير وطويل، ولا تكفيه المحاضرة ولا المحاضر، وإنما ينبغي أن نهيئ أولادنا وأنفسنا في تقبل الرأي الآخر بكل قوة، ولا يعني تقبله أن نستسلم له، إنما كيف نسمع، وكيف نستمع، وسوف نرى إن شاء الله على حسب ما يسمح به الوقت أشياء من هذا، وسوف تكون عناصر هذا اللقاء كالتالي:

    تعريف الحوار.

    غايته.

    التمهيد في وقوع الخلاف، وهذا غالباً سأتجاوزه، لأن الوقت لا يسمح.

    بيان لمجمل أصول الحوار.

    أخلاقيات الحوار وآدابه.

    طبعاً لا بد أن أذكر التعريف، وهو لا يخرج عما أشار إليه الأستاذ/ أحمد في الغاية من الحوار؛ لأن التعريف لا بد أن يشمل الغاية، ثم أشير إشارة سريعة إلى أصول الحوار، ثم نبسط الكلام حسب ما يسمح الوقت حول ما يتعلق بأخلاقيات الحوار.

    1.   

    تعريف الحوار

    الحوار والجدال بمعنى واحد، والله عز وجل يقول في كتابه: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1] فالآية جمعت اللفظين، والحوار: (تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) فالحوار والجدال يدل أحدهما على الآخر.

    والحوار في اللغة هو: مجرد مراجعة الكلام، فيقول: تحاور الرجلان، أو تحاور المتحدثان بمعنى: كل واحد تبادل الحديث، فمراجعة بعضنا لبعض في الكلام يسمى حواراً، وأحياناً قد تكون لفظة الجدال بمعنى الخصام، فهي أحياناً تعني الوصول إلى الحق، وأحياناً لا، والمجادل هو مجرد المخاصم، ولكن ليس هذا هو مقصودنا هنا، أما تعريف الحوار فهو: مناقشة بين طرفين، أو أطراف يقصد بها إما تصحيح، أو إظهار حجة، أو إثبات حق، أو دفع شبهة، أو رد باطل، هذا هو مقصود الحوار، وهذا هو غايته، فهو يراد به: إما أن نصحح خطأً، وإما أن نظهر حجةً، وإما أن نثبت حقاً؛ لأنه ليس بالضرورة في الحوار أن يكون غايته في الحق دائماً، وسوف نرى كيف أن الحوار قد يكون مجرد ممهد، وليس بالضرورة في كل لقاء أن نصل إلى الحق فيه، فإن من مقاصد الحوار التهيئة والتمهيد والتوطئة، وقد يكون تصحيحاً أو إظهار حجة أو دفع شبهة أو رد باطل من القول أو من الرأي.

    فمن هنا نعرف غاية الحوار، فغايته إقامة الحجة، أو دفع الشبهة، أو هذا مجمل غايته في الحقيقة، لكنه في واقعه تصحيح.

    فالحوار الناجح الصحيح تعاونٌ بين المتحاورين من أجل معرفة الحقيقة والتوصل إليها، هذه هي الغاية الأصلية؛ لكن هناك غايات تمهيدية منها مثلاً: إيجاد حل وسط يرضي الأطراف.

    أنتم تلاحظون الخلافات بين الناس -حتى بين الزوجين- أحياناً قد ترى من المصلحة أنك لا تحسم القضية، لكنك تزيل بعض ما في الصدور فقط، حتى تجمع بين المختلفين على الأقل ليخف شيء من الشحناء.

    فقد تكون غاية الحوار ليست بالضرورة أن تصل إلى ما تريد في هذه المرحلة، إنما تكون الغاية إيجاد حل وسط يرضي الأطراف.

    وأحياناً يكون مقصود المحاور التعرف على وجهات نظر الأطراف الأخرى، وهذا هدفٌ تمهيدي قد يكون إحدى غايات الحوار، كذلك قد يكون من غايات الحوار -وهي ليس الغاية القصوى- البحث والتنقيب من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرؤى والتصورات المتاحة، وذلك من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمكن، ولو في حوارات تالية، وهذا مهمٌ جداً فالغايات التمهيدية مهم أن نفقهها، وبخاصة ونحن في صرح تربوي، ونعاني حقيقة في بعض الأحيان من مشكلات تربوية يعرفها المربون؛ كالمرشد الطلابي، والموجه، ومدير المدرسة، أحياناً قد تكون المشكلات مع الطلاب لم تصل بالضرورة إلى الغاية القصوى، أحياناً قد تكون تمهيدية، فكيف تعالج القضية التي وقع فيها؟

    والحوار من أمثل الطرق التي تؤدي إلى حل لهذه المشاكل.

    أما وقوع الخلاف بين الناس فلا أريد أن أتحدث عنه، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن الخلاف موجود، كما أن الله جعل الناس مختلفين في صورهم ومختلفين في أشكالهم؛ قال سبحانه وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22].

    هذا الاختلاف الخلقي جزماً يترتب عليه اختلاف في الرؤى، واختلاف في التصورات، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في مقام آخر: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119] فالخلاف موجود، ولا يمكن أن تنفك الدنيا عن الخلاف، وعندي فيه كلام طويل، لكن أرجئ الكلام فيه إلى مناسبة أخرى، أو إن بقي عندنا وقت، أو أن يكون ثمة أسئلة مثارة؛ لأن الوقت يعاجلنا.

    1.   

    البدء بمواطن الاتفاق

    أهم شيء قبل أن يبدأ الحوار أن ينظر المتحاوران في مواطن الاتفاق.

    ما معنى ذلك؟

    أي: ينبغي حينما تتحاور مع أحد أن تبدأ بمواطن الاتفاق؛ لأن مواطن الاتفاق تطمئن النفس وتريحها، حينما تحس أنت وجليسك، الذي تريد أن تتناظر معه أنكما متفقان، عندها يطمئن هو ويرتاح؛ حينما تأتي له بالمسلمات والأشياء المتفقة بينكما، ترتاح النفس.

    احرص قدر ما تستطيع ألا تقول: لا؛ لأن (لا) تنفر، وسوف نبسط هذا.

    فمن الحكمة أن الإنسان يبدأ بمواطن الاتفاق، ولهذا نقول: إن بدء الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريقٌ إلى كسب الثقة وفشو روح التفاهم، ويصير به الحوار هادئاً وهادفاً.

    فالحديث عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقاً من التلاقي والقبول والإقبال مما يقلل الجفوة، ويردم الهوة، ويجعل فرص الفوز والنجاح أفضل وأقرب، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد.

    ولهذا بعض المتمرسين يقول: دع صاحبك المناظر لك يوافق ويجيب بـ(نعم) وحُلْ ما استطعت بينه وبين (لا)؛ قدر ما تستطيع حاول أن تأتي بأشياء يقول فيها: نعم، لماذا؟

    قال: لأن كلمة (لا) عقبة كئود يصعب اقتحامها وتجاوزها، فمتى قال صاحبك: لا، أوجبت عليه كبرياؤه أن يظل مناصراً لنفسه، لماذا؟

    قال: لأن التلفظ بـ(لا) ليس تفوهاً مجرداً بهذين الحرفين، الواقع أن الذي يقول: لا، قد تحفز كيانه، وانتفخت أعصابه وأوداجه وعضلاته وغدده، عندما يقول الإنسان: لا، يكون عنده شيء من الانفعال الداخلي كل واحد منا يحس به، فهو اندفاع بقوة نحو الرفض، أما إذا استطعت بخطواتك المرتبة أن تجر صاحبك إلى أن يقول: نعم، نعم، فإنها -أي: نعم- هادئة وسهلة ورقيقة ورفيقة، لا تكلف أي نشاط جسماني وأي إفرازات.

    فالحرص على مواطن الاتفاق وإظهارها وإبرازها يجعل النفوس تتقبل الحق، فالحوار له فنه، ونحتاج أن نتمرس فيه كثيراً جداً، ومع الأسف لو تقرءون النقاش الذي يأتي في الصحف، أو الردود فسترون أن كثيراً منها متشنج، وترى فيها بعض العبارات وإن غلفت متشنجاً جداً، ولو كانت من مثقفين، ولو كانت ممن يحملون مؤهلات عالية، لا يكاد يكتب أحدهم مقالة أو مقالتين إلا وخرج إلى تجريح الشخص.

    فنحن لم نوطن أنفسنا، ولم نعلم أجيالنا وناشئتنا كيف تتقبل الرأي الآخر، وقبولها لا يعني أن تسلم به، إنما قبوله كيف تسمع، فنحن نناقش في أطروحاتنا في وسائل الإعلام -في الصحافة، في التلفزيون، في الراديو- بعيدين عن الأصول، نطرح طروحات متشنجة أو مثاليات غير معقولة، إذا كنت وحدك خلف الشاشة ما عندك أحد فإنك تطرح مثاليات، فليس الحوار أن أطرح ما عندي بقوة، وأنت مستعد أن تسمع بروح هادئة وأعصاب هادئة، فالقضية دقيقة، والقضية تحتاج إلى تربية قبل أن نسمع مجرد كلمات.

    ولهذا أحياناً حينما يدور نقاش في التلفزيون أو في الراديو، وأنت تسمع تجد نفسك تتنرفز ولو كنت هناك لأمسكت بتلابيب هذا المتحدث، هذا يدل على أنك ليس عندك قاعدة في الحوار، ولا عندك استعداد أن تسمع، فالقضية دقيقة يا إخواني، فمن هنا احرص على ألا يقول صاحبك: لا.

    1.   

    أصول الحوار

    سلوك الطرق العلمية

    لو افترضنا أن أمامنا متحاورين، فما هي الخطوات التي ينبغي أن يلتزما بها في سبيل أن يتوصلا إلى الحقيقة؟

    أولاً: أن تُسلك المسالك العلمية، أي: أن المتحاورين يلتزمان الطرق العلمية.

    ما هي الطرق العلمية؟

    ليست خطابة، وليست كلمات متشنجة، وليست مجردة دغدغة عواطف، فدغدغة العواطف هذه تنفع للجماهير، ولكن في حوار بيني وبينه، وأحس أنه ندٌ لي وأنا ندٌ له ينبغي أن نلتزم قواعد:

    القاعدة الأولى: أن تكون طرق الحوار علمية، ما معنى ذلك؟

    فإذا كانت القضية دعوى، فلا بد أن آتي بأدلة، إما أدلة عقلية، أو أدلة نصوص إذا كانت شرعية، فإذا كانت عقلية، تكون مسلمات عقلية ومنطقاً عقلياً معروفاً، وإذا كانت أخباراً فلا بد أن أنقل خبراً صحيحاً، لا أبني حواري على أن أقول: قالوا وقلنا، لا أدخل إلا وأنا متأكد من أدواتي، فأولاً لا بد أن نقدم أدلة صحيحة مثبتة ترجح حقيقتي.

    والأمر الثاني: صحة النقل فيما أدعيه، ولهذا علماؤنا -علماء الحديث وغيرهم- يقولون: إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مدعياً فالدليل، فهذا ضروري عندما أدخل في الحوار، فأنا لا أدخل إلا ومعي أدواتي، لا يكفي أن أقول: قالت الصحيفة الفلانية، أو سمعت فلاناً يقول.

    ولهذا أكثر أخطائنا تكون من مقالات سمعناها من غير أن نتبين صحتها.

    وأحياناً قد تكون المقولات صحيحة، لكن مراد صاحبها مختلف، أو أنها نقلت إلينا جزئية، أو نقلت مبتورة.

    مهمٌ جداً أن نسلك المسالك العلمية في طرح الحوارات، فإذا كانت دعوى، فلا بد من أدلة، وإذا كانت نقلاً، فلا بد من التثبت في الصحة، والله عز وجل قد قال للمخالفين: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111] في أكثر من آية، فقال: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93] وقال: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي [الأنبياء:24].

    وقد يكون استيعاب أصول الحوار يحتاج إلى وقت وأنا سوف أذكر أصلين على سبيل العجل؛ لأن استيعابها قد يحتاج إلى وقفات دقيقة، أو علمية بحتة، لكن أشير إليهما على كل حال.

    السلامة من التناقض

    الأصل الثاني: سلامة كلام المناظر ودليله من التناقض، فالمتناقض ساقطٌ بداهةً. بمعنى أنت إذا تكلمت، يجب أن تحرص أن يكون كلامك صحيحاً غير متناقض.

    فمثلاً حينما قالت الأقوام المكذبون لرسلهم: سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ.

    وفرعون وصف موسى بأنه ساحرٌ أو مجنون، وكذلك أيضاً قوم محمد صلى الله عليه وسلم الكفار قالوا له: ساحر أو مجنون، فهذا وصف متناقض غير مقبول، لماذا؟

    لأن السحر والجنون لا يجتمعان، لا يمكن أن يكون الشخص ساحراً ومجنوناً، غالباً السحر يحتاج إلى ذكاء وفهم، لكن الجنون خلل عقل، فكيف تصف هذا بأنه ساحر، أو مجنون، إذاً قضية متناقضة حقيقة، فلما لم يكن عندهم حجة، أتوا بأي أوصاف، وكذلك أيضاً حينما قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم فيما أتى به القرآن: إنه سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، والسحر لا يكون مستمراً، قال تعالى عنهم: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر:2] فهو تناقض، فالسحر لا يكون مستمراً، والمستمر لا يكون سحراً.

    ألا يكون الدليل هو عين الدعوى

    الأصل الثالث: ألا يكون الدليل هو عين الدعوى، وهذه قضية منطقية أصولية قد لا نقف عندها كثيراً، بمعنى أنك إذا طرحت شيئاً، أو تريد أن تأتي بشيء، فلا تأت بعين الدعوى تجعلها دليلاً؛ لأن بعض الناس أحياناً قد يكون عنده من البهرج، وعنده من قوة العبارة يريد كما يقولون: يلفك، فيأتي بعين الدعوى مغلفة، بينما هو الحق أن يأتي بدليل، لا أن يأتي بالدعوى ويجعلها دليلاً؛ لأن هذا غير مقبول.

    الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مسلمة

    الأصل الرابع: (وهذا مهم جداً، وسوف نقف عنده بعض الوقفة) الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مسلمة، أي: حينما يتحاور المتحاوران، فلا بد أن يكون هناك مسلمات فهي لا تدخل في النقاش، أو تكون هناك أمور غير مسلمة فلا يجوز أن تدخل في المسلمات، فإذا كنت مثلاً تتحاور مع نصراني، النصراني لا يسلم بالقرآن، ولا يسلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلا تجعل القرآن من المسلمات في الحوار معه، وإذا كنت تتحاور مع مسلم في قضايا شرعية، أو قضايا أثيرت، فلا يمكن أن تكون المسلمات محل نقاش، لماذا؟

    لأننا إذا دخلنا إلى المسلمات، خرجنا إلى شيء آخر، وسوف يتشعب النقاش.

    مثلاً: في الإسلام مسلمات، منها ربوبية الله سبحانه وتعالى، واستحقاقه للعبادة سبحانه وتعالى، وكماله في أسمائه وصفاته، وتنزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق به، وكذلك ما يتعلق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بالقرآن.

    وكذلك قضية الحجاب، حجاب المرأة المسلمة فهو مسلم، ولا يجوز أن يكون محل خلاف، وتعدد الزوجات ليس فيه خلاف، والربا ليس فيه خلاف.

    الحجاب قضية مسلمة، لأن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دلت على الحجاب، وهناك قضايا داخل الحجاب قد تكون محل خلاف، ويمكن أن تكون محل حوار، مثل كشف الوجه، لا شك أن العلماء مختلفون فيها، وإن كنا نرى وجوب تغطية الوجه، لكن هذه القضية مما تقبل الحوار، لكن أصل الحجاب لا يقبل الحوار.

    وكثير من الصحافات العربية وبعض الناس الذين هم قليلو الدين، وبعض التوجهات التي قد تكون علمانية تطرح قضية الحجاب وكأنها قضية مختلف فيها.

    وقضية الحجاب محسومة في الإسلام، وليست محل نظر، ولا يجوز أن تكون محل نظر بين المسلمين، أما حينما نناقش نصرانياً، أو وثنياً، فيمكن أن نناقشه؛ لأنه غير مسلم بها، لكن بين المسلمين الحجاب مسلَّم به.

    وكذلك تعدد الزوجات، فهي قضية مسلم بها، ليست محل نقاش البتة؛ لأن كتاب الله عز وجل حسمها: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3] على معنى أن مشروعية التعدد ليست محل جدال، ولهذا من الخطأ مناقشتها، وأنا أعتبره خطأً لعدم الفهم، لا أتهم من يفعلونه اتهاماً سيئاً، إنما أظنه جهلاً، يأتي الإنسان يطرح في الجريدة أو في الصحيفة أو في التلفزيون أو في وسيلة إعلام، ويقول: ما رأيك في تعدد الزوجات؟ فهذا لا يجوز، وليس محل حوار أبداً البتة؛ لأن التحدث فيه محسوم.

    قد نتحاور في مسألة ما هي وسائل العدل بين الزوجات؟ أما هل التعدد جائز أو غير جائز، فلا يجوز أن يكون محل نقاش.

    الحكم بما أنزل الله لا نحاور فيه هل التشريع الإسلامي صالح للتطبيق أو غير صالح؟ أو الحدود هل هي صالحة للتطبيق في زماننا أو غير صالحة؟ فهذا ليس محل نقاش، ولا يجوز البتة أبداً، بل يكفر الذي يقول ذلك، لكننا نحسن الظن ببعض قليلي العلم الديني حينما يطرحون هذه القضايا، لأنه مجرد سبق صحفي أو منشور صحفي يريد أن يثير ويروج للصحيفة التي يعمل فيها؛ لأن هذه مسلمات.

    مقصودي: أن هناك مسلمات قد تكون عقلية، وهناك مسلمات دينية، فالمسلمات الدينية تكون بين أصحاب الدين، والمسلمات العقلية أيضاً مسلمة بين الناس كلهم؛ مثلاً: حسن الصدق، وكون الصدق حسناً، هذا مسلَّم، لا يوجد أحد يقول: إن الصدق سيئ، وكون الكذب قبيحاً، وشكر المحسن أيضاً؛ فهذه مسلمات ليست محل جدل، وكذلك معاقبة المسيء أيضاً، فهي ليست محل جدل، فهذه من المسلمات المتفق عليها، فمقصودي: أن من أصول الحوار أن تنطلق من مسلمات ثابتة، فلا تجعل المسلمات محل نقاش إلا إذا كانت عندك غير مسلَّمة.

    التجرد وقصد الحق والبعد عن التعصب

    الأصل الخامس: التجرد وقصد الحق والبعد عن التعصب، وهذا الأصل له جانبان: جانب: كونه أصلاً، وجانب كونه خلقاً من أخلاقيات الحوار، فهو باعتبار أصل من الأصول، وباعتبار آخر هو جانب من جوانب أخلاقيات الحوار، فكونه أصلاً يعني: أنه يجب، لماذا قلنا: أخلاقي؟

    لأنه قلبي، والشيء القلبي غالباً يرجع إلى وازع الضمير كما يقال، لكنه أصل بمعنى أنه لا يمكن إذا كنت جاداً وصادقاً في أن تصل إلى الحق، لا يمكن إلا أن تطبق هذا الأصل، وهو التجرد وقصد الحق والبعد عن التعصب والالتزام بآداب الحوار، وإذا لم تكن مستقراً، وجاداً وصادقاً، فإنه لا يمكن أبداً أن تصل، وأكثر ما يفشل الحوارات هذا حتى المفاوضات على مستوى الدول، فإن لم يكن هناك صدق وجدية؛ فلا يصلون، ولهذا تطول وتطول إلى ما لا نهاية؛ لأن هناك أهدافاً غير منظورة، ولعل كل طرف يعرف ما عند الآخر.

    ولهذا يقول الغزالي أبو حامد : التعاون على طلب الحق من الدين، ولكن له شروط وعلامات، منها: أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد معاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهره له.

    ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق، أو يسدد، أو يعان، وتكون عليه رعاية الله وحفظه، وما ناظرني أحد فباليت أظهرت الحجة على لساني أو لسانه.

    والمقصود هو: أن يكون الحوار بريئاً من التعصب خالصاً لطلب الحق خالياً من العنف والانفعال، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانية مما يفسد القلوب ويهيج النفوس.

    أهلية المحاور

    الأصل السادس: أهلية المحاور، وهذه قضية مهمة جداً؛ بمعنى أن يكون المحاور مؤهلاً، لا جاهلاً ولا غير متخصص، كما أنك ينبغي أن تكون مستعداً. ومع الأسف، فإن ما يحصل في بعض الحوارات أن يكون المناظر عن الجانب الإسلامي غير مؤهل، وقد يكون مستشرقاً كافراً أو مسلماً غير مؤهل، فلا بد في الأصول أن تأتي بإنسان مؤهل.

    ولقد ندمت وأسفت أني لم أحضر الندوة التي أقيمت من جملة النشاط الثقافي، وكنت عليها حريصاً، لكن بلغني أنه وقعت أشياء جميلة جداً وحوارات، وبخاصة طروحات من بعض الذين نحبهم كانت على مستوى يثلج الصدر.

    فالمهم فعلاً أهلية المحاور، فمن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من هو على الباطل، ومع الأسف، أحياناً في الغرب يقيمون ندوات، ويأتون بمستشرقين يدافعون عنا، ويخرجون بنتائج وتوصيات ومقررات، فمن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل، ومن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق، ومن الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يجيد الدفاع، قد يكون هو على حق وعلى معرفة به؛ لكن لا يجيد الدفاع عنه، ومن الخطأ كذلك أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل، وليس كل واحدٍ مؤهلاً للدخول في حوار صحي يجني ثماراً يانعةً ونتائج طيبة، حتى آتي إلى الأخلاقيات.

    قطعية النتائج ونسبيتها

    الأصل السابع: قطعية النتائج ونسبيتها، وهذه قضية دقيقة ومهمة، وخاصةً فيما ذكرنا قبل قليل من أنه قد يكون مقصودك من الحوار ليس الوصول في الوقت الحاضر، إنما تذكر أشياء تمهيدية، فمن المهم جداً، حتى من ناحية نفسية ليصل الحوار إلى مبتغاه ألا يكون هناك تشنج؛ وغالباً الذي يفشل هو المتشنج، وغالباً الذي يفشل هو الذي يرفع صوته، وغالباً الذي يفشل هو الذين ينفعل، بقدر ما تكون مستمسكاً بهدوئك مهما سمعت يكون نجاحك، ولهذا أحياناً قد تسمع أشياء عجيبة، وأشياء تكاد تكون أوضح من الشمس في خطئها، ومع هذا عليك أن تكون هادئاً جداً، لكن ليس هذا هو المقصود، المقصود أن توطن نفسك، أنك قد تكون أنت المخطئ، بمعنى أنك على حق تحتمل الخطأ، وغيرك يحتمل الصواب.

    ولهذا نقول: من المهم في هذا إدراك أن الرأي الفكري نسبي الدلالة على الصواب أو الخطأ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام، بمعنى حينما يأتي محاورك بأشياء ويطرح طروحات، فلا تتشنج؛ فربما تكون أنت المخطئ، وهذه قضية مهمة، بل أحياناً روح التسليم تجعل صاحبك يسلم أيضاً، أما التشنج فيفشل الحوار، فإذا اعتقدت أنك قد تخطئ، وأنك غير معصوم، وأن ما أتى به صاحبك من وثائق ينبغي أن تسلم، وأن تكون عندك -كما يقال- روح رياضية في هذا الموضوع.

    فإن الذين لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغونه عن ربهم سبحانه وتعالى، وما عدا ذلك، فيندرج تحت المقولة المشهورة: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب.

    وبناءً عليه، فليس من شرط الحوار الناجح أن ينتهي إلى قول واحد، فإن تحقق هذا واتفق المتحاوران على رأي واحد، فنعم ذلك ونعم المقصود، وهو منتهى الغاية، وإذا لم يكن، فالحوار ناجحٌ إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كل من منهجيهما، يسوغ لكل واحد منهما التمسك به.

    طبعاً ليس الكلام في القضايا الدينية، ولنفترض أننا نتناقش في منهج تربوي، نتناقش في صلاحية هذا الكتاب من عدمه، فلا نريد في نهاية حوارنا أن نقول: أنت التزم به في كذا، وأنا ألتزم به في كذا، وانتهت القضية، أحياناً فعلاً قد لا تحسم القضية، وينبغي أن تعرف ذلك أن القضية قد لا تحسم في بعض الأحيان.

    فيكون الحوار ناجحاً إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كل من منهجيهما، ويسوغ لكل واحد منها التمسك به ما دام في دائرة الخلاف السائغ، وما تقدم من حديث عن غايات الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً كما أسلفت

    ولهذا ابن قدامة رحمه الله يقول: وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في المسائل الاجتهادية، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه.

    ولكن الحوار يكون فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطية.

    الرضا والقبول بالنتائج

    الأصل الثامن والأخير في الأصول: الرضا والقبول بالنتائج، ومع الأسف أنه فيما قرأتم وقرأنا وما يطرح في كثير من وسائل الإعلام لا نكاد نرى أحداً سلم للآخر، أو رضي بالنتائج أبداً، ولا شك أن هذا يدل على سوء في التربية في هذا الباب، وكان ينبغي أن نوطن أنفسنا أن نقبل الحق من أي إنسان جاء، وأقبل لنفسي أني قد أكون على خطأ، لكننا مع الأسف نتكلم من ناحية نظرية، أما في الواقع فإلى الآن لم نصل إلى مرحلة أن نربي أنفسنا وأولادنا وأجيالنا على أن تتقبل بالتسليم بالخطأ، مع الأسف أننا لم نصل إلى هذا.

    فإذاً من الأصول الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاوران، والالتزام الجاد بها وما يترتب عليها، وإذا لم يتحقق هذا الأصل، كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء.

    ولهذا يقول ابن عقيل : وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة، فإنه أنبل لقدره، وأعون على إدراك الحق، وسلوك سبيل الصدق، والشافعي رضي الله عنه وأرضاه يقول: ما ناظرت أحداً فقبل مني حجة إلا عظم في عيني، ولا ردها إلا سقط من عيني.

    هذه إشارات إلى أصول الحوار، طبعاً قد تجدون في بعض المراجع أصولاً غير ما ذكرت لكم، لكن يدخل بعضها في بعض غالباً، وبعضها قد يحتاج إلى مزيد من البسط، وبعضها مضغوط في بعض، فهذا إيجاز لأصول الحوار.

    1.   

    أخلاقيات الحوار وآدابه

    نأتي إلى أخلاقيات الحوار وآدابه:

    التزام القول الحسن وتجنب منهج التحدي والإفحام

    من أخلاقيات الحوار: التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام: أي: حاول وأنت تتحدث أن تختار ألفاظك، وألا تدخل مدخل المفحم، كمن يريد أن يحشر خصمه في زاوية؛ لأن هذا غالباً لا يؤدي إلى حل، إنما يؤدي إلى تشنج وتنتهي القضية، لكن كما قلنا: تحاول أن يقول: نعم، نعم، نعم، فذلك خيرٌ من أن تحشره وتريد أن تظهر عليه، تأكد يا أخي وإن لم تتحدث، أن الحضور يعرفون، الحضور تفهم، وإن لم يقولوا شيئاً، فلابد من التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، فمن المهم باسم المتحاورين التزام الحسنى في القول، والله عز وجل يقول: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53] وقال: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] فهذا هو الأصل، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة:83] ويلحق بهذا الأصل -كما قلت- تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث، وتعمد إيقاع الخصم في الإحراج، ولو كانت الحجة بينة والدليل دامغاً، فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف -وهذه قاعدة مهمة فالزموها- كسب القلوب مقدم على كسب المواقف مهما كان، لأنك إذا كسبت الموقف وخسرت الناس، فماذا فعلت؟

    أنت مقصودك أن تكسب الناس، فقد تكسب الموقف، لكنك لا تكسب الناس، وإذا كسبت الناس، كسبت الموقف، أما إذا كسبت الموقف وخسرت الناس، فقد ذهب كل عملك هباءً، وبخاصة إذا كنت من الناس الذين يدعون إلى الله، وتريد الحق فعلاً، إذا كنت تريد الحق وبسط الحق، فاكسب الناس، ولا تكسب المواقف، فكسب القلوب مقدم على كسب المواقف، وقد تفحم الخصم، لكنك لا تقنعه، وقد تسكته، لكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه، وأسلوب التحدي يمنع التسليم، ولو وجدت القناعة العقلية، وهذه طبيعة البشر، ولهذا الأنبياء أتوا بالحجج، ومع هذا فالطغاة رفضوا الإيمان لا لعدم قناعتهم ولكن لاستكبارهم، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] فليس الذي يمنع خصمك أنك لست على الحق، ينبغي أن تعرف هذا، ومادمت واثقاً من نفسك، فتأكد أن الذي يمنعه ليس أنك على الحق، إنما هو شيء في نفسه، في داخله، فما دام أنه شيء داخلي، وأنك لست مسئولاً، فلماذا التشنج؟ ولماذا الإفحام والإقحام؟

    فإذا كنت اتبعت الأصول السابقة من العلم، وأصول العلم، وإقامة الحجة، وإثبات صحة الخبر إلى آخر ما سبق، فالقضية منتهية، فهذا الذي نقول، وإنك لتعلم أن إغلاظ القول ورفع الصوت وانتفاخ الأوداج لا يولد إلا غيظاً وحقداً وحنقاً.

    ومن أجل هذا، فليحرص المحاور ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة، فهذا رعونة، وإيذاء للنفس وللغير، ورفع الصوت لا يقوي حجة، ولا يجلب دليلاً، ولا يقيم برهاناً، بل إن الصوت العالي لم يعل في الغالب إلا لضعف حجته وقلة بضاعته، فيستر عورته بالصراخ، ويواري ضعفه بالعويل، وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان والفكر المنظم والنقد الموضوعي والثقة الواثقة.

    على أن الإنسان قد يحتاج إلى رفع الصوت قليلاً في بعض الأحيان، أو يغير الإنسان نبرات صوته إذا كانت الصيغة استفهامية، أو تقريرية، أو إنكارية، أو تعجبية، هذه أشياء معروفة في أصول الحوار، لكنها لا تعني السفه على صاحبك، أو أنك تريد أن تسكته برفع صوتك، لكن إذا كان المقصود تغيير لهجة الصوت، لأن المقام يستدعي أن يكون الأسلوب إنكارياً، أو تعجبياً أو استفهامياً أو تقريريا،ً أو غير ذلك من أساليب البلاغة مما يدفع الملل والسآمة، فمعلوم أنه مطلوب.

    على أن هناك أحياناً بعض الحالات التي يسمح فيها ويسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام، وإسكات الطرف الآخر، لكن هذا ليس الأصل، هذا قد يحتاج إليه، لكنه خلاف الأصل، فإذا استطال مثلاً صاحبك وتجاوز الحد وطغى وظلم وكذب، وأتى بأشياء مكشوفة، وعادى الحق وكابره مكابرةً بينة، فلمثل هذا جاءت الآية الكريمة: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46] فحينئذٍ قد تتجاوز الحسنى، لأن الناس تحب أن ترى الحق عالياً، وتحب أن ترى الباطل مقموعاً، وقال سبحانه وتعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] ففي حالة الظلم والبغي والتجاوز قد يسمح بالهجوم الحاد المركز على الخصم وإحراجه وتسفيه رأيه؛ لأنه يمثل باطلاً، وحسنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً.

    وهناك كلمة لطيفة جميلة على الهامش، وهي أنه لا ينبغي للإنسان أن يستعمل الضمير (أنا) في الحديث، ذكر ذلك كثير من المتأدبين، وقال: لا ينبغي للإنسان أن يقول أنا ونحن إذا استطاع، إنما يستعمل ضمير الغيبة، فهو أحسن، فلا يقول: في رأيي، أو في درسنا، أو في تجربتنا، أو في رأينا، أو على حسب علمنا، يحسن أن يقول: يبدو للدارس، تدل التجارب، الذي يبدو للباحث، ونحو ذلك، فهي ألطف؛ حتى لا يحس السامع بأن ثمة أسلوب تعالٍ على المتحدثين، أو بين المتحاورين.

    أخيراً من غاية الأدب واللباقة وإدارة الحوار ألا يفترض في صاحبه الذكاء المفرط، فيكلمه بعبارات مختزلة، ولا يفترض فيه الغباء المفرط، فيأتي بأشياء من المسلمات بحيث يمل منها المتحاوران، أو يمل السامعون، والناس في ذلك درجات في عقولهم وفهمهم.

    الالتزام بوقت محدد

    القضية الثانية في آداب وأخلاقيات الحوار: الالتزام بوقت محدد في الكلام، وهذه أيضاً مهمة وجميلة، ومع الأسف أنه لا يكاد يُلتزم بها، وبخاصة في الندوات، إذا أقمنا ندوات، فلا يكاد أحد يلتزم، فإذا أتى الإنسان بأوراقه أوجب على نفسه أن يقرأها كلها، كان ينبغي قبل الدخول أن يكون المتحاورون والمنتدون ومدير الندوة متفقين على أن يأتي الواحد بكلمات تغطي الجزء، لكن مع الأسف إذا كانت شهوة الكلام هي المطلوبة، فهذا مشكلة، ومع الأسف ما تعودنا على ذلك عملياً؛ رئيس الندوة يقول: يا إخواني بقيت دقيقتان، ومع هذا لا أحد يستجيب، وإن كان رئيس الندوة أحياناً يستخدم سلطته، ويوقف الكلام، لكن لا ينبغي هذا، فهو يؤثر على مجريات الأمور والهدوء والانسجام الموجود في القاعة وينبغي أن نكون جادين في الالتزام بالوقت في الكلام، فينبغي أن يستقر في ذهن المحاضر ألا يستأثر بالكلام، ويستطيل في الحديث ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع.

    فـابن عقيل الحنبلي يقول في كتابه فن الجدل : وليتناوبا الكلام مناوبةً لا مناهبةً؛ بحيث ينصت المعترض للمستدل حتى يفرغ من تقريره للدليل، ثم المستدل للمعترض حتى يقرر اعتراضه، ولا يقطع أحدٌ منهما على الآخر كلامه، وإن فهما مقصوده من بعضه.

    حتى إن فهمت فاسكت حتى ينتهي، لا تقل له: كفى فقد فهمت، ولهذا قال ابن عقيل : وبعض الناس يفعل هذا - أي: يقاطع- تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه، وليس في ذلك فضيلة إذ المعاني بعضها مرتبطٌ ببعض، وبعضها دليل على بعض، وليس ذلك علم غيب، أو زجراً صادقاً، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به، وبخاصة إذا افترضنا أن المتحاورين على مستوى من العلم، ومستوى من العقل، ومستوى من الفهم.

    وغالباً المستمعون كذلك على مستوى من الفهم، فليس ذكاءً أنك تفهم من منتصف الطريق، فإذا فهمت فاسكت.

    قال ابن عقيل : ومن المفيد أن نعلم أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام ومقاطعة حديث الرجال يرجع إلى ما يلي:

    أولاً: إعجاب المرء بنفسه.

    ثانياً: حب الشهرة والثناء.

    ثالثاً: ظن المتحدث أن ما يأتي به جديدٌ على الناس، وهذه مشكلة فلا ينبغي أن تفترض أن الناس كلهم جهال.

    رابعاً: قلة المبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم، لو كنت تحترم الناس ما حاولت أن تستطيل في شيء ليس لك فيه حق.

    قال: والذي يبدو أن واحداً من هذه الأسباب إذا استقرت في نفوس السامعين كافٍ في صرفهم وصدهم ومللهم واستثقالهم لمحدثيهم.

    وأرجو ألا أكون منهم!

    حسن الاستماع والإنصات

    الثالث من الآداب: حسن الاستماع، وأدب الإنصات، وتجنب المقاطعة، وهذه قضية مكملة لما سبق، ينبغي للمتحاور -الطرف الثاني أو كل واحد بالنسبة لصاحبه- ينبغي له أن يحسن الاستماع وأدب الإنصات وأدب المقاطعة، وهذا والله نحتاجه كثيراً في مدارسنا، وبخاصة بين الأستاذ وتلميذه، يعني: لو أن أساتذتنا اجتهدوا في أن يعلموا تلاميذهم أدب الحديث بمعنى أن يكونوا هم القدوة، فالمشكلة أن الأستاذ يريد الكلام، وهو الذي يُسمع فقط، لا يكاد يحسن أن يعطي طالبه فرصة الحوار، ولو فرصة الحديث، فهذا نوع من التعالي مع الأسف، ويجب أن نكون صادقين في نقد أنفسنا، وبخاصة في مثل هذه المدرسة الثانوية -كما قلنا-: الثانوية طلابها في مستوى المراهقة، والمراهق -كما يقول علماء النفس- يريد أن يثبت ذاته، وينبغي أن يعطيه المدرس فرصة في أن يثبت ذاته بحيث يتحدث ويتكلم ويعطيه فرصة، ولا يستهزئ به، ولا يجعل زملاءه يسخرون منه، فحسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة من أخلاقيات الحوار.

    فكما قلنا في آداب الحوار: الالتزام بوقتٍ محددٍ، وتجنب الإطالة، كذلك نطلب حسن الاستماع، واللباقة في الإصغاء، وعدم قطع حديث المحاور، وإن من الخطأ -وهذه قضية يا إخواني مهمة جداً- أن تحصر همك في التفكير فيما ستقوله، وألا تلقي بالاً لمحدثك ومحاورك، وهذا كثير؛ زميلك يتحدث وأنت مشغول بالرد، لا يا أخي اسمع ما يقول، يمكن أن يقول حقاً، هذه قضايا دقيقة، وهي ترجع إلى الضمير يا إخواني، إن أغلب أخلاقيات الحوار ضميرية؛ أنت بنفسك أبصر، ليست أشياء تقاس بالترمومتر، لو كانت تقاس، لم تكن هناك مشكلة، بل كلنا سنكون منضبطين، فحينما يتحدث صاحبك، ينبغي أن تكون مستمعاً جيداً، لا أن تكون مشتغلاً بالرد، ومن الخطأ أن تشغل همك في التفكير فيما ستقوله، وألا تلقي بالاً لمحدثك ومحاورك، وقد قال الحسن بن علي رضي الله عنهما لابنه رضي الله عنهم أجمعين: [[ يا بني إذا جالست العلماء، فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ولا تقطع على أحدٍ حديثاً، وإن طال حتى يمسك ]] ويقول ابن المقفع : تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجوار، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي بما يقول.

    إذاً: لا بد في الحوار الجيد من سماع جيد، والحوار بلا حسن استماع -كما تقول العامة- حوار طرشان -جمع أطرش- فكل من طرفيه منعزلٌ عن الآخر، فالسماع الجيد يتيح القاعدة الأساسية لالتقاء الآراء وتحديد نقاط الخلاف وأسبابه.

    حسن الاستماع يقود إلى فتح القلوب واحترام الرجال وراحة النفوس، تسلم فيه الأعصاب من التوتر والتشنج، كما يُشْعِر بجدية المحاور وتقدير المخالف وأهمية الحوار، ومن ثم يتوجه الجميع إلى تحصيل الفائدة والوصول إلى نتيجة.

    تقدير الخصم واحترامه

    الرابع من الآداب والأخلاقيات: تقدير الخصم واحترامه، وهذه مهمة جداً أن تقدره، وقد نكون أشرنا إليه في بعض الطروحات التي تطرح في وسائل الإعلام في الردود، لا يكاد يكون فيها تقدير إلا في الحلقة الأولى، أو الثانية بعد ثلاث أو أربع حلقات تجد الدنيا انفتحت على التجريح الشخصي وإلى الكلام في الشهادات، وإلى الكلام في السيرة الذاتية، وإلى الكلام في تاريخه العلمي أين ذهب؟ وأين أتى؟

    ما كان ينبغي هذا أبداً، والتقدير أيضاً قلبي، وبقدر ما تكون صادقاً في التقدير يظهر هذا على سلوكك وأسلوبك وكلامك وحديثك وكتابك، فينبغي في مجلس الحوار التأكيد على الاحترام المتبادل من الأطراف، وإعطاء كل ذي حق حقه، والاعتراف بمنزلته ومقامه، فيخاطب بالعبارات اللائقة وبالألقاب المستحقة والأساليب المهذبة، فتبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق، والبعد عن الهوى، والانتصار للنفس.

    أما انتقاص الرجال، وتجهيلها، فأمر معيبٌ محرمٌ، وما قيل من ضرورة التقدير والاحترام لا ينافي النصح وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة، وطرقه الوقورة، فالتقدير والاحترام غير الرخيص، والنفاق المرذول، والمدح الكاذب، والإطراء على الباطل، وهذا يقودنا إلى قضية أخرى تنبع من التقدير، وهي أنك تتوجه بالحوار إلى القضية المطروحة، ويصرف الفكر إلى المسألة المبحوثة ليتم تناولها بالبحث والتحليل والإثبات والنقد بعيداً عن صاحبها أو قائلها، كل ذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية، طابعها الطعن والتجريح والعدول عن مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشة التصرفات والأشخاص والشهادات والمؤهلات والسيرة الذاتية.

    حصر المناظرات في مكان محدود

    ومن الآداب: حصر المناظرات في مكان محدود، هذه قضية دقيقة، وأظن أن أكثر من نبه إليها علماؤنا المتقدمون، وهي قضية دقيقة، وأظنها تحتاج إلى نظرة، وقد تكون مستغربة، وهي حصر المناظرات في مكان محدود، ما معنى ذلك؟

    أهل العلم يقولون: إن المحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور، قالوا: وذلك أجمع للفكر والفهم، وأقرب لصفاء الذهن، وأسلم لحسن القصد، وإن في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء والحرص على الغلبة بالحق والباطل، مع الأسف في الوقت الحاضر الآن أصبحت محاورات تلفزيونية خاصة في الخارج بين رؤساء الأحزاب، وبين المرشحين للانتخابات، غالباً هذه المحاورات لا تؤدي إلى حق، إنما استعراض عضلات، وتقديم طروحات كاذبة، وكما يقال: كل واحد يطرح مشروعه الانتخابي، وكل مشروع كذاب، لماذا؟

    لأنهم أمام الجمهور، ويريدون مجرد المفاخرة، والرياء والأطروحات الكاذبة، ولو انفردوا بأنفسهم وصدقوا، لكانت مصلحة الوطن أجدى وأولى وأوصل للحق؛ لكن القضية من أجل الفوز في الانتخابات واستمالة الجمهور، وهم كذابون، ولهذا أكثر الطروحات الانتخابية كاذبة وأفاكة، ولا يصلون إلى شيء، بل حتى على مستوى الانتخابات الأمريكية وغيرها يطرحون أشياء، وتجد الرئيس حينما يذكر، يشتغل في قضايا السياسة الخارجية، ويذهب عن كثير من القضايا التي وضعها في سياسات اقتصادية، أو سياسات اجتماعية، أو أشياء غيرها، لأن القضية جماهيرية، ولا يكادون يلتزمون بأدبيات الحوار؛ لأنه لا يريد أن ينهزم أمام الجمهور، أو أمام جمهوره الذين يرغبون ترشيحه، ولهذا يذكر أهل العلم عن المحاورات أنها ينبغي أن تكون في خلوات، واستدل أهل العلم بآية لطيفة من كتاب الله عز وجل، وهي قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46] فالله عز وجل أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه: ما جئت به، فكروا به منفردين؛ لأنكم إذا فكرتم متداخلين، كل واحد يتعصب، ولهذا في قصة طويلة حقيقة ذكرها المؤرخون أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس كانوا يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد منفرد، فإذا خرجوا تقابلوا في الطريق، ثم تعاهدوا على عدم السماع، فكان كل واحد منهم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن معجباً به، لكن إذا اجتمعوا كل واحد كذب على الآخر، حتى قال بعضهم: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، لكن في النهاية قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياءً أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياءً ما عرفت معناها، قال الأخنس : وأنا، إلى أن قال: خرج الأخنس من عندي حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟

    فقال أبو جهل : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاشينا على الركب -أي: تساوينا- وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه وحي من السماء، فمتى ندرك هذا؟ ما معنا إلا أن نكذب فقط، والله لا نؤمن به، ولا نصدقه، قال: فقام من عنده الأخنس وتركه.

    فلذلك قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى [سبأ:46] فالإنسان إذا انفرد يكون أقرب إلى قبول الحق، أما أمام الناس، فذلك يؤدي كثيراً إلى حجب الحق والوصول إلى الحقيقة.

    من آداب المحاورات الإخلاص

    الأدب الأخير وهو المهم، وهو الأول والأخير: الإخلاص.

    هذه الخصلة من الأدب متممة لما ذكر، من أصل التجرد الذي قلناه قبل قليل في طلب الحق إلى آخره، ومن أجلى المظاهر في ذلك أن يدافع المحاور عن نفسه حب الظهور، والتميز على الأقران، وإظهار البراعة وعمق الثقافة والتعالي عن النظراء والأنداد.

    إن قصد انتزاع الإعجاب والثناء واستجلاب المديح مفسد للأمر صارف عن الغاية، وسوف يكون فحص النفس ناجحاً ودقيقاً لو أن المحاور توجه إلى نفسه بهذه الأسئلة، هذا من الأسئلة التي يوجهها الإنسان إلى نفسه، ليختبر إخلاصه، هل ثمة مصلحة ظاهرةٌ ترجى من هذا النقاش وهذه المشاركة؟

    هل يقصد تحقيق الشهرة أو إشباع الشهوة في الحديث؟

    هل يتوخى أن يتمخض هذا الحوار عن نزاع وفتنة وفتح أبواب من هذه الأبواب التي من حقها أن تسد؟

    من التحسس الدقيق ومن تصادق النفس أن يحذر بعض التلبيسات النفسية والشيطانية، فقد تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق، وواقع دخيلتها أنها تقف مواقف انتصار ذات هوى، ويدخل في باب الإخلاص والتجرد توطين النفس على الرضا والارتياح من ظهور الحق كما سبق.

    كل المبادئ السابقة الذي يبلورها واقعاً ملموساً ومجسداً هو أن يكون لدى الإنسان الإخلاص الصادق لله عز وجل: بأن يقصد إعلاء الحق والدين، ونفع الناس، وأن يقصد ظهور الحق، ولو على غير يديه، وعلى لسان غيره.

    ومما يعينك على الإخلاص أن تعلم أن الآراء والأفكار ومسالك الحق ليست ملكاً لواحدٍ، أو طائفة، والصواب ليس حكراً على واحدٍ بعينه، فَهَمُّ المخلص ومهمته أن ينتشر الحق في كل مكان، ومن أي مكان، ومن أي وعاء، وعلى أي وسيلة.

    وإن من الخطأ -وافهموا هذه يا إخواني- إن من الخطأ البين في هذا الباب أن تظن أن الحق لا يغار عليه إلا أنت، ولا يحبه إلا أنت، ولا يدافع عنه إلا أنت، وليس له مخلص إلا أنت، ولا يتبناه إلا أنت، ولا تحرسه إلا أنت، فإن من الجميل وغاية النبل والصدق إحسان الظن بالناس.

    ومن الصدق مع النفس وقوة الإرادة أن توقف الحوار إذا وجدت نفسك قد تغير مسارها، ودخلت في مسالك اللجج والخصام ومدخولات النوايا، وأكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    1.   

    الأسئلة

    ماذا يفعل من له أب يتبنى الأفكار العلمانية؟

    السؤال: فضيلة الشيخ: بماذا توجهون شاباً ملتزماً قد ابتلي بأبٍ تقلب في التبني الجزئي والتأثر بعدة اتجاهات واعتقادات كان أولها الشيوعية، ثم الاشتراكية، ثم القومية، وكان ناصرياً، وفي نهاية المطاف بعثياً، هذا بالإضافة إلى انغماسه في النظر الحرام، وسب المسلمين أعني العلماء والدعاة، والجماعات الإسلامية في كل مكان، واتهام نياتهم، والفرح بذبحهم من قبل العلمانيين، ورفض قتل -أحد الناس ذكر اسمه- وهو صاحب لجج وقوة لسان، وهو ممن ينهى بناته عن الالتزام بالدين، وعن المحافظة على الحجاب، وكثيراً ما يقع له مع ابنه نقاش، فيتطور إلى إنكار الأحكام الشرعية، وتأويل النصوص، ثم الطعن في الصحابة، ثم إنكار السنة وثبوتها، ويحصل أن ينطق أحياناً بالكفر الصريح مثل: إنكار ثبوت السنة، فهل أولى لابنه الصبر عليه مع النصح والدعوة، أم يجب عليه رفع أمره للمحكمة الشرعية، وذلك لأنه على هذا المنهج منذ أربعين عاماً؟

    الجواب: عليه أن يناصح وأن يستمر معه الحوار، وأن يستمر في الاجتهاد في الدعاء له، ولا شك أن هذا كلام خطير، نسأل الله السلامة، ونسأل الله له الهداية حقيقة، وعليك أن تستمر في مناصحته والجدال معه ما دام أن هناك فرصة للحوار، ونحو ذلك، فأنا أرى أن يستمر معه الحوار؛ لأن القضية -هي كما تعلم- مهمة الدعاة وهي ميراث النبوة، والنبي صلى الله عليه وسلم مهمته البلاغ، وكلف بالبلاغ عليه الصلاة والسلام: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272] فيجتهد، ولا ييئس أبداً، ولهذا إبراهيم عليه السلام دعا لأبيه، في الحياة وبعد الممات، في الحياة، قال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً [مريم:47] وكان يدعوه كثيراً، وفي منهج إبراهيم ما يرشد السائل، فهو كان رقيقاً، وقال له: يا أبت، ويا أبت، ويا أبت بمنتهى الرقة: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ [مريم:43-45] إلى آخره، ثم قال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً [مريم:47] فالاجتهاد في الدعاء له، لعل الله سبحانه وتعالى أن يختم له بخير، هذا هو الذي أراه.

    كيفية محاورة كبار السن

    السؤال: فضيلة الشيخ: ما الطريقة المثلى عند محاورة كبار السن، وبخاصةٍ حين يحاجك أحدٌ بقوله: ولو؟

    الجواب: كلمة (لو) هي (لا) معقوفة، نحن كنا نحرص ألا تدعه يقول: لا. لكن أتى بها معقوفة، فلا شك أن المحاورة لا تنتهي، لكن على الإنسان أن يتخير الأجواء؛ لأن كثرة النقاش والجدال مملة، وإذا كان الإنسان كلما جلس أثار نقاشاً، فلا شك أن هذا يجعل الأمر مملولاً، بل يجعل الإنسان مكروهاً، إنما الحوارات تتخير أوقاتها وظروفها ومناسباتها، حتى لا تخرج عن حدود الأدب وحدود المبتغى من قصد الحق والتقريب إليه -كما قلنا- الحوار ليس بالضرورة أن يكون في جلسة واحدة تستكمل فيها القضايا، فربما كان بعضها ممهدات، وبعضها تكون موضحات، وبضعها قد تكون أموراً تقبل النظر والخلاف حيث يكون الأمر فيها سهلاً وواسعاً، وليست كل مسألة لا بد أن نصل فيها إلى رأي موحد؛ كما قال الأخ ناصر : إنه لا بد أن نصل إلى رأي موحد وحاسم، فهذا في بعضها، وبعضها يقبل التنوع واختلاف وجهات النظر.

    واجبنا تجاه من ينادي باستخراج البطاقة الشخصية للمرأة

    السؤال: فضيلة الشيخ: ظهرت في الفترة الماضية في بعض الصحف المحلية -وبالتحديد في جريدة الجزيرة - ظهرت دعوات مشبوهة تدعو إلى استخراج بطاقة شخصية للمرأة السعودية، وبصفتكم أحد أعضاء مجلس الشورى، وكذلك أحد العلماء الأفاضل، ما هو موقفكم في ذلك، والله يرعاكم؟

    الجواب: إن هذه القضية فيما يبدو لي تحتاج إلى نظر وقد تعرض على هيئة كبار العلماء، أيضاً القضية يحسم فيها من هذا الباب، حيث أن فيها رأياً، لأن الصورة بذاتها-كما تعلمون- في مجالات أذن فيها، كما في الجواز وفي غيره، والقضية ليست كبيرة من حيث ما يتوصل إليه، لكن يبدو لي أن خروجها من جهة علمية معتمدة لها صفة الرسمية والشرعية هو أولى في قطع النزاع؛ لأنها هي التي تنظر المصلحة والمصالح، أما أن تخاض على مثل ما ذكر الأخ، وتصل إلى حالٍ فيه نوع من التشنج بين الأطراف، ونوع من التدخلات في النيات وفي المقاصد من جميع الأطراف، وكان ينبغي في هذه الأمور- لأنها قضية فعلاً تحتمل النظر، وتحتمل الطرح من حيث المفاسد الشرعية والمصالح الشرعية- أن تنظر فيها جهات شرعية، وتقرر ما تراه في هذا.

    الحوار في الثوابت الشرعية

    السؤال: إذا بادرني شخصٌ ما في الحديث والحوار في قضيةٍ مسلمٍ بها، بم أرد عليه وأجاوبه في مثل هذه الأمور؟

    الجواب: حينما نقول مسلمة، نعني أنها مسلمة بين المتحاورين، وقد مثلت بالحجاب، لأنه إذا كان مسلماً، فلن ينازع، ولا يجوز له أن ينازع، ولا يجوز أن يكون الحجاب محل نزاع إلا إذا كان غير مسلم، فذلك شيء آخر، فتحتاج عندها أن تخرج من هذه القضية إلى أن تثبت له أن الإسلام حق، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وهذه قضية خطيرة، أما إذا سلم بأن الإسلام حق، وأن القرآن حق، فعندها تكون القضية ليست محل جدل إلا في الأشياء الفرعية -كما قلنا لكم- فبعض القضايا في تفريعاتها قد تكون صورة من صور الربا محل نزاع، هل هي ربا أو لا؟ هذا شيء آخر، ومثل كشف الوجه، فلا شك أن ذلك محل خلاف، فهذه تقبل النقاش، وتقبل الطرح.

    الحوار مع أهل البدع

    السؤال: ذكر عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم إذا تناقشوا مع أهل البدع كانوا يردون عليهم بشدة وعبارات قوية، فما رأيك في ذلك من حيث كون الحوار يتطلب الانفعال؟ كذلك ذكر عن بعض الأئمة أنهم يرفضون الحوار مع بعض أهل البدع، بل يأمرون بعدم الرد عليهم مطلقاً.

    الجواب: هذا يختلف، ذكرنا أنه في بعض الأحيان قد تحتاج إلى نوع من الشدة، إذا كان عند المحاور عناد، لكن هذه استثنائية، فما نقل عنهم هو من هذا الباب، وكذلك أيضاً عندما ينقل عدم الحوار، لأن ذلك قد يكون فيه إظهار البدعة، ولهذا الإمام أحمد يقول: لا نرد عليهم، لأن في الرد إظهاراً، وإذا كان كذلك، فلا نقبل حوارات في أشياء والناس عنها في غفلة، فإن ذلك يؤدي إلى البلبلة، إنما نحاور في الأشياء التي يفيد فيها الحوار، هذا الذي يحمل عليه ما نقل عن السلف رحمهم الله، وقد نقل عنهم أنهم ناقشوا وجادلوا وألفوا في الردود كما تعلم، وفي بعض الأحيان سكتوا، فيحمل ما روي عنهم على هذا كما هو واضح.

    الجدل المذموم

    السؤال: ذكر طوائف من السلف ذم نوعٍ من الجدل والكلام، أرجو من فضيلتكم بيان هذا النوع، وهل من هذا الجدل الخوض في بعض القضايا الأدبية مما لا ثمرة له عقلية، أو شرعية، أو عملية؟

    الجواب: لا، الجدل الذي ذموه الجدل المنطقي الذي لا يؤدي إلى الحق، وإنما ينتج عنه بلبلة، وسفسطة، فإن نصوص الكتاب واضحة في الحوار الذي يقصد به الوصول إلى الحق، والمنطق نفسه تكلموا في حله أو حرمته، أما ذات النقاش والحوار، فهذا ليس محل خلاف.

    الحوار إذا كان بين متخصصين، مثل: متحاورين يتحاورون في قضية جغرافية فليس هناك إشكال، أو بين متخصصين في اللغة العربية يتحاورون في اللغة العربية، لا يهمنا، فكل حوار في تخصصاتهم فيه فائدة، لكن لن تكون ثمرته كثمرة قضية الحلال أو الحرام، أو قضية للناس كلهم فيها تأثيم، وفيها وزر، فإذا كانت قضايا فكرية تتعلق بتخصصاتهم، فمن المعلوم أنه لا حجر فيها، إنما لا ينبغي أن تطرح على الناس بحيث تؤدي إلى بلبلة، أو تؤدي إلى الدخول في قضايا تمس معتقدات الناس.

    من النكت التي تقال: أن شيخاً كان يدرس النحو في المسجد، طبعاً يسأل بعض الطلاب، فقال لبعض الطلاب: أعرب، فأعرب، فكانت الجملة فيها الباء حرف الجر، فقال: مثلاً بمحمدٍ، الباء حرف جر، فالذي بجانبه سمع، فذهب إلى عمه فقال: إن الشيخ يقول: إن البحر انفجر، فأحياناً تطرح أشياء للعامة لا تفهمها، فينبغي أن تحدد أطر الحوار وحدود الندوات وغير ذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765795958