ومعلوم أن مصادر التشريع الأساسية هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهناك مصادر تبعية لهذه المصادر، ومنها الاستحسان والعرف والمصالح المرسلة، وهناك ضوابط للنظر في هذه المصادر.
أما بعــد:
للحياة سمة هي التغير، وللدين سمة هي الشمول، وبين هاتين السمتين ترابط واتصال هذا بيانه:
إن أحوال الناس وتصرفاتهم تختلف باختلاف النسب الزمانية والمكانية والعرفية وغير ذلك.
فمن التغير تغير الاصطلاحات، فتنصرف العبارة عن معنىً إلى معنىً آخر، بحسب البلد أو الزمن المستعمل لذلك الاصطلاح.
ومن التغير تغير الحال من الوضع المعتاد إلى وضع الحاجة أو الضرورة.
ومن التغير تغير الأعراف، فيكون شيء ما قبيحاً في بلد، وهو في بلد آخر حسن غير قبيح.
ومن التغير تغير الوسائل، فلقد كان الناس في الماضي ينتهجون في معاملاتهم المالية نهجاً غير معقد، بينما هم اليوم يتعاملون عبر مؤسسات مالية طرق التعامل فيها شديدة التعقيد، وغير هذه الصور كثير، فإن المتغيرات لا تتناهى ولا تنقضي إلا بانقضاء الحياة ذاتها، هذا هو شأن الحياة.
أما الشريعة: فجاءت لتكون الشريعة الخاتمة الشاملة الصالحة لكل زمان ومكان، وشريعة بهذه المثابة لابد أن تستوعب الحياة كلها، ثابتها ومتغيرها، ولابد أن تنتظم كل فعل من أفعال المكلفين.
وإن العالم المسلم اليوم يريد أن يصحو صحوة رشيدة، وينهض نهضة قوية.
ولكننا نعلم علم اليقين أنه ما لم يواكب تلك النهضة فقه رشيد سديد يتصدى به أهل العلم لمتغيرات الزمان؛ فيجتهدون في استنباط الأحكام لها؛ فإنه ستكون فتنة مبناها على أحد منـزعين:
الأول: الجمود.
والثاني: الانفلات.
وقد رُئِيَتْ بوادرهما، فهناك أقوام ممن وهت صلتهم بالكتاب والسنة وكلام أهل العلم، أطلقوا دعاوى التجديد والتطوير وتغير الأحكام بتغير النسب، وجعلوا تلك الدعاوى تكأة يتكئون عليها، وهم يدعون إلى الانحلال أو الخروج عن أحكام الدين.
وفي المقابل جمد فريق على الماضي وأساليبه وطرائقه، فلم يواكبوا ولم يستوعبوا مستجداته.
وهذا كله يبين مدى الحاجة إلى تصدي أهل العلم للمتغيرات؛ حتى يستنبطوا الأحكام لها، لئلا يصبح الدين كلأً مباحاً يرتع فيه كل ضال.
إن أحكام المتغيرات لا تُلْقى جزافاً بلا حجة ولا برهان، بل هناك أصول صحيحة وقواعد قويمة وضوابط متينة، يبني عليها الفقيه اجتهاده، ويجب ألا يتصدى لهذه المتغيرات وتأصيل منهجها إلا قوم ممن جمعوا بين التأصيل العلمي العميق والفهم الواقعي الدقيق، ونحسب أن فضيلة محاضرنا الشيخ الدكتور: صالح بن عبد الله بن حميد من أولئك، فقد هيأ الله عز وجل له المنبت الحسن، فهو ابن سماحة الإمام العلامة الفقيه: محمد بن عبد الله بن حميد أسبغ الله عليه شآبيب رحمته، وزانه الله عز وجل بالعلم، حيث أخذ عن والده علوم الشريعة واللغة، كما تلقى تعليماً نظامياً حتى حصل على درجة الدكتوراه عام (1402هـ)، ونفع الله عز وجل به؛ فتصدر لتعليم الناس وإفتائهم، فدرس في كلية الشريعة وفي المسجد الحرام ولا زال، وتدرج في عدة وظائف، وهو الآن نائب الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وإمام المسجد الحرام وخطيبه.
وله مؤلفات عدة منها رفع الحرج في الشريعة ضوابطه وتطبيقاته ، وكتاب تلبيس مردود في قضايا حية وتوجيهات وذكرى وهو ديوان خطب، وهو عضو في عدد من المجالس والهيئات العلمية.
ونسعد في هذه الليلة بسماع محاضرة لفضيلته، عنوانها المتغيرات وضوابطها في اجتهاد الفقهاء، وستكون محاضرة فضيلته في ضوء المحاور الآتية:
الأول: مصادر التشريع.
الثاني: ضوابط النظر في المتغيرات.
الثالث: تطبيقات لبعض مجتهدي الفقهاء في النظر إلى المتغيرات.
ولعل من الطالع أن تكون هذه المحاضرة هي فاتحة محاضرات النشاط الثقافي بمركز الملك فيصل هذا العام، فباسم المركز نرحب بفضيلة الشيخ الدكتور: صالح بن عبد الله بن حميد ، ونشكر له استجابته لهذه الدعوة، كما نرحب بالأساتذة والإخوة الكرام والحضور، وقبل أن أترككم مع فضيلته أدعو الأساتذة الراغبين في التعليق أن يتكرموا بكتابة الاسم حتى تُنَظَّم التعليقات حفاظاً على الوقت، كما أدعو الإخوة الراغبين في طرح الأسئلة أن يكتبوا أسئلتهم، وأترككم مع فضيلته، داعياً الله عز وجل أن ينفعنا بعلمه، وأن يجزيه عنا خير الجزاء.
أما بعــد:
أيها الأساتذة الفضلاء! أيها الإخوة الأعزاء! بعد حمد الله وشكره، أشكر لمؤسسة الملك فيصل -رحمه الله- الخيرية دعوتها لأشرف بالوقوف أمامكم في هذا الجمع الكريم وفي هذا اللقاء الطيب المبارك بإذنه تعالى؛ لأتحدث إليكم حديثاً حددت المؤسسة عنوانه، وأرسلت إلي باقتراحات حول أطره، ولقد حرصت أن ألتزم بهذه الأطر؛ لأنها كانت أطراً علمية ومدروسة، وهذا شأن المؤسسات العلمية التي تعرف ما يصدر عنها، وتحترم نفسها كما تحترم كل ما يتعلق بها.
والموضوع لعل الزميل الشيخ الفاضل الأستاذ: عبد الرحمن أتى بلبه، وأتى بشيء كثير من تأصيله، ولا أبالغ إن قلت: وبعض التفصيل.
غير أن ما أستفتح به هذا الحديث إليكم، هو أن لي نظراً في تغيير العنوان، لكني أرجو أن يكون داخلاً في المتغيرات ذات الضوابط إن صح هذا التعبير؛ لأن العنوان الذي اختاروه هو: " المتغيرات وضوابطها في اجتهاد الفقهاء " والواقع أن المتغيرات لا تنضبط، كما أشار الزميل في مقدمته وكما سوف تسمعون، وهذه سنة الله عز وجل كما هو ملحوظ، وسننه في خلقه وفي هذه الدنيا -لما تقتضيه طبائع الناس حسب ما أودع الله فيهم- متغيرة.
لكن الانضباط هو في النظر، ضوابط للنظر وليس ضوابط للمتغيرات، ولهذا أستحب أن يكون العنوان هكذا " الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها في اجتهادات الفقهاء " فإن هذا أدق لبيان المقصود، وإن كان العنوان مفهوماً وكما في الموجز الذي سمعتموه واضحاً، ولكن كعبارة أكثر علمية وأكثر التزاماً بالقيود، ينبغي أن يكون الاسم هكذا: " الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها "؛ لأن المتغيرات لا تنضبط، والوقائع لا تتناهى، إنما الضابط في النظر أي في الاجتهاد؛ ضوابط الاجتهاد .. ضوابط الاستنباط .. قواعد الاستنباط .. أصول الاستنباط، هذه هي التي ينطلق منها المجتهد وينطلق منها المستنبط الراسخ.
وفي كلامه عني شيء من الغلو، وإن كانت رسالة الأستاذ عبد الرحمن في الماجستير عن الغلو كما علمت، لكنه غلا بعض الشيء فيما سمعتم من تقديم لهذا المتحدث أمامكم، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يسامحه وأن يغفر لي وله ولكم.
والعنوان كما أسلفت " الوقائع والمتغيرات وضوابط النظر فيها في اجتهادات الفقهاء ".
وفي هذا يقول الغزالي : وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وميدان هذا علم أصول الفقه؛ فإنه يأخذ في هذا سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسليم اهـ.
وذلكم هو ميدان الاجتهاد، من أجل تحصيل الحكم الشرعي في مسألة غير منصوصة، وبتعبير آخر فالاجتهاد هو بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال، هكذا عرفه الجرجاني في تعريفاته .
والاجتهاد يشمل الدقة في فهم النص وفي طريقة تطبيق حكمه، أو في مسالك ذلك التطبيق على ضوء الملاءمة بين ظروف النازلة التي يتناولها النص، والمقصد الذي يستشرفه النص نفسه من تطبيقه، يوضح ذلك الإمام شمس الدين ابن القيم رحمة الله عليه في عبارة سلسة مبيناً نهج الصحابة رضوان الله عليهم فيقول: " فالصحابة رضوان الله عليهم مثلوا للوقائع بنظائرها، وشبهوها بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سبيله اهـ.
وليس المقصود بالاجتهاد التفكير العقلي المجرد، فهذا ليس منهجاً مشروعاً، بل هو -أعني التفكير العقلي المجرد- افتئات على حق الله في التشريع، حتى لو كان جاداً بعيداً عن الهوى، مادام أنه لم ينطلق من مفاهيم الشرع ومبادئه وأصوله وحقائق تنـزيله ومثله العليا ومقاصده الأساسية.
ومن أجل هذا فإن نطاق الاجتهاد الشرعي يتمثل بفهم النصوص الشرعية وتطبيقاتها ودلالتها وقواعد الشرع المرعية.
وهذه المصادر يوجد اختلاف في اعتبار بعضها لدى المجتهدين من أهل العلم.
ومن أبرز هذه المصادر التبعية: المصلحة المرسلة .. العرف .. الاستحسان .. الاحتياط .. سد الذرائع .. قاعدة الضرر والضرورات .. عموم البلوى .. الاستصحاب والبراءة الأصلية.
والمقام لا يتسع لبسط القول في هذه المصادر كلها، وإن كانت مناسبة الحديث تقتضي ذلك، ولكن محدودية الوقت ومزاحمة العناصر الأساسية لأصل الموضوع تلجئ إلى الاختصار، فأستسمح الحضور الكرام العذر في بعض الاقتضاب، الذي أرجو ألا يكون مخلاً.
وفي مدخل هذا الموضوع أقول: إن هذه المصادر من العرف والاستحسان والمصلحة هي المحك الدقيق، والمرتقى الصعب في النظر فيما بسطه علماء الأصول والقواعد -رحمهم الله- حينما بحثوا في أعراف الناس وحاجاتهم وضروراتهم وأثر المتغيرات والأحداث على استمساكهم بدينهم وعلى انتظام أمور معاشهم، وكان ذلك معتركاً دقيقاً يجب التثبت فيه على ما سيتبين إن شاء الله.
وعليه فإن الحديث سيكون متناولاً ثلاث قضايا رئيسية:-
أولاها: استعراض لبعض هذه المصادر التي نعتبرها قواعد أساسية تنطلق منها أحكام التغيير المنبنية على هذا التغيير، على أنني سوف أنهي الحديث عن كل مصدر بما يضبطه بخصوصه.
ثانيها: ضوابط عامة في النظر في المتغيرات.
ثالثها: نماذج من الاجتهادات الفقهية في هذا المضمار.
المصلحة المرسلة هي: المصلحة التي شهد الشرع لجنسها، بمعنى: أنها تدخل تحت أصل شهدت له النصوص في الجملة، وليست هي المصلحة الغريبة التي لم تشهد النصوص لنوعها حتى تكون قياساً، ولا لجنسها حتى تكون استدلالاً مرسلاً، فهذه الأخيرة ليست حجة عند أحد من الأئمة، والغزالي الشافعي والشاطبي المالكي يحكيان إجماع أهل العلم على رد المصالح الغريبة، ويدخلانها في باب الاستحسان الذي رده الشافعي وشدد النكير على القائلين به، وهو غير الاستحسان الذي روي عن مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما، فهذا الأخير استدلال بنص أو إجماع أو عرف أو مصلحة في مقابلة عموم أو قياس، وهو الذي سوف تأتي الإشارة إليه.
غير أن الأخذ بالمصلحة المرسلة لابد فيه من أمور:-
الأول: أن تكون معقولة، بحيث تجري على الأوصاف المناسبة، التي إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول.
الضابط الثاني: أن يكون الأخذ بها راجعاً إلى حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين، بحيث لو لم يؤخذ بالمصلحة المعقولة في موضعها؛ لكان الناس في حرج شديد.
الثالث: الملاءمة بين المصلحة التي تعتبر أصلاً قائماً بذاته وبين مقاصد الشرع؛ فلا تنافي أصلاً من أصوله، ولا تعارض دليلاً من أدلته القطعية، بل تكون منسجمة مع المصالح التي يقصد الشارع إلى تحصيلها، بأن تكون من جنسها وليست غريبة عنها.
ومن أجل هذا -أيها الإخوة- ونحن نتحدث عن الضوابط نقول: إن المصلحة أو الاستصلاح باب واسع ومدخل عريض، قد يدخل منه من لا يفقه في الشريعة ولا يدرك مراميها، ومن هنا منع منها من منع من المجتهدين خشية من هذا الباب، ومن المقرر والمعلوم أن الشريعة تراعي مصالح العباد، وباب الاجتهاد مفتوح فيما لا نص فيه، ولكن للاجتهاد شروطه، وللمصلحة ضوابطها وحدودها، فليس مرد المصلحة إلى تقدير الناس فيما يكون به الصلاح والفساد.
فإذا حسب الناس أن التعامل بالربا -مثلاً- قد بات مصلحة نحتاج إليها، ولا يقوم أمر الناس إلا به، فهو بمقتضى هذا النظر مصلحة حقيقة، وعلى الشريعة بما التزمته من تحقيق مصالح الناس ورفع الحرج عنهم أن تتسع لرفع هذا الحكم؛ لأنه قد رأى ذلك علماء في الاقتصاد، وخبراء في التجارة، من أجل تنشيط الحركة التجارية والنهوض بها.
وقد يتفق علماء التربية وعلماء النفس -مثلاً- على أن الجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع يهذب الأخلاق، ويخفف من شدة الميل الجنسي، ويمكن من استخدام كافة القوى البشرية المتاحة من أجل التنمية، فلا يبقى نصف المجتمع معطلاً، فهي مصلحة ينبغي تحقيقها، والشريعة تراعي تحقيق المصالح.
وقد يقول الأطباء: إن لحم الخنـزير ليس بمستخبث، وإن أكله لا يعقب أي آثار سيئة في الخلق أو الجسم.
إننا نقول لهؤلاء وأولئك وكل من يسير في ركابهم من المستغربين والمستشرقين والذين في قلوبهم مرض: إن تقدير ما به يكون الصلاح والفساد عائد إلى الشريعة نفسها، وقد وضع ذلك في مقاصد الشريعة الخمسة: حفظ الدين، ثم حفظ النفس، ثم حفظ العقل، ثم حفظ النسل، ثم حفظ المال.
ويبدو لي أن " ثم " هنا استعمالها ليس دقيقاً؛ فأقول: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وإن كانت قمتها -لا شك- حفظ الدين، بل إن بعض الأصوليين يؤكد هذا: حفظ الدين، ثم حفظ النفس، ثم حفظ العقل ... إلخ.
وبناءً عليه فإن كل ما توهمه الناس مصلحة مما يخالف تلك الأسس العامة في جوهرها، أو الترتيب فيما بينها -أيضاً- ترتيباً مرعياً، أو يخالف دليلاً من الأدلة الشرعية، من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح، ليس من المصلحة في شيء، وإن توهمه من توهم.
أما نتائج خبرات الناس وتجاربهم، فيجب عرضها على نصوص الشريعة وأحكامها الثابتة، فما وافقها أخذ به، والحكم بذلك للنصوص الشرعية ومقاصد الشريعة، وما خالف ذلك وجب طرحه وإهماله واعتباره مصلحة ملغاة.
ويجب أن يفهم أن الشارع لم يلغ مصلحة دلت عليها تجارب الناس وعلومهم، بل الواقع أن تقدير هؤلاء المجربين والخبراء للمصلحة كان خطأً، صاحبه خلل وفساد نابع من هوى في نفس المجربين، أو خطأ في وسائل التجربة، أو نقص في الاستقراء، فنحن نتهم تقدير هؤلاء، ولا نتهم نصوص الشريعة.
نخلص من ذلك إلى أن الخبرات العادية والموازين العقلية والتجريبية المحضة لا يجوز أن تستقل وحدها بفهم مصالح العباد وتنسيقها.
وهذا فيما يتعلق بالمصلحة.
وعرفه أبو الحسن الكرخي الحنفي حيث قال: الاستحسان هو العدول عن الحكم في مسألة بما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول.
فالاستحسان نوع من الترجيح بين الأدلة، وحقيقته كما يلاحظ وكما يصرح به كثير من الأصوليين أنه أخذ بأقوى الدليلين.
ويقسم الأصوليون الاستحسان إلى أنواع ثلاثة:
أولها: الاستحسان بالنص، وذلك يجري في كل أنواع العقود التي قالوا: إنها على خلاف القياس كالسلم والإجارة والقرض ونحوها، وهي استحسان بالنص لأنها قد ثبتت بنصوص شرعية على غير وفق القاعدة العامة من عدم صحة بيع المعدوم وعقود الربا ونحو ذلك.
وأغلب إطلاقات الاستحسان في كتب الفروع تنصرف إلى هذا النوع، وعلى الخصوص في كتب الفروع عند الحنفية فيقولون: هذا جائز استحساناً، ويعنون هذا النوع من الاستحسان بالنص.
الثاني: الاستحسان بالإجماع. أي أن سند هذا الاستحسان هو الإجماع كما في مسألة الاستصناع.
الثالث: استحسان الضرورة، كما في مسألة تطهير الحياض والآبار؛ لأن الأصل أن الماء إذا خالطته نجاسة ولو كان كثيراً فإنه ينجس مادام أنه ليس جارياً، ولكن عفي عن ذلك استحساناً للضرورة، ووجه ذلك أن القياس يأبى طهارتها لأن الدلو ينجس بملاقاة الماء، فلا يزال يعود وهو نجس، ولأن نزع بعض الماء لا يؤثر في طهارة الباقي، وكذا خروج بعضه عن الحوض، وكذا الماء ينجس بملاقاة الآنية النجسة، والنجس لا يفيد طهارة؛ فاستحسنوا ترك العمل بموجب القياس للضرورة، فإن الحرج مرفوع بالنص، وفي موضع الضرورة يتحقق معنى الحرج لو أخذ بالقياس.
الرابع: الاستحسان بمعنى القياس الخفي، وقد سمي قياساً خفياً في مقابلة القياس الجلي، وهو القياس المصطلح عليه، والاستحسان بهذا المعنى يقصدون به ما قوي أثره.
ومن أمثلته: طهارة سؤر سباع الطير، فالقياس الجلي أن سؤره نجس لأنه من السباع، ودليل النجاسة حرمة أكل لحمه كسائر السباع، وفي الاستحسان هو طاهر، لأن السبع ليس بنجس العين بدليل جواز الانتفاع به شرعاً كالصيد، وكذا الانتفاع بجلده وعظمه، ولو كان نجس العين لما جاز كالخنزير.
وإن كان بعض التمثيل فيه نظر، فإن الكلب على ما قرره أهل العلم نجس العين وإن كان حلاً صيده.
وسؤر سباع البهائم إنما كان نجساً باعتبار حرمة الأكل؛ لأنها تشرب بلسانها وهو رطب من لعابها، ولعابها متولد من لحمها، وهذا لا يوجد في سباع الطير؛ لأنها تأخذ الماء بمنقارها، ومنقارها عظم، وعظم الميتة طاهر، فعظم الحي أولى؛ فصار هذا الاستحسان وإن كان باطناً أقوى من القياس وإن كان ظاهراً.
وهذا النوع من الاستحسان هو الذي يغلب إطلاقه عند الأصوليين.
ومعنى هذا أن الأمر الجائز في الأصل يمنع منه في الحالات التي يؤدي فيها إلى ما لا يجوز، فعقد البيع حلال مشروع في أصله لقول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] ولكن قاعدة سد الذرائع تقضي ببطلان هذا البيع إذا قصد به المحرم، أو كان الباعث والدافع إليه غير مشروع، كما في بيع السلاح لمن يقتل مسلماً، أو لأهل الحرب، وبيع العنب لمن يتخذه خمراً أو ما شابه ذلك.
أما الاحتياط فهو احتراز المكلف عن الوقوع فيما يشك فيه من حرام أو مكروه.
- مجال الأخذ بالاحتياط: والمكلف يأخذ بالاحتياط في مجالين: في مجال تحقق الشبهة، وفي مجال حصول الشك في الحكم الشرعي.
أما مجال تحقق الشبهة فذلك في الشبهة التي تعرض للمكلف في الأحكام الشرعية.
- أقسام الشبهة: وذلك قسمان:
القسم الأول: شبهة حكمية، أي تقع في الحكم الشرعي بمعنى أن حكم الشارع غير ظاهر من الدليل على وجه العلم أو الظن، وهذه غالباً مختصة بالمجتهدين -مختصة بالعلماء- حينما ينظرون في حديث -مثلاً- ولا يتبين لهم حكم، فتقع شبهة عند المجتهد.
فمعلوم أنه يجتنب مثل هذه التي لم يتوصل فيها إلى يقين أو ظن غالب يفيد الاطمئنان، فهذه لا تكون إلا في مجال المجتهدين والعلماء -أعني الشبهة في الحكم- وهي التي تقع في الحكم الشرعي، بمعنى أن حكم الشارع غير ظاهر من الدليل على وجه العلم أو الظن، وهذا متوجه إلى حكم الشرع نفسه.
ومن هنا تأتي توقفات بعض العلماء والمجتهدين في بعض المسائل من حل أو حرمة أو غير ذلك من أقسام الحكم الشرعي؛ لذا سميت بالشبهة الحكمية.
القسم الثاني: الشبهة المحلية، وهي التي ترد على المحكوم فيه، الذي هو محل الحكم من حيث دخوله تحت حكم الشارع من حل أو حرمة أو غير ذلك.
إذاً: هذه أيضاً مجال ثان من تحقق الشبهة في المحل.
المجال الثاني: الشك في الحكم الشرعي الطارئ بسبب الشك في الواقع، فيطرأ الشك في الحرمة والوجوب أو الإباحة؛ فيحتاط المكلف من نفسه، وذلك بالخروج من دائرة الخلاف؛ فإذا طرأ الشك في الحرمة -أي بين الحل والحرمة- أو بين الوجوب والاستحباب ونحو ذلك، فإن المكلف يحتاط لنفسه، فإنه -مثلاً- لا يخرج من عهدة الواجب إلا بيقين أو ظن غالب إذا كانت المسألة مترددة بين الوجوب والاستحباب.
على أن الاحتياط في جملته مطلوب فيما علم أمره وتحقق فيه يقيناً اختلاط الحلال بالحرام أو ظن ذلك ظناً غالباً -إما يقين أو ظن غالب- وذلك بقرائن وعلامات توصل إلى ذلك، كما لو كان في بلاد المسلمين أو مع فساق لا يتورعون عن اقتراف المنهيات، أما إذا كان في ديار المسلمين ولم يظهر ما يدعو إلى الاشتباه، فلا ينبغي التدقيق والإلحاح في الأسئلة مع أعيان المسلمين، بل قد يصل الأمر إلى تحريم السؤال إذا كان فيه إيذاء لمسلم ظاهره الاستقامة.
- موضع عموم البلوى:
يظهر عموم البلوى في موضعين:
الموضع الأول: ما تمس إليه الحاجة في عموم الأحوال، بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة زائدة.
الموضع الثاني: شيوع الوقوع والتلبس بحيث يعسر على المكلف الاحتراز عنه أو الانفكاك منه إلا بمشقة زائدة.
إذاً: هو جانبان؛ إما أن يكون مس حاجة وضرورة يحتاجها المكلف، أو جانب بلاء واقع لا يستطيع الإنسان أن ينفك أو يحترز عنه، كأنهما وجهان -كما يقال- لعملة واحدة، ففي الموضع الأول ابتلاء بمسيس الحاجة، وفي الموضع الثاني ابتلاء بمشقة الدفع، ويضبط ذلك ميدانان أساسيان:
الأول: نزار الشيء وقلته، فمشقة الاحتراز من الشيء، وعموم الابتلاء به قد يكون نابعاً من قلته ونزارته، ومن هنا كان العفو عن يسير النجاسات وعن أثر الاستجمار في محله، والعفو عما لا يدركه الطرف وما لا نفس له سائلة، وونيم الذباب -فضلات الذباب- وما ارتش من الشوارع مما لا يمكن الاحتراز عنه وما ينقله الذباب من العذرة وأنواع النجاسات، فهذا يعفى عنه لعموم البلوى لأنه يشق الاحتراز عنه.
الثاني: كثرة الشيء وشيوعه، كما أن عموم الابتلاء ومشقة التحرز قد تكون نابعة من تفاهة الشيء ونزارته، كذلك قد يكون الأمر لكثرته وشيوعه، فيشق الاحتراز عنه ويعم البلاء به.
وقد نبه الغزالي إلى أن الغلبة التي تصلح عذراً في الأحكام ليس المراد بها الغلبة المطلقة، وإنما يكفي أن يكون الاحتراز أو الاستغناء عنها فيه مشقة وصعوبة، نظراً لاشتباهه بغيره من الحلال والمباح، واختلاطه به وامتزاجه معه بحيث يصعب الانفكاك عنه كما هو ظاهر في بعض صور النجاسات والمستقذارت واختلاط الأموال.
معذرةً أحياناً إذا كانت بعض العبارات فيها شيء من الجفاف كما تقتضيه أحياناً بعض العبارات العلمية على أني حرصت حقيقة أن أبسط قدر الإمكان، لكن على كل حال إن كنت أحسنت ففضل من الله، وإن كان غير ذلك فأرجو العفو والمعذرة.
ويحصل الاستقرار في النفوس والقبول للطباع بالاستعمال المتكرر الصادر عن الميل والرغبة.
ويخرج من ذلك العرف الفاسد، وهو ما استقر لا من جهة العقول، كتعاطي المسكرات وأنواع الفجور التي تستقر من جهة الأهواء والشهوات.
كما يخرج ما لم تتلقه الطباع السليمة بالقبول، كالكشف عن العورات وعدم الاحتشام، والألفاظ المستقبحة، فهذه كلها غير داخلة في العرف المصطلح أو المعتبر.
ولهذا الخوض في العرف والكلام فيه يتلذذ به بعض الناس، لكنه يفقد معايير كثيرة، ومن هنا قد أقف هنا وقفة في هذا الموضوع حتى نشير إلى شيء من ضوابطه.
فأقول: يحسن أن نقف هنا وقفة ونحن بصدد الحديث عن العرف، ووقفتنا ستكون من جانبين:-
من جانب تأكيد العلماء على اعتبار العرف.
ومن جانب تكييف علمي للعرف، وكيف يكون دليلاً شرعياً حيث تناول علماء راسخون قضية تغير العادات والأعراف، وبخاصة أن ذلك مزلق خطير، وقد يكون مركباً أثيراً لبعض المتعالمين أو المغرضين، ووقفتنا هذه ذات شقين:-
أحدهما: تأكيد العلماء في قضية اعتبار الأعراف والعوائد.
ثانيهما: التفسير العلمي الفقهي للمقصود باعتبار الأعراف والعوائد.
ويقرر السيوطي في أشباهه أن العادة والعرف مرجوع إليهما في الفقه في مسائل كثيرة، والحافظ ابن القيم يقول: ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا المفتي الجاهل -بل عبارة ابن القيم أشد من هذا- يضر أديان الناس وأبدانهم، فالله المستعان! انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
وابن عابدين الحنفي رحمه الله يزيد الموضوع جلاءً يقول: كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم عنه المشقة والضرر بالناس، ولخالف ذلك قوانين الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد.
ثم قال: ولهذا نرى مشايخ المذهبية -يعني الحنفية- خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة، بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا أخذاً من قواعد المتن.
إذاً: هذا بعض كلام أهل العلم بتأييد الأخذ بالعرف والعادات وانبناء بعض الأحكام عليها.
فإذا جرت عادة قوم باستقباح كشف الرأس كان التعزير بكشف الرأس مجزئاً.
مثلاً: الحكم الشرعي هو التعزير، فتغير الحكم حينما يكون التعزيز بكشف الرأس، وفي بلد لا يكون كشف الرأس قبيحاً فلا يكون ذلك تعزيراً.
فلم يتغير الحكم، وليس تغيراً للحكم ولا تغيراً للدليل ولا للنص، إنما العادة نفسها قد تغيرت نظرة الناس إليها، فكان التغير في الحكم.
فإذا جرت عادة قوم باستقباح كشف الرأس كان التعزير بكشف الرأس مجزئاً، وإذا لم يكن كشف الرأس في عادة قوم مستقبحاً امتنع أن يكون طريقاً كافياً للتعزير.
ولابد للقاضي من اتخاذ طريق آخر كما سيأتي معنا أيضاً في تمثيل العدالة؛ والعدالة معلوم أنها مقصودة ومطلوبة شرعاً، لكن بم تكون؟ أحياناً قد تختلف عادات الناس في أشياء لأنهم ضبطوا العادة بالمروءة، والمروءات أمور مرتبطة بالعادات، فحتى كشف الرأس أحياناً إذا كان مستنكراً في بلد، يكون خلافاً للمروءة، الأكل في الأسواق -وسوف يأتي التمثيل بهذا- كان في زمن من الأزمان وفي بلد من البلدان أمراً مستنكراً، ومن أكل في الأسواق قد يكون في بعض البلدان يخالف المروءة، أما الآن في كثير من البلدان لا يكون مخالفاً للمروءة، ومن هنا لا يقدح في العدالة.
إذاً: العدالة محفوظة والتزام العدالة فيما التزمت به شرعاً من الشهادات وغيرها منضبط ومعتبر، لكن عادات الناس حينما اختلفت وقع مثل هذه.
ولابد للقاضي من اتخاذ طريق آخر في التعزير، يكون له وقع الألم في نفس المستحق للتعزير، فخطاب الشرع الذي تعلق بالواقعة المقتضية للتعزير حال صحبتها للعادة، استقباح كشف الرأس غير الخطاب الذي يتعلق بواقعة مثلها يصاحب عادة عدم استقباح ذلك.
يوضح ذلك أن هناك أوصافاً ربط الشارع الحكم بها، وبنى عليها أمر الناس، فالعدالة -مثلاً- شرط في قبول الشهادة بنص كتاب الله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2] وحينما تراجع كلام أهل العلم وتأليفاتهم للعدالة وأوصاف أصحابها، تلاحظ أنهم يربطونها بمألوف الناس، ودلائل التعقل والمروءة، وهذا حق لا مرية فيه، ولكنْ معلوم أن هذا متغير، فما يكون مألوفاً في بلد قد لا يكون في البلد الآخر وكذلك عند اختلاف الزمن.
وليزداد الأمر عندك وضوحاً: السير مكشوف الرأس أو الأكل في الأسواق، كان في يوم من الأيام أو بلد من البلدان مظهراً من مظاهر قلة المروءة، واستمع في ذلك إلى القرافي في فروقه حين يقول:
ما الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب الشافعي ومالك وغيرهما المرتبة على العوائد والعرف الذين كانا حاصلين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إذا تغيرت تلك العوائد وصارت العوائد تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولاً، فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة، أو يقال نحن مقلدون وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد، فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟
ويجيب على تساؤله هذا رحمه الله ويقول: إن استمرار الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين، حتى يشترط فيهم آلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها ونحن نتبعهم فيها من غير استئناف.
من كل ما تقدم يتبين بلا ريب أن للظروف الملابسة للأشخاص أو للوقائع والأحداث أثراً في إدراك العلل وتوجيه الاستدلال بمدركه ودليله وتبين مسالك تطبيقه ضماناً لمشروعية نتائجه، إذ العبرة بالنتائج العملية الواقعة أو المتوقعة، وبيان ذلك أن الظروف المتجددة الواقعة أو المتوقعة والتي تلابس الأشخاص أو الوقائع، ينشأ عنها دلائل تكليفية جديدة تقتضي أحكاماً جديدة تناسبها، وبما أن الظروف تتغاير وتتمايز باضطراب؛ فاقتضى هذا وجوب اعتبارها شرعاً.
أشرنا إلى بعض الضوابط في المصادر التي تكلمنا عنها من الاستحسان والعرف والاحتياط وسد الذرائع والبلوى، لكن هذه ضوابط عامة في النظر الكلي أو الإجمالي.
أولاً: لا يجوز أن يفهم مما تقدم أن النصوص غير ثابتة، أو أنها لا تضع تشريعاً دائماً ثابتاً مستقراً شاملاً في الزمان وفي المكان، بل إن ذلك هو الأصل، أعني أن الأصل في النصوص هو الثبات والدوام.
ومن أجل هذا فيجب لزوم الحذر التام من التساهل أمام نصوص الشرع، أو محاولة التحلل منها، فذلك مزلق خطير، ومركب عسير، تزل فيه الأقدام، وتضل الأفهام، وتنهار الأحكام.
إن مما يجب أن يعلم في هذا الباب أن شريعة الإسلام قد حكمت في ديار متباعدة الأقطار، مترامية الأطراف، قروناً متوالية، وأزمنة متتالية، ولاقت مختلف العادات والتقاليد، وعايشت جميع البيئات، وعاشت عصور الرخاء والشدة، والقوة والضعف، واجهت الأحداث في جميع الأطوار؛ فما قصرت عن حاجة، وما عجزت عن واقعة، ولا قعدت عن مطلب.
والأمر الذي يجب أن ننبه إليه، وهو منطلق مهم من منطلقات هذا الحديث، هو أن في سنن الله وفي شرعه عنصرين: أحدهما: ثابت، والآخر: متغير.
فالاستمساك بأحدهما وإهمال الآخر يترتب عليه فساد عظيم، فالاستمساك بالثابت وحده جمود، والاستمساك بالمتغير وحده تسيب وتحلل وانحلال وضياع.
الثابت يجب أن يبقى ثابتاً، بل لا يمكن زحزحته فضلاً عن أن يسعى في زحزحته.
والمتغير طبيعته التغير، وجعله ثابتاً والالتزام به دائماً أبداً يوقع في عسر وحرج لا يطيقه المكلفون، وإن شئتم مزيد إيضاح فلتعلموا أن دعاة التحرر في هذه العصور المتأخرة من التيارات الوافدة من الغرب أو الشرق استمسكوا بالمتغير وجعلوه ركن تفكيرهم -وأنا لا أتكلم عن الحداثة، فهنا فقه وليس لغة، فالاستمساك بالمتغير وحده غير صحيح لأنه يؤدي إلى الانهيار- أقول: إن شئتم مزيد إيضاح فلتعلموا أن دعاة التحرر في هذه العصور المتأخرة في التيارات الوافدة من الغرب أو الشرق استمسكوا بالمتغير، وجعلوه ركن تفكيرهم وأصل حضارتهم، وظنوا أن الحياة تستقيم بهذا المفهوم للحرية عندهم، وهي التغير في كل شيء أصولاً وفروعاً، قوانين ودساتير؛ فهي موضة متغيرة لا تنتهي.
وبهذا وكما تشاهدون وتلاحظون حين لم يكن لهم ثوابت مستقرة، ومحاور يستندون إليها؛ فقد ضاعوا وأضاعوا، فلم تنضبط حركاتهم؛ ومن ثم فقدوا معنى الثبات في نهاية المطاف، فبمعرفة الثوابت والاستمساك بها وتمييز المتغيرات وضبط حركتها حول المحور الثابت حتى لا يخرج عن المسار الصحيح يكون الدوام والثبات والتمشي مع المتغيرات في الأزمنة والأمكنة، والناس مع بقاء ركود الثوابت والمحافظة على الجوهر، وهذا سر بقاء الشريعة وحيويتها حينما تطبق على وجهها.
الجواب -كما أسلفت- عقدي إيماني نابع من الإيمان بالله الحق العليم الحكيم، فكأن هذا المتسائل أو المتشكك يظن أن الله لم يكن يعلم -تعالى الله- حين أنزل هذه الشريعة أن أموراً ستجدّ في حياة الناس تختلف عن الأوضاع التي كانوا عليها يوم نزلت هذه الشريعة، إذاً: كأنه يشك في علم الله.
ويقول: إن حكمته سبحانه تقتضي ألا ينـزل شريعة غير ممكنة التطبيق، إلا في حيز من الزمن، ثم يلزم الناس بها إلى يوم القيامة، ألا ساء ما يظنون!
ولكي يزداد الأمر وضوحاً في هذا الأمر الإيماني: لو نظرت إلى بعض الضعاف في هذا المضمار ممن استهوتهم حضارة الرجل الأبيض، وسولت لهم أنفسهم السوء، ويحبون أمام الناس أن يبقى لهم الانتساب إلى الإسلام مع اتباعهم أهواءهم، فهم يريدون إسلاماً على مزاجهم، أو على مزاج إخوانهم في الغي من المستشرقين والمستغربين والذين في قلوبهم مرض، فتبدأ مقولتهم بأنهم لا يأخذون بأقوال الفقهاء والمفسرين والشراح والمحدثين، فهم بشر ورجال، ولا تعبد بآراء الرجال، ولا يأخذون إلا من الكتاب والسنة.
ثم يتدرج بهم الأمر بأن يأخذوا بالقرآن والمتواتر من السنة وما كان قطعياً في ثبوته ودلالته، فالسنة فيها الضعيف والمردود والموضوع، بل حتى أخبار الآحاد فيها عندهم نظر، ثم يتدرجون ليطعنوا في بعض الدلالات ليقولوا: إن القرآن إنما كان يعالج أوضاعاً وبيئات قد اندرست، ويهتم بشئون مجتمعات بدائية وبدوية، وقد يترقى بهم الحال -كما يقول الشيخ القرضاوي - ليقولوا: إن القرآن إذا قال: إن الخنزير رجس فإنما كان ذلك في خنازير سيئة التغذية، أما خنازير اليوم فتلقى عناية خاصة.
وحينما ينظرون في الميراث، وفيه للذكر مثل حظ الأنثيين، يقولون: إنما كان ذلك قبل أن تخرج المرأة إلى ميادين العمل وتثبت وجودها في جوانب الحياة المختلفة، والخمر حرم في بيئة حارة، ولو نزل القرآن في بيئة باردة لكان له حكم آخر، وهكذا نلاحظ التحلل من الأحكام وترقي الأمر إلى نسبة الله عز وجل إلى الجهل بشئون خلقه وما يضرهم وما ينفعهم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
إن هذا التشريع لم يضعه المجتمع حتى يخضع له ويستجيب لظروفه وأوضاعه.
إنه تشريع إلهي وضع ليرقى بالمجتمع، وتخضع أوضاعه لهدايته، فكلمة هذا التشريع هي العليا.
إن مهمة التشريع أن يصوب الخطأ، ويقوم المعوج، لا أن يبرر العوج، وأن يسوغ الأوضاع والتصرفات، إنه يستعصي على الذوبان والتميع.
ومع الأسف فإن فُشُوَّ القراءة والكتابة في الناس والمفهوم الخاطئ لحرية البحث العلمي جعلت أناساً يتجرءون على أحكام الله، ويتجاوزون حدود الله في اقتحام أبواب الحلال والحرام، ولم يعرف لهم زاد من العلم سوى ما يسمى بثقافة إسلامية عامة، فجعلوا مساحة الحلال والحرام مباحة لكل من هب ودب؛ فظهرت أقوال من غير خطم ولا أزمة، ونزعت الثقة في أولي العلم والأئمة.
ومسئولية حراسة ذلك يجب أن يتولاها العلماء الربانيون المخلصون، والمراكز الإسلامية العريقة المعروفة، إذا أخلصت لله وبنت منهجها وطريقها على الإخلاص لشرع الله، فبهذا تستعيد مكانتها وموقعها، وتحمي حمى الدين وساحة الأحكام، كدور الإفتاء والقضاء الشرعي وهيئات كبار العلماء.
ومما يعين على تحقيق ما جاء في الفقرة السابقة محاولة الاجتهاد الجماعي، واستصدار الأحكام الفقهية في القضايا المستجدة والوقائع الملحة، وذلك بإعطاء المجامع الفقهية مكانتها اللائقة بها، كمنتدى لكبار فقهاء الأمة بعيداً عن المؤثرات الخارجية والتوجهات السياسية وغير السياسية؛ ذلك أنه قد كثر الأدعياء، وانتشر المغرورون والمتهورون والمتهتكون الذين لو فتح لهم الباب لاجترءوا على حدود الله وغيروا معالم الشرع إرضاءً لنزوة، أو سعياً لشهرة، أو اتباعاً لهوى، ويصبح الدين والناس فوضى، فَيَضِلوا ويُضِلوا.
هذا فيما يتعلق بإجمال الضوابط.
حكم اللقطة: نص الحديث عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: {سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة من الذهب والورق. فقال: اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر فأدها إليه، وسأله عن ضالة الإبل فقال: ما لك ولها؟! دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها، وسأله عن الشاة فقال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب } متفق عليه واللفظ لـمسلم .
هذا هو الحكم الماضي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخليفته أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فلما جاء عهد عثمان رضي الله عنه كما في الموطأ عن ابن شهاب الزهري قال: كانت ضوال الإبل في زمان عمر بن الخطاب إبلاً مؤبلة لا يمسها أحد، حتى إذا كان زمن عثمان بن عفان أمر بتعليفها ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها.
وكان لـعلي رضي الله عنه اجتهاد في المسألة آخر في بعض جوانبها، فقد وافق عثمان في جواز التقاط الإبل من أجل حفظها لصاحبها، لكنه رأى التقاطها والإنفاق عليها من بيت المال حتى يجيء ربها؛ لأنه رأى أن إعطاء ثمنها لصاحبها لا يغني عنها بذاتها، وكان هذا الاجتهاد من الخليفتين الراشدين: عثمان وعلي لما رأيا من تغير أخلاق الناس وفساد الذمم، فصارت بعض الأيدي تمتد إلى الممنوع؛ فترك هذه الضوال لم يعد طريقاً لحفظها على أصحابها الذي هو مقصود الشارع، فسلكا طريقاً آخر يحقق مقصد الشارع في حفظ الأموال لأربابها.
وجاء عمر رضي الله عنه وكأنه تمعن معقول النص، ولم يقف على لفظه، فرأى أن المسئولية يشارك فيها من تكون به النصرة والمعونة، وليس مجرد القرابة النسبية والميراث، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موضحاً هذا التوجه: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة، وهم الذين ينصرونه ويعينونه، وكانت العاقلة على عهده هم عصبته، فلما كان في زمن عمر جعلها على أهل الديوان، لهذا اختلف فيها الفقهاء فيقال -والكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- أصل ذلك أن العقالة هل هم محددون بالشرع، أو هم من ينصره ويعينه من غير تعيين؟
إذاً: المجتهد ينظر في العقالة: إما نظراً لغوياً، أو نظراً عرفياً، بالنظر اللغوي في لغة العرب أو العرفي وهو أن نعود إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما قلنا في العدالة، فالعدالة والعاقلة هذان لفظان موجودان، لكن ما الذي يدخل تحتهما؟
فشيخ الإسلام ابن تيمية يقول مؤصلاً في الموضوع: أصل ذلك أن العاقلة هل هم محددون بالشرع، أو هم من ينصره ويعينه من غير تعيين؟
فمن قال بالأول لم يعدل عن الأقارب؛ لأنها العاقلة على عهده، ومن قال بالثاني جعل العاقلة في كل زمان ومكان من ينصر الرجل ويعينه في ذلك الزمان والمكان.
فلما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما ينصره ويعينه أقاربه كانوا هم العاقلة، إذ لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ديوان ولا عطاء، فلما وضع عمر رضي الله عنه الديوان كان معلوماً أن جند كل مدينة ينصر بعضه بعضاً ويعين بعضه بعضاً، وإن لم يكونوا أقارب، فكانوا هم العاقلة.
قال شيخ الإسلام : وهذا أصح القولين، وأنها تختلف باختلاف الأحوال، وإلا فرجل سكن المغرب وهناك من ينصره ويعينه كيف تكون عاقلته من بالمشرق في مملكة أخرى، ولعل أخباره قد انقطعت عنه، والميراث يمكن حفظه للغائب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المرأة القاتلة أن عقلها على عصبتها، وأن ميراثها لزوجها وبنيها، قال: فالوارث غير العاقل.
إنها تعني تدبير الشئون العامة من قبل ولاة الأمور بما يكفل تحقيق المصالح ورفع المضار بما لا يتجاوز حدود الشريعة وأصولها الكلية، فهي نظر في واقع المسلمين وما يجد لهم من أحوال وما يحل بهم من أزمات، فتتخذ لذلك الحلول المناسبة على نور من الشريعة وفي إطارها العام.
وحينما يجيل الباحث نظره فيما بحث فيه أهل العلم والفقه في سلطات ولي الأمر وصلاحياته في هذا الميدان وما يسن هو من تنظيمات وتدبيرات؛ ليحفظ على الأمة مصالحها وينتظم به معاشها، يجد في ذلك كلاماً واضحاً ونبراساً هادياً.
على الرغم مما أكدوه من دقة الموضوع، حتى قال الحافظ ابن القيم في دقة الموضوع: وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب، فرط فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا الناس على الفجور والفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له.
وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه.
ويؤكد هذه المقولة لدى ابن القيم الفقيهان الجليلان: ابن فرحون المالكي والطرابلسي الحنفي حيث قالا: إن إهماله يضيع الحقوق، ويبطل الحدود، ويجرئ أهل الفساد، ويعين أهل العناد، والتوسع فيه يفتح أبواب المظالم الشنيعة، ويوجب سفك الدماء وأخذ الأموال غير الشرعية.
وعلى الرغم مما يجب أن يتوخى من دقة، ويلتزم من عناية، إلا أن أهل العلم صرحوا بجواز ذلك وعظم حاجة الناس إليه، يقول الإمام القرافي بعبارة صريحة جريئة: إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية -أعني بالسياسة السياسة الشرعية وليس بمصطلحها المعاصر، السياسة على الأحكام التي تتعلق بالمصلحة المرسلة تقريباً- ليس مخالفة للشرع بل تشهد له الأدلة كما تشهد له القواعد، وقال: إن الفساد قد كثر وانتشر بخلاف العصر الأول، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج من الشرع بالكلية لقوله عليه الصلاة والسلام: {لا ضرر ولا ضرار } إلى أن قال: والاختلافات في الشرع كثيرة لاختلاف الأحوال، فكذلك ينبغي أن يراعى اختلاف الأحوال والأزمان فتكون المناسبة الواقعة في هذه القوانين السياسية مما شهدت له القواعد بالاعتبار، فلا تكون من المصالح المرسلة، بل أعلى رتبة، فتلحق بالقواعد الأصولية.
وبهذا يستخلص من كلام أهل العلم: أن الحكم مادام في دائرة الاجتهاد، ولم يرد فيه نص قطعي، أو حكم اجماعي، وهو يؤدي إلى درء مفسدة، أو جلب مصلحة، ويستند إلى سند شرعي من المصلحة المرسلة، أو سد الذرائع أو العرف؛ فهذا الحكم قابل للبحث والنظر من قبل ولي الأمر، ينظر فيه بما يحقق المصلحة، ولو كان قد صدر فيه حكم اجتهادي سابق.
أي أن السعر إذا كان خاضعاً -كما يقول الاقتصاديون- لقانون العرض والطلب، فليس لولي الأمر التدخل حين ذاك؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو القابض الباسط.
أما إذا امتنع أرباب السلع -والكلام لـابن تيمية - من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمتها، قال: ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل.
وأصرح من ذلك ما قاله الإمام أبو بكر بن العربي في شرحه على الترمذي قال: سائر العلماء بظاهر الحديث -أي: يأخذون بظاهر الحديث- لا يسعر أحد، والحق التسعير وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، وذلك قانون -والكلام لـابن العربي - لا يعرف إلا بالضبط للأوقات ومعايير ومقادير الأحوال وحال الرجال، والله الموفق للصواب، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق وما فعله حكم، لكن على قوم صحت نياتهم واستسلموا لربهم، أما قوم قصدوا أكل الناس والتضييق عليهم فباب الله أوسع، وحكمه أمضى.. هذا كله كلام القاضي أبي بكر بن العربي .
ويقول ابن القيم : وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير، سعر عليهم تسعير عدل، لا وكس ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.. انتهى كلام ابن القيم .
وعليه فإذا تغير حال الناس وفشا الطامعون وانتشر المتلاعبون في أسواق المسلمين، فليس في الحديث ما يمنع من ضرب اليد على هؤلاء، وإلزامهم بالعدل، ورفع الظلم عن الفئتين.
وبقي أن تعلم أن هذا الرأي وهذا النهج هو نهج بعض فقهاء التابعين والمالكيين وبعض الحنبليين.
ولئن ظن كثير من الفقهاء رحمهم الله أن هذه الإباحة نسخ للنهي المتقدم، أي حينما قال لهم: {من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثلاثة أيام ... } فنهاهم ثم أباح لهم، ولئن ظن كثير من الفقهاء رحمهم الله أن هذه الإباحة نسخ للمتقدم فليس الأمر كما ظنوا على التحقيق، وإنما كما قال القرطبي رحمه الله في تفسيره : بل هو حكم ارتفع لارتفاع علته، فالمنسوخ لا يعود أبداً، والمرفوع بعلة يعود بعود العلة، فلو قدم على أهل بلدة أناس محتاجون في زمان الأضاحي ولم يكن عند أهل ذاك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا، لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاثة أيام كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد وقع مثل ذلك في عهد علي رضي الله عنه، فقد صلى بالناس في يوم عيد، ثم خطبهم، فنهاهم عن ادخار فوق ثلاث تأسياً بنهي النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال الحافظ ابن حجر في الفتح : والتقييد بالثلاث واقعة حال وإلا فلو فلم تسد الخلة إلا بتفرقة الجميع لزم على هذا التقدير عدم الإمساك ولو ليلة واحدة.
ولعلك بهذا تدرك أن النهي كان من مقتضيات السياسة الشرعية في تقييد المباح، وهي تصرفات من الإمام بوصف الإمامة نظراً لما يجب لأخوة الإسلام وما يقتضيه من ظرف.
ويلحق بذلك المنع من أكل اللحم، حينما منع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس من أكل اللحم يومين متتالين، وكذلك منعهُ الزواجَ من الكتابيات، كما في سنن سعيد بن منصور : [[أن
ومن المعلوم في الشرع أن نساء أهل الكتاب حل للمؤمنين ولكن الإمام عمر خشي مفسدتين إحداهما: إما التساهل في شرط الإحصان والعفاف المشروط بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، فيقع المسلم في المومسات والفاجرات، وإما كساد سوق الفتيات المسلمات، وهو باب في سد الذرائع، سلكه الإمام حسب ما تقتضيه السياسة الشرعية.
مثل ذلك أيضاً في عهد عثمان القراءة في المصاحف التي بقيت بعدما استنسخ المصحف الإمام، فإن عثمان رضي الله عنه لما أمر بكتابة المصحف الإمام حين خشي اختلاف الأمة، أتبع ذلك بالأمر بإحراق المصاحف الأخرى، ومن ثم منع من القراءة فيها مع أن ذلك كان مباحاً من قبل.
ومستند القائلين بالسنتين أثر عن عائشة رضي الله عنها أن المرأة لا تزيد في حملها على سنتين، وقالوا: إن مثل هذا لا يقال بالرأي من قبل عائشة فله حكم المرفوع، ولكن الإمام مالكاً رحمه الله حينما حدث بهذا الأثر كما ذكر البيهقي في السنن قال: سبحان الله! من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق، وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين، أي أن مالكاً لم ير قول عائشة هذا من قِبَل المرفوع.
ثم يأتي ابن حزم ليعلق على الجميع؛ فيقول في مباراة فقهية على ما فيها من شدة حزمية معهودة قال: ولا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر ولا أقل من ستة أشهر لقول الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15] مع قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233] فمن ادعى أن حملاً وفصالاً يكون في أكثر من ثلاثين شهراً فقد قال بالباطل والمحال، ورد كلام الله عز وجل جهاراً. ثم ضعف ما روي عن عائشة وقال في قصة نساء بني العجلان: إنها أقوال مكذوبة راجعة إلى من لا يصدق ولا يعرف منه ولا يجوز الحكم في دين الله بمثل هذا.
ويوضح هذا التوجه الشيخ محمد الهند في فتاواه ويقول: إننا إذا بني أحكام الحمل على مثل أقوال النساء هذه، نكون قد خالفنا القرآن، وخالفنا الثابت المطرد في مدة حمل المرأة؛ فهي لا تكاد تبلغ سنة واحدة فضلاً عن عدة سنين، وخالفنا القياس الفقهي، على تقدير صدق أولئك العجائز إن أخبرنا به الأئمة من أن ذاك وقع شذوذاً؛ فكيف إذا لم يصدقوا؟! وخالفنا ما قرره أطباء هذا العصر من جميع الملل والنحل على سعة علمهم بالطب والتشريح وعلم وظائف الأعضاء، واستعانتهم في بحثهم واختبارهم بالآلات والمجسات والمسابير والأشعة، وعلى بناء علمهم على التجربة والاستقراء، واستعانة بعضهم في ذلك ببعض على اختلاف الأقطار لسهولة المواصلات البريدية والبرقية، وكثرة النساء اللاتي تعوَّدن على الجرأة في القول، وعدم خجلهم من إظهار ما لم يكن يظهره أمثالهن في بلادهن أو غيرها من قبل.. هذا كلام فيه نظر.
أقول ولعلك بهذا تدرك: أن المسألة خاضعة للنظر وراجعة إلى ما تغلب فيه العوائد من أحوال النساء على ما تميز به هذا العصر من دقة المعرفة العلمية على التجربة والكشف والنظر بحاسة لا على التخمين والحدس.
ولعلي بهذا أنهي ما سمعتم، أرجو أن يكون ما ذكرته فيه فائدة وفيه وضوح، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الجواب: الأحكام التي في النصوص الشرعية، إما حكم بنص فهذا ليس محل اجتهاد، أو كان مجمعاً عليه أو كان من المعلوم من الدين بالضرورة، أي أنه كان قطعياً، إما من ثبوت نصه، أو أنه معلوم من الدين بالضرورة، أو مجمع عليه، أما إذا كان غير ذلك وخاصة فيما كان داخلاً في الأعراف والعادات، وكذلك ما يدخل تحت المصلحة المرسلة وتحت الاستحسان؛ لأن الكتاب والسنة والإجماع والقياس ما جاء فيها ليس محل نظر، والقياس على نظر فيه قد يكون أخف من غيره، ولكن مع هذا الاتفاق عليه كما هو معلوم لدى جماهير أهل العلم من اعتباره مصدراً يكاد يكون إجماعاً، ويكاد يكون من خالفه لا يعتد بمخالفته، وحتى من خالفه تجده رجع إلى الأحكام في طريق الاستصحاب والبراءة الأصلية كما هو معلوم.
فما لم يكن مقطوعاً به أو معلوماً من الدين بالضرورة أو منصوصاً عليه نصاً ثابتاً فإنه يقبل النظر ولو قال به مجتهد سابق؛ لأن المجتهدين لهم نظر يمكن أن يعاد النظر فيه.
الجواب: الرخص والعزائم نوعان من أحكام الشرع منصوصة كلها، والعزائم والرخص منصوصة على معنى أن هناك حكمين منصوصين، ففي العزائم والرخص كِلا الحكمين منصوص، صلاة الأربع في حالة، وصلاة الركعتين في حالة، فكلاهما منصوص، ومحل النظر لا يسمى ترخيصاً أو لا يسمى رخصاً؛ لأن الرخص والعزائم من الشارع، وكلها نصوص من الشارع، إنما يكون النظر في مواطن التخفيف أو اليسر أو شيء آخر له جوانب أخرى، قد يكون عموم البلوى، أو تغير العادات، بحيث يشق على الناس وللاجتهاد فيه نظر، أما العزائم والرخص فهذه كلها منصوصة.
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، نزجي الشكر الجزيل لمؤسسة الملك فيصل الخيرية التي نظمت لنا هذه الندوة، وهذه المعلومات التي نحن في أمس الحاجة إليها، والشكر يُزجَى لصاحب المعالي فضيلة الدكتور/ صالح بن حميد على هذه المعلومات القيمة، ولو لم نحصل في هذه الجلسة إلا على ما أشار إليه في ضبط العنوان، فهي في الواقع حقيقة نعيشها تتعلق بالنظر في المتغيرات، وحصر معالي الشيخ النظر في ضوابط النظر في المتغيرات.
نعم. إن الكثير ينظر في المتغيرات لكن ما ضوابط هذا النظر؟ فالشكر مكرراً مرة أخرى، والذي أريد أن أشير إليه أن الاختلاف بين المجتهدين من منضبطين بضوابط النظر وغير منضبطين هو سنة ماضية؛ ففي كل زمن يأتي من ينظر نظراً منضبطاً بضوابط الشرع، ويأتي من هو غير منضبط.
والإشكال في واقعنا ليس في وجود من ينضبط في نظره، ويقدم الأحكام الشرعية الصحيحة وفق النظر الشرعي، أو وجود من يقدم الأحكام الشرعية غير المنضبطة، فهذه ستبقى إلى قيام الساعة، لكن الإشكال فيما يسمى بالتعبير الموضوعي عن وجدان الجماهير وهو القضية الإعلامية، والذي يجعل هذا الضبط الشرعي والحكم الشرعي الذي نظر إلى المتغيرات بضبط صحيح يصبح في وجدان الجماهير، إن الذي يجعله يعيش هو العرض الموضوعي لهذه المعلومات الصحيحة وغرسها غرساً صحيحاً في نفوس الأمة حتى تحترمها، لكن عندما ننظر إلى واقع الأمة اليوم نجد خللاً كبيراً في هذا العرض، نجد تلميعاً لفئة تقدم لنا نظراً شرعياً غير منضبط وهو من انطبق عليهم التعريف الذي ذكره سماحة الشيخ في أنهم ليس لهم ضوابط في النظر في المتغيرات، فيتحدثون في المتغيرات نظراً غير منضبط، ويقدمون لنا أموراً لا تتفق مع الشريعة، ثم يأتي الإعلان ليلمع هؤلاء.
إن فئة موجودة في العالم العربي والعالم الإسلامي في شرقه وغربه، تقدم للأمة هذا الانحراف، وهم لا يمثلون نسبة عالية بين المجتهدين ولا بين المفكرين ولا بين الناظرين في المتغيرات، هذه النسبة لا تمثل غالبية وهؤلاء يلمعون إعلامياً حتى صوروا للأمة كأنهم هم مجتهدو الأمة، وهم مفكرو الأمة، وهم من يقتدى بهم، وهنا يأتي الخلل.
إن البلاء المستطيل، والشر المستطير، الذي يؤذن بهلاك الأمة -وأعتبر النظر غير المنضبط في المتغيرات بضوابط الشرع هو الباطل- إذا كان الناس يتحدثون عن مخاطر الإعلام الذي يسوغ الشهوات في سلوك الناس، فإن الحديث عن الإعلام الذي يقدم الشبهات في أحكام الشريعة أخطر، إن الذي يقدم لنا نظراً في متغيرات بغير ضوابط الشرع أخطر بكثير ممن يقدم لنا انحرافاً سلوكياً أو انحرافاً في مادة إعلامية.
إن الصحافة العربية تهدد الأمة بكوارث عندما يصاغ وجدان الجماهير من خلال هذه التصورات التي تقدم.
ولكم أن تنظروا في الصحافة المحلية والصحافة الأجنبية فهي تقدم من ذلك شيئاً كثيراً، يلمع أناس يصورون بأنهم مجتهدون، وليس من حقهم من خلال الضوابط التي سمعناها في المحاضرة أن يجتهدوا.. لماذا؟ لأنه ليس عندهم ضوابط في النظر وهم يخالفون أقوال المجتهدين في الأمة.
نسأل الله للقائمين على الإعلام في العالم العربي والعالم الإسلامي أن يوفقوا لتقديم هذه الاجتهادات الصحيحة لتصبح حقيقة وجدان للجماهير لتنضبط بضوابط الشرع، ولتنظر للمتغيرات بضوابط الشرع، وليفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
شكراً لفضيلة الدكتور، ولعلي في ضوابط النظر ذكرت نوعين من الضوابط: ضوابط في القواعد التي تبنى عليها التغيرات، وهي -كما قلت- المصلحة المرسلة والاستحسان والعرف وعموم البلوى، وهذه الضوابط ذكرتها تعريفاً، وذكرت أيضاً ما يضبطها ودقة المسالك فيها، وأنها مزلة أقدام ومضلة أفهام، وضوابط عامة كذلك أشرت إليها فيما يتعلق بالمجتهد وفيما يتعلق أيضاً في نفس قضية ضبط النظر، وهناك أناس غير منضبطين وليسوا من أهل النظر ولا من أهل الاجتهاد، وأنا أشرت -طبعاً أنا لا أرد على الدكتور وإنما أوضح- إلى المجامع الفقهية وإلى دور الإفتاء وإلى دور القضاء ومجالس القضاء ومجامع العلماء، وهذه المجامع ينبغي أن تأخذ دورها، مبتعدة -كما قلت- عن المؤثرات الخارجية سياسية وغير سياسية، وأن يعود إلى الفقه احترامه وأن تحمى ساحته وأن تحفظ، هذا جانب مهم جداً وأكدت عليه، ولا يكون حفظ إلا حينما تكون هناك جهات موثوقة: دار إفتاء، دار قضاء، هيئة كبار علماء في كل بلد إسلامي، منها إفتاء وتكون أيضاً محل ثقة.. هذا مهم جداً.
قضية الاستجابة لأهواء الجمهور أيضاً هذه من الأخطاء التي وقعت فيها الأمة كثيراً، نتيجة سوء ما جاء من التيارات الوافدة من غرب وغيره، ومع الأسف رأينا كثيراً أن الجماهير هي التي تقود الناس، تقود العلية وتقود الوجهاء، تقود من تسلموا القيادة سواء علمية أو إسلامية أو غير ذلك، وهذا هو النظر القاتل، أن يكون المسئول ينظر ماذا يريد الجمهور، هذا جانب يجب أن يعاد النظر فيه وهو أن يكون الجمهور هو الذي يقول.
نحن قلنا: الشريعة هي التي ترفع الناس، وليس من حق المجتهد أو حق المسئول أن ينـزل بالمبادئ والمثل إلى رغباتهم، إنما يرفع الناس ليستمسكوا بالمبادئ والمثل.
كلمة ختامية للمقدم:
انتهى الوقت ولم تنته حاجتنا إلى الاستماع لفضيلة محاضرنا الكريم، ولكننا نقف عند هذا الحد التزاماً بما قرر للمحاضرة من وقت، ونسأل الله أن يجزي عنا فضيلة الشيخ الدكتور/ صالح بن عبد الله بن حميد خير ما يجزي العلماء العاملين، وأن يرفع درجته ويعلي قدره، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر