أما بعد:
أيها الإخوة في الله: أشكر الله عز وجل على أن أتاح لي هذه الفرصة في هذا البيت من بيوت الله؛ لنلتقي بهذا الجمع الكريم الطيب المبارك، ثم أشكر الإخوة في مكتب الدعوة بـالرياض والقائمين عليه على دعوتهم، وإتاحتهم الفرصة لي للتحدث إليكم في موضوعٍ أحسبه من المواضيع المهمة، والتي لا شك أنكم سمعتم بها، واطلعتم على كثيرٍ من جوانبها ومباحثها، ولكن لابد من التذكير، وأؤكد لكم أن ما تسمعونه إنما هو تذكير، والذكرى تنفع المؤمنين، والتذكير لا يلزم منه أن يأتي المتحدث بجديد، وهذا التذكير هو تذكير في باب عظيم.. باب الدعوة إلى الله عز وجل التي هي وظيفة الرسل، ويحصل كذلك -أيضاً- التذكير بها ونحن في هذه الأجواء والظروف التي تجري في الساحة الإسلامية -إن صح التعبير- من أمور تقتضي وقوفنا جميعاً، والتحدث فيما ينبغي التحدث فيه، والخوض في مثل هذه القضايا؛ حتى نكون على بصيرة من أمرنا، وحتى نتلمس طريقنا في مثل هذا الاجتماع المبارك، وفي مثل هذه المذاكرات في الأمور المهمات التي يهتم بها هذا المكتب ونظراؤه في مدن بلادنا الحبيبة.
والموضوع الذي اختير الحديث عنه عنوانه: (نظرات في الدعوة ومسالك الدعاة).
هذا الموضوع دعا إليه -في تقديري- ما يلحظ في الساحة من نشاط يقوم به رجال أفاضل يدعون إلى الله، ويلاقون في دعوتهم ما يلاقيه من يقوم بمهمتهم في الماضي والحاضر، فهي سنة الله في الحاضرين والغابرين، والدعوة إلى الله هي طريق المرسلين، وقد لاقى أنبياء الله في ذلك ما لاقوا من العنت والصدود والإباء والاستكبار من لدن فئاتٍ كثيرةٍ وطبقات كبيرة من الملأ الذين استكبروا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
1- الحكمة.
2- الموعظة الحسنة.
3- الجدال بالتي هي أحسن.
فيحسن أن نقدم بكلماتٍ يسيرةٍ عن هذه الأجزاء الثلاثة.
فمن كل ما سبق نعرف أن الحكمة كلمة عامة جامعة تشمل: الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس، ووصاية بالخير، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة، وكلياتٌ جامعة لمجامع الأدب، وباختصار فهي: اسم جامع لكل كلامٍ أو علم يراعى فيه إصلاح الناس ومعتقداتهم إصلاحاً مستمراً لا يتغير.
وأحب أن تتنبهوا لهذا القول؛ لأنه سيأتي له تفصيل فيما بعد.
قولنا: إنها تلطف وحزم بإنسان تجله وتنشطه: فأنت حينما تدعو أخاك المسلم ولو كان على منكر يجب أن تحفظ له حق الإسلام، وأن يشعر منك بالتقدير والاحترام، فهذه موعظة، وليس المقصود الإهانة أو التبكيت أو التوبيخ، وسيأتي تفصيل لهذا؛ ولهذا نقول: هي تخويف وترجئة وتلطف وحزم بإنسان تجله وتنشطه، وتجعله بصورة من يقبل الفضائل ويحبها ويتحلى بها.
ومن أهم مظاهر الوعظ الحسن: أن يحس الموعوظ بأن الواعظ يحبه، ويشفق عليه ويقصد نفعه.
ويدخل في الجدال بالتي أحسن: رد تكذيب المعاندين بكلام غير صريح في إبطال قولهم من الكلام الموجه، مثل قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، وقوله: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الحج:68-69].
ومن الجدال بالتي هي أحسن: الإعراض عن كثيرٍ مما يقوله المخالف أو الخصم؛ لأن الدخول فيه يدخل في قضايا صغيرة، أو يدخل في قضايا ثنائية لا تصل فيها إلى الحق الذي تريد، بل قد يكون فيها خروج عن المروءة والأدب والمقصد الأعظم من الدعوة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن.
وهي أمورٌ سبق أن ذُكرتم بها في أكثر من مقام ومناسبة، وهي معهودة لديكم، ولكننا نذكرها بشيء من الإيجاز:
ويقصد بها كل معانيها: من فعل المأمورات، وترك المنهيات، والتحلي بصفات أهل الإيمان، فتقوى الله بشمولها إذا رزقها العبد فإنها تنير القلب، وتفتح المدارك، ويستبصر بها موهوبها مواطن الحق، ويهتدي بها إلى الوسائل والأساليب الصحيحة الملائمة للظروف والأحوال والأشخاص، فالعاقبة للتقوى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2].. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4] وأولياء الله هم المتقون.
وأعظم الناس مطالبة وحاجة إلى هذه الخصلة هم العلماء والدعاة، ومن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة من ضيع هذه الخصلة، ولقد قال الغزالي رحمه الله في الإحياء ؛ محذراً من الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي: "إن الداعي قد يرى حين الدعوة والقيام بها عز نفسه بالعلم والدين، وذل غيره بالجهل والتقصير، فربما قصد بالدعوة إظهار التميز على غيره -نسأل الله السلامة- وإذلال المدعو". ولعلكم تدكرون ما قلناه قبل قليل: وهو أن الموعظة الحسنة أن تجل أخاك، وتتلطف معه، وتحفظ له حق الإسلام.
قد يقصد الداعي -نسأل الله السلامة كما ذكر الشيخ الإمام الغزالي صاحب الإحياء بما سماه-: الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي، وهذا كلامٌ يكتب بماء الذهب.
يقول: "إن الداعي قد يرى حين الدعوة والقيام بها عز نفسه بالعلم والدين، وذل غيره بالجهل والتقصير، فربما قصد بالدعوة إظهار التميز على غيره وإذلال المدعو بإشعاره ولو بطرفٍ خفي بالجهل، وخسة أهل الجهل، والتقصير، وسوء حال المقصرين.
قال: وهذه مزلة عظيمة، وغائلة هائلة، وغرور للشيطان يطوق به كل إنسان إلا من عرَّفه الله عيوب نفسه، وفتح بصيرته بنور هدايته، فإن في الاحتكام على الغير لذةً للنفس عظيمة".
أي: الإنسان عندما يتكلم في عيوب الناس يجد لذة في أنه يتعالى ويخاطب الناس: افعلوا وأصلحوا، لماذا لا تقدموا؟ فالنقد لذيذ للإنسان، ويجد لذة في التعالي على الناس، ولهذا يقول الشيخ: "فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة".
ولم يقتصر الغزالي رحمه الله على هذا الإيضاح، بل زاد في بيان المعيار والمحك في ذلك حين قال: "وهناك محكٌ ومعيار ينبغي أن يمتحن الداعي به نفسه، وهو: أن يكون قيام غيره بالدعوة وإصلاح الناس واستجابتهم لغيره أحب إليه من استجابتهم له، فإن كان يحب أن يكفيه غيره فهو على خير، وإن كان لا يحب ذلك لغيره من أهل العلم والدعوة فما هو إلا متبع لهوى نفسه، متوسل إلى إظهار جاه نفسه بواسطة دعوته، فليتق الله تعالى فيه، وليدع أولاً نفسه". انتهى بتصرف وحذف من الإحياء .
لكن هل هناك حقيقة لكلام الشيخ حينما قال: "أن يكون دعوة غيره أحب إليه من دعوته في نفسه"؟
هذا فيه نظر، وخاصة مع قوله صلى الله عليه وسلم: {فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم } فلا شك أنه كان مؤهلاً للدعوة متصدراً لها، لكن لاشك أنه إذا وجد من يكفيه اكتفى به، على معنى أنه إذا وجد في نفسه -فعلاً- أنه يحب الظهور فليتوارى، أما إذا جاهد نفسه وأراد أن ينال شرف هذا الحديث الذي أقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم: { لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم } فهذا محل نظر في كلام الغزالي رحمه الله.
ويشمل العلم: الفهم الدقيق لما جاء في الكتاب والسنة، وسير السلف ، وفهوم أهل العلم والفقه علماً وعملاً.
ذلك أن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون من يستطيل عليهم، أو يبدو منه احتقارهم أو استصغارهم، ولو كان ما يقوله حقاً وصدقاً، بل إن الاستعلاء سببٌ ظاهرٌ في كره الحق ورفضه، ومن أجل هذا فإن التواضع ثمرة المعرفة بالله وبالنفس، يقول الخليفة أبو بكر رضي الله عنه: [[لا يحتقرن أحدٌ أحداً من المسلمين، فإن صغير المسلمين عند الله كبير ]] وقد خاطب الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28].
ويقول ابن الحاج : "من أراد الرفعة فليتواضع لله تعالى، فإن العزة لا تقع إلا بقدر النزول". أي: بقدر التواضع.
ومما يلحق بهذا الباب: العلم بأن من طبائع النفوس النفرة ممن يكثر الحديث عن نفسه، أو يستجلب الثناء عليها، أو يستدر لها المديح، فالفضل من الله، ومن تحدث إلى الناس فليتحدث إليهم بفضل الله لا بفضل نفسه.
وهو ضبط النفس عند الغضب، والرجوع إلى العقل عند ثورة الانفعال، وما هذا إلا بشارات القوة وعنوان البطولة: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب } وما أحوج الدعاة إلى الله إلى هذا وخاصة حين يحتدم الجدال، ويرون أشياء قد تثار، ولكن الحكيم والحليم هو الذي يظهر أثره في مثل هذه المواقف، ومن أحوجُ الخلق بهذا رجل الدعوة الذي ميدانه صدور الرجال ونفوس البشر.
ومن أبرز صور الحلم: كظم الغيظ، ثم يعقبه في الترقي: العفو عن الناس، وتلك صفات المتقين أهل الجنة التي عرضها السماوات والأرض، ومن رزق الحلم ترقى في درجاته؛ فيصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه.. ويخطئ من يظن أن الحلم عجز، وأن العفو ضعف، وأن الإعراض عن الجاهل خوف وخور، ولا يقول ذلك إلا من تأخذه العزة بالإثم، وهو خلق ذميم يتنافى مع الحلم كما ترى.
خرج زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه من المسجد يوم فسبه رجل، فانتدب الناس إليه، يريدون أن يمنعوه ويكفوه، فقال: [[دعوه، ثم أقبل عليه وقال: ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل إذا رآه قال: إنك من أولاد الأنبياء ]].
أيها الإخوة: أيها الشباب! أيها الدعاة: الناس في حاجةٍ إلى كنفٍ رحيم، وبشاشةٍ سمحة.. بحاجة إلى ودٍ يسعهم، وحلمٍ لا يضيق بجهلهم.. بحاجةٍ إلى من يحمل همومهم، ولا يثقل عليهم بهمومه، يجدون في رحابه العطف والرضا، ومن أجل هذا تأتي الرحمة الربانية لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الرسول القدوة: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمران:159] فما غضب عليه الصلاة والسلام لنفسه قط، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه، وما نازعهم في شيء من أعراضهم، وسعهم حلمه وبره وعطفه.
وحينما يوهب العبد قلباً رحيماً، وطبعاً رقيقاً مع العلم والحكمة؛ فإنه لا يستكثر على الصغير والجاهل أن يصدر عنهم صدود عن الناصحين، والدنيا مليئة بمن لا يحبون الناصحين.
إن الداعي إلى الحق صاحب الخبرة والمراس لا يعجب من صدود الناس ونفرتهم، لكن رحمته بهم وشفقته عليهم لا تنفك تغريه بمعاودة الكرة تلو الكرة، كما يعاود الوالدان الحريصان على أولادهما في الإلحاح بالغذاء والدواء في حال الصحة والمرض، بل لقد جاء حديثٌ أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما أنا لكم مثل الوالد لولده } هل رأيتم والداً يمل من نصح ولده؟ حتى ولو نصحته ثم نصحته تجد الوالد دائماً يكرر، هذا الذي ينبغي أن تفعلوه مع الناس، ولا تضيق صدوركم أبداً، وهل رأيت أعظم شفقة من الوالد على ولده؟ وكم قابل محمدٌ صلى الله عليه وسلم إعراض قومه بابتهاله النبوي: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون }.
أقول: هذه إشارات في هذا الموضوع أظنكم استشعرتم من خلالها بعض المسالك التي نريد أن نبسط القول فيها من خلال ما سبق؛ من تعريف للحكمة وأبرز صفات رجل الدعوة: هذا بسط لبعض المعالم والمسالك التي أراها حقيقة في ذلك، وسوف يكون هذا البسط من خلال التعرف على طبائع النفوس، وطبقات المدعوين، وتخير الأوقات، وانتهاز المناسبات، ثم النظر في طرق الدعوة وأساليبها، من الإحسان في القول، والحرص على التلميح إذا أمكن الاستغناء به عن التصريح، والقصد إلى الستر والنصيحة، والبعد قدر الإمكان عن التشهير الذي قد ينقلب إلى فضيحة، وفي سلوك مسالك المداراة المشروعة، وإقالة العثرات ما أمكن، وإليكم -أيها الإخوة الأفاضل- بسطاً لبعض هذه المسالك.
المسلك الأول: طبائع النفوس وطبقات المدعوين.
أيها الإخوة! أيها الدعاة! الناس متباينون في طبائعهم، مختلفون في مداركهم في العلم والذكاء.. في الأمزجة والمشاعر.. مختلفون في الميول والاتجاهات؛ مما يفترض على رجل العلم والدعوة تخير المدخل، بل المداخل المناسبة لتلك النفوس المختلفة والعقول المتباينة؛ ففيهم الغضوب والهادئ، وفيهم المثقف والأمي، وفيهم الوجيه وغير الوجيه، بل إن ثمة كلمة لـعلي رضي الله عنه يصور القلوب -كل القلوب- بأنها وحشية، فيقول: [[القلوب وحشية، فمن تألفها أقبلت عليه ]] يصورها رضي الله عنه وكأنها دوابٌ متوحشة لا تعرف الألفة في طبعها، ويبدو هذا -والله أعلم- في ميدان النصائح والتوجيهات، فهل رأيت من يرضى أن تنسبه إلى جهل، أو عدم معرفة، أو سوء في التصرف؟
إن الإنسان يعظم عليه أن ينسب إلى الجهل، ولذا تراه يغضب إذا نبه على الخطأ، ويجتهد في المحاجة، بل يجتهد في جحد الحق بعد معرفته خيفة أن ينكشف جهله.. يجب أن تعرفوا أن الناس هكذا.. الإنسان لا يحب أن ينكشف أو يعرف أنه جاهل.. لا يحب أن يعرف حتى ولو أنه على منكر، إذاً كيف تكون المعاجلة؟
هذا أمر مهم جداً.
أيها الإخوة! وأيها الشباب! أيها الدعاة: لا تشعر الإنسان أنه ناقص، أو جاهل، وإنما خذ بيده من الحضيض الذي هو فيه وارفعه بشفقة ورفق كما ترفع الأم وليدها وكما يرفع الأب ابنه.
إن القلوب في هذا الباب تنفر إذا اقترب منها بل لعلها بدافع الدفاع عن النفس تهجم وتؤذي، فأحياناً الدعاة إذا قابلوا صاحب منكر فإنه ينظر فيهم، هذا طبع يجب أن يعرفه الدعاة، فلا ينبغي للداعية إذا قابله صاحب منكر بكلام فظ أن يرد عليه بفظاظة مثله، إلا في بعض أحوال نادرة، لكن الأصل عدم ذلك.
إن القلوب تنفر إذا اقترب منها، خاصة في اقتراب الإنكار بالجهل وبالتسفيه، بل لعلها بدافع الدفاع عن النفس تهجم وتؤذي، فمن كان صاحب حكمة وفطنة في ترويض الوحوش فهو المفلح بتوفيق الله لهداية الناس، وصاحب الترويض الناجح هو الذي يحرص على تلمس الجانب الطيب في نفوس الناس، يقصد إلى شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم، وشيء من العناية غير المتصنعة باهتماماتهم وهمومهم، وسوف يصل إلى مصدر النبع الخيِّر في نفوسهم، وحينئذٍ يمنحونه حبهم وثقتهم.
إن شيئاً من سعة الصدر والإحاطة بطبائع النفوس كفيل بتحقيق الخير في الناس، بنتيجة لا يظنها الكثيرون، ينبني على ذلك -أيها الإخوة- ملاحظة استيعاب المدعو وسعة مداركه، على معنى: أن الناس يختلفون في قدرة الاستيعاب ويختلفون في سعة المدارك -كما قلنا- ففيهم الجاهل والعالم، وفيهم الوجيه، وفيهم صاحب المنزلة، ومنهم من هو دون ذلك، فالمدعوون يختلفون في الاستيعاب وسعة المدارك، فلا يلقي رجل الدعوة إليه مالا يبلغه عقله، فيوقعه إما في النفرة والشرود، وإما في التخبط الفكري والدخول في غياهب الفتن، وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ]]، ويقول علي رضي الله عنه: [[حدثوا الناس بما يعرفون.. أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ]].
ولأمرٍ ما! كان نزول كتاب ربنا منجماً؛ حتى يتمشى مع تخيل أوقات المناسبات، فنزل منجماً ومفرقاً على ثلاث وعشرين سنة، على المناسبات والأحداث والأزمنة والأمكنة، وأنت خبير -أيها الداعية- أن إقبال الناس في رمضان يختلف عنه في غيره، أي: تستغل المناسبات؛ لأن لهم إقبالاً على الدعوة وعلى الخير في مناسباتٍ، وكذلك يقبلون في موسم الحج إقبالاً مختلفاً عن غيره، وقل مثل ذلك في المناسبات المختلفة والأحداث المتجددة؛ من وقائع الأفراح وحضور المصاعب، فأنت في مناسبة العزاء لا تقوله ما تقول في مناسبة الأفراح.
فأخذ الناس بهذا ومراعاة تقلبات الدهر من حولهم يدرك به سرٌ عظيم في التأثير والاستجابة، وإذا رغبتم في مزيد من الإيضاح في هذا؛ فانظروا إلى بعض الأوقات التي أشار إليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فنتخيرها في الدعاء، مثل: أوقات السحر، ونزول الغيث، والتقاء الجيوش، وأدبار الصلوات... ونحوها، فنتخير الأوقات؛ لأن الأحوال فيها تختلف.
وإذا رغبتم كذلك في واقعة؛ فانظروا في حكمة يوسف عليه السلام حين استغل الفرصة مع الفتيين عند تعبير رؤيتيهما فدعاهم إلى الله الواحد الأحد، وقال لهم: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39] يقول ذلك لأنه رأى منهم إقبالاً وقالوا: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36] رأى أنهم معجبين به ويقبلون عليه، ورأوا أنه يحسن تأويل الرؤيا؛ فأراد أن يعطيهم معلومات مادام أن الثقة وجدت استغل المناسبة، فقال: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ [يوسف:39] ودعاهم إلى التوحيد الذي هو أعظم مطلوب.
ويلتحق بذلك -أيها الإخوة- مراعاة الأعراف والتقاليد المرعية، والطبائع والحرف والصناعات.
وقد يكون فيما أشار إليه أهل العلم من تنوع معجزات أنبياء الله، ومناسباتها مع ما يسود البيئات من علوم ومعارف، كعصا موسى عليه السلام كانت في بيئات السحرة، وعيسى عليه السلام كان في بيئة الطب، وكتاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي هو القرآن كان في بلاغة العرب؛ مما يشير إلى ملاحظة الاختلاف في البيئات والمناسبات والطبائع.
ففي الدعوة كليات وجزئيات، وواجبات ومستحبات، ومحرمات ومكروهات، وقضايا صغرى وكبرى، وكلٌ يجب أن تعرف مواقعها، وتوضع في مواضعها، وأظن الأمر أوضح من أن نبسط الكلام فيه، وخذوا دليلاً:
مندوب الدعوة ومبعوثها إلى اليمن معاذ بن جبل رضي الله عنه رسم له النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج عندما قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يومٍ وليلة... ) وأنتم تعلمون أن بعث معاذ كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، في السنة التاسعة تقريباً؛ لأن معاذاً لم يرجع من اليمن إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: التدرج كان مستمراً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله.....إلخ ).
وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة الأموي المعدود خامس الخلفاء الراشدين، كان من قبل أن يتولى الخلافة يرى في الناس عيباً وكان يحب لو أنه أصلح.
دخل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز على أبيه، فقال له: يا أبت! ما لك لا تنفذ وأصحاب الحوائج راكضون؟ قال: [[يا بني! إن الله تعالى ذم الخمر مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق مرةً واحدة فيتركوه مرةً واحدة، فيكون فتنة ووفساداً كبيراً ]].
إذاً: موضوع التدرج مهم جداً، وكذلك النظر في الأولويات.
هذه بعض مسالك يجب أن تراعى أثناء ممارسة الدعوة، وهي مسالك متعلقة بالمدعوين، وهناك أمور تقابلها في الدعاة، ينبغي أن يتحلوا بصفاتٍ تتطابق مع مراعاتها في أحوال المدعوين، إذاً: عندنا نوعان من المسالك: مسالك تتعلق بالمدعوين، وقد أشرنا إليها؛ من مراعاة الظروف... ونحوها، ومعالم ومسالك تتعلق بالداعية نفسه؛ حتى يتماشى مع التي في نفوس وطبائع المدعوين وبيئاتهم.
وأورد القرطبي في تفسيره عند تفسير هذه الآية حديثاً عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا
ويعلق القرطبي على هذا بقوله: "وهذا حض على مكارم الأخلاق؛ فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر، والقريب والبعيد، من غير مداهنة وسوف يأتي التفرقة بين المداهنة والمداراة- ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه"، هذا كلام القرطبي .
والقول يكون حسناً وحكمة بقدر ما يعتنى بأصول الكلام، ويبتعد عن فضوله -يكون الكلام جزلاً، ويكون الكلام مهماً لا يدخل في الثانويات وفي القضايا الجزئية- ويتحرك بنبضات القلب الحي، وهواجس النفس الصادقة، ويحسن الكلام حين يكون قصداً عدلاً -قصداً أي: وسطاً- ليس بالإيجاز المخل ولا الطويل الممل، وقد كانت خطبه عليه الصلاة والسلام قصداً، كما في الحديث الصحيح عند مسلم من رواية جابر بن سمرة رضي الله عنه.
تنبيه: هناك فرق بين مثل هذا اللقاء وبين خطبة الجمعة، فهذا اللقاء والخطب التي مثل هذا اللقاء -وإخواننا وزملاؤنا الذين يحضرون مثل هذه المحاضرات والندوات- معلومة أنها ندوات وأحاديث مفتوحة، بخلاف خطبة الجمعة؛ فإن خطبة الجمعة -فعلاً- ينبغي أن يهتم بها الأئمة -وفقهم الله- كأن تكون قصيرة على حد ما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الخطبة فرض على جميع الناس، وعلى جميع الفئات، والطبقات، ويأثمون إن لم يحضروا.. فإذا كان الأمر كذلك؛ فعلى الخطيب أن يراعي أحوالهم، بخلاف هذا الجمع الكريم، فإنكم أتيتم على اختياركم، ومن شاء أن ينصرف فلينصرف، بخلاف خطبة الجمعة، وهذا أمر ينبغي أن يلاحظ.
كذلك يقول بعض الناس: الناس إذا جاءوا المحاضرات نفروا، وإذا جلسوا في الملهيات جلسوا وأطالوا، وهذا لاشك أنه من طبائع النفوس؛ لأنهم جلسوا باختيارهم وخرجوا باختيارهم.. نعم! ينبغي أن يذكروا ويوعظوا، لكن لا ينبغي أن تكون المعالجة على هذا النحو.
واستمعوا إلى هذا الحوار الهادئ والقول الحسن، ونحن نتكلم عن القول الحسن في الجدال الحسن، فهذا حصين الخزاعي والد عمران ، كانت قريش تعظمه وتجله، فطلبت منه أن يكلم محمداً صلى الله عليه وسلم في آلهتها، فقد كان يذكرها ويسبها، فجاء حصين ومعه بعض أفراد قريش حتى جلسوا قريباً من باب النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل حصين ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وسعوا للشيخ -وهذا نوع من التكرمة- فقال
ويدخل في ذلك: القول اللين، الذي يستميل النوازع البشرية، ووشائج القربى، وعبارات الحنو والشفقة، فإبراهيم عليه السلام نادى أباه بكلماتٍ مشفقة: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً [مريم:42-45].. إلى قوله: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً [مريم:47] وقال الله عز وجل: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة
قيل لـإبراهيم بن أدهم : الرجل يرى من الرجل الشيء أو يبلغه عنه أيقوله له؟
قال: هذا تبكيت ولكن يعرض.
وكل ذلك من أجل رفع الحرج عن النفوس، واستثارة داعي الخير فيها.
كيف والتعريض سنة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مخاطبة أصحابه، فكان يقول دائماً: ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا، ولو نظرت في القرآن الكريم في معالجة الأخطاء التي وقع فيها الصحابة، أو التي وقع فيها المنافقون، فإن الله عز وجل حينما عاتب أهل أحد قال لهم: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152] كان بإمكانه أن يقول: فلان وفلان وفلان أهل دنيا فأخرجوهم، وهؤلاء يريدون الآخرة، لكنه قال: منكم، وما عرفوهم، وكان بالإمكان أن يحدد حتى يخرجوا ولا يكونوا وسط البيئة، لكنه قال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152] والإتيان بالدنيا ينافي الإخلاص فقوله: (منكم من يريد الدنيا) أي: لابد من إخلاص، ومع هذا قال: عفا عنكم، ضعف بشري يصيب النفوس، وسيأتي الكلام على هذا.
إن مقصودي من هذا أن القرآن لم يصرح، بل حتى في المنافقين دائماً يقول: ومنهم من يلزمك.. ومنهم من يقول: ائذن لي.. ومنهم الذين يؤذون النبي، ما قال: فلان وفلان وفلان، وكان بالإمكان أن يسميهم مع أن السيرة تسمي بعضهم، فمن قال: ائذن لي ولا تفتني هو فلان، لكن القرآن يعلمنا الأدب فيقول: منهم وفيهم، وما قال: فلان، مع أنه قد سمى أشخاصاً معينين، فسمى فرعون وأبا لهب ، وأعداداً محدودين، لكن الأغلب أنه لم يسمِّ أشخاصاً بعينهم.
إذاً: الأصل التعريض، ولا يفضح إلا فاسق، ويحذر الناس منه لشدة فسقه؛ لأن التعريض يجعل خط رجعة، لكن إذا صرحت لإنسان يحاول أن يجد حججاً، ويجد في نفسه غلظة، ولا يمكن أن يستجيب له أبداً، حتى لو صلح يجد في نفسه شيئاً، لأنك ذكرت اسمه.
معاشر الدعاة! إننا نحسن وإن هذا إحسان منا للناس، فلماذا نمنُّ به بأن نؤديه في قالب مؤذي؟
ثم قال ابن القيم : " فهو إحسان محض يصدر عن رحمة ورقة مراد الناصح بها وجه الله ورضاه والإحسان إلى خلقه " هذا كله كلام ابن القيم رحمه الله.
فهذه دعوة إصلاح يجب أن يتمحض فيها الإخلاص لله، مع المحافظة على مشاعر المنصوح على نحو ما سبق في المسالك السابقة؛ لئلا ينقلب النصح مخاصمة وجدالاً وشراً ونزاعاً.
ويؤكد جانب الدقة في هذا الأمر: أن ذكر الإنسان بما يكره هو على أصل التحريم، وقد قيل لبعض السلف : أتحب أن يخبرك أحدٌ بعيوبك؟ فقال: إن كان يريد أن يوبخني فلا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تذكروا مساوئ أصحابي حتى أخرج إليهم وأنا سليم الصدر ) فالإنسان بشر، ولا يكاد يفرق بين النصيحة والتعيير سوى النية، والباعث، والحرص على الستر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم السيد أن يثرب أمته، أي: يلومها على ذنبها، بل يقيم الحد ولا يثرب، لا يكثر الشكاية واللوم، كأن يذكرها بذنبها وخطيئتها، وهذا حالياً يتأسى به الآباء حينما يربون أبناءهم؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب ) متفق عليه.
ويقول فضيل : المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير.
وكانوا يقولون: من أمر أخاه على رءوس الملأ فقد عيره.
ذلك أن الناصح الصادق ليس له غرضٌ في إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة وإخراج أخيه من غوائل تلك المفسدة، وشتان بين من قصده النصيحة ومن قصده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى، وكما قالت أم الدرداء : [[من وعظ أخاه سراً فقد زانه، ومن وعظه علانيةً فقد شانه ]].
فالذي سبق كان أمراً قولياً مما كان ينبغي من الدعاة من الناحية القولية. لين القول، وستر العيوب، والنصيحة لا الفضيحة، والتلميح دون التصريح، وهذا تعامل مادي، أي: حسي وليس قولي، فهذه صور من اللين في التعامل.
فنقول: إن النفوس مجبولة على حب من يحسن إليها، ويتلقاها باللين، ويبسط لها المحيا، والشدة قد تدفع إلى المكابرة والنفور والإصرار؛ فتأخذ النفس العزة بالإثم على نحو ما سبق، فالتعامل المؤثر ما كان دمثاً يفتح القلوب، ويشرح الصدور، فمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمؤمنون رحماء بينهم.
يروي معاوية بن الحكم السلمي قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أماه! ما شأنكم تنظرون؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ) كان الصحابة يصلون، وكان هذا الرجل لا يعرف أحكام الصلاة، وعطس رجل ومنهم وكان يعرف التشميت، فقال: يرحمك الله وهم يصلون، فاستغربوا وصاروا يرمقونه بأبصارهم فبهت، فجعل يخاطبهم في الصلاة وهم ينظرون إليه: (ما شأنكم تنظرون؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فعرفت أنهم يصمتونني -أي: يسكتونني- فلما رأيتهم يسكتونني سكتُّ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي ما ضربني ولا سبني، وفي رواية أنه قال: ما رأيت معلماً قط أرفق من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن )، وفي مدلولها أيضاً قصة الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد ...إلخ
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في هذا: "والمراد تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل، وكذا طلب العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حبب إلى من يدخل فيه، وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته دائماً في ازدياد بخلاف ضده".
وفي هذا يقول الإمام أحمد : "كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقومٍ يرون منهم ما يكرهون، يقولون لهم: مهلاً رحمكم الله".
ودعي الحسن البصري رحمه الله إلى عرس، فجيء بجامٍ من فضة -أي: قدح من فضة- عليه خبيص -والخبيص طعام من التمر والسمن- فتناوله فقلبه على رغيف فأصاب منه، أي: الطعام في إناء من فضة فأخذه وقلبه على الحصير وأبعد الإناء وصار يأكل. فقال رجل: هذا نهي في سكوت.. مجرد أنه أفرغ الطعام على هذا الرغيف وصار يأكل، معناه أنه لا يؤكل في هذا الإناء من الفضة، فكان هذا نوعٌ من اللباقة في الإنكار.
ويروى أن الخليفة المأمون وعظه واعظ فأغلظ عليه في القول، فقال: يا هذا! ارفق، فقد بعث الله من هو خيرٌ منك إلى من هو شر مني، وأمره بالرفق فقال تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43-44].
قال ابن بطال : المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلام، وترك الإغلاظ، وذلك من أقوى أسباب الألفة.. قال: وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه.
وفسرها بعض العلماء بأنها: معاشرة الفساق، وإظهار الرضا بما هم فيه من غيرٍ إنكارٍ عليهم.
والمداراة: هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق بالنهي -لأنك لا تقره على فسقه، لكن ترفق في الإنكار- عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولاسيما إذا احتيج إلى تألفه.. ونحو ذلك.
إذا تقرر هذا المعنى فهو الذي قد عناه الحسن البصري رحمه الله في قوله: كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول: هي كل العقل.
ومن الطريف -أيضاً- قول أبي يوسف رحمه الله في تعداد من تجب مداراتهم، فعد منهم: القاضي المتأول، والمريض، والمرأة، والعالم يقتبس من علمه، لا تنسوا أن تداروا نساءكم؛ لأن القاضي أبا يوسف عد المرأة مما ينبغي مداراته.
وأكثر ما تجري المداراة في اتقاء الأشرار والمكاره، وقد جاء في حكمة لقمان: يا بني! كذب من قال: إن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقاً فليوقد نارين ولينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى؟ وإنما يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار، وقد نُظم هذا المعنى في قول الشاعر:
وإذا عجزت عن العدو فداره وامزح له إن المزاح وفاق |
فالنار بالماء الذي هو ضدها تعطي النضاج وطبعها الإحراق |
قال الراوي: {فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
قال حاطب للنبي صلى الله عليه وسلم: والله ما بي ألا أكون مؤمناً بالله ورسوله، أي: والله إنني مؤمن، وصدَّقه النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه ضعف بشري.
فإذا عثر العالم، أو عثر رجل الدعوة، أو حتى رجل عادي من الناس؛ فمن المهم جداً إقالة العثرة، وأكثر ما أخذ الدعاة والجماعات والتجمعات الإسلامية هو نوع من التصنيف، إذا غلط من ليس من جهتهم أو إنسان آخر فإنها تكون سبة للدعوة، وهذا أسلوب لا يمكن أن يجتمع الناس بينما لو رأيتم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومسلك القرآن كما قلنا قبل قليل: ومنهم، ومنهم، ومنهم... حتى تكون هناك عودة، ولا يسمى لأنه طريق -فعلاً- لاسترجاع الناس، أما إذا وُسم الإنسان وشُهر به، أو ذكر بعينه، فلا يكاد: يمشي بين الناس إلا مكابراً، وإما أن يهلك، نسأل الله السلامة!
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـحاطب : {لقد صدقت ولا تقول إلا خيراً، أما علمت يا
إذاً: إقالة العثرة ليس إقراراً للباطل، ولكنها إنقاذٌ للواقع فيها، فحق لمن غلط أو زل أن يسمع كلمة صائبة، وأن يستضيء بشمعة أمل، من أجل أن يرجع إلى الجادة، ويسير مع الأخيار من الصحاب.
يمر أبو الدرداء رضي الله عنه على رجل قد أصاب ذنباً والناس يسبونه، فأنكر عليهم صنيعهم وقال لهم: [[أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم. قالوا: أفلا نبغضه؟ قال: إنما نبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي ]].
وكم عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن زلة، فعندنا -مثلاً- قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستلقٍ تحت شجرة ظلها كثيف، وكانوا راجعين من غزوةٍ، كما قال جابر في حديثه {فتركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم عليها سيفه، فجاء الأعرابي فأخذ السيف وخرطه، وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الله، فسقط السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني يا أعرابي؟ فقال: كن خير آخذ، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا. -هكذا مصارحة- قال: ولكني أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قومٍ يقاتلونك، فخلى سبيله } رواه البخاري .
فما قال: أمسكوه فإنه يريد قتل القائد، ويريد أن يقتل فلاناً من الناس.. فقضية مهمة وقضية كبرى، وهو يستحق القتل، لأنه شارع في القتل -كما يقال: شارع في الجريمة- ومع هذا قال: أتشهد أن لا إله إلا الله... ؟ قال: لا. ولكن لا أعين عليك، فخلى سبيله فذهب، فقال لقومه: جئتكم من عند خير الناس، وهذه تكفي في الدعوة، فهذه القضايا من السيرة مهم أن نقف عندها.
وطريق أنبياء الله عليهم السلام المذكور في القرآن مسلوك فيه النجدين: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً [نوح:1-4] كلها كلمات تنضح بالرقة والشفقة، وقال عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا [التغابن:8].. إلى أن قال: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التغابن:9].. إلى أن قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التغابن:10] بيان لطرفي الترغيب والترهيب.
إذاً: ترغيب لما وعد الله المحسنين في الدنيا، وحسن العاقبة في الآخرة.. وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف:13] وترهيب من وعيد الله وغيرته على حرماته، والخوف من أليم عقابه عاجلاً وآجلاً: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
أيها الإخوة! فلعله بملاحظة هذه المسالك وأمثالها يتحقق الخير، وترشد المسالك، وتؤتي الدعوة خيرها الكثير، والنفوس تملك قدراً كبيراً من التأهيل في قبول ما عند الدعاة، وهي تحب سماع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وتستفيد من المواعظ، وهي قريبة من الخير مستعدة له، فليفقه هذه السنن الدعاة إلى الله، وليحملوا الناس على توجيهات الشرع لا على جلبة الشارع -أي: السوق- وليجتنبوا المزالق والمنعطفات الخطيرة التي يتعمد أعداء الملة وضعها في الطريق.. وفق الله الجميع إلى سبيل الهدى، وأصلح الأعمال والمقاصد، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه وسلم.
أحبكم الله الذي أحببتموني فيه، وجعلنا الله وإياكم وإخواننا الحاضرين والمستمعين من المتحابين فيه.
السؤال: كيف يتعامل الداعي مع المستهزئين الذي يسخرون من الدين من جهة، ومن طيب الداعي وحسن تعامله ووصفه بأنه درويش أو لا يعيش الواقع، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: أظن أن الدعاة في هذا العصر ليسوا أول من استهزأ بهم، بل هذا هو شأن الأنبياء، وأنتم الدعاة المخلصون -إن شاء الله- ورثة الأنبياء، وأسوتكم الأنبياء، والذين يخالفونكم ويعاندونكم ويعارضونكم قد عارضوا من هو أفضل منكم، وما لاقى الأنبياء في كثيرٍ من مواطنهم إلا الاستهزاء والاستكبار والاتهامات العريضة.. ساحر، مجنون، حتى قال الله عز وجل لجميع الأمم: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذرايات:53] لما ذكر قصة إبراهيم، ثم موسى، ثم هود، ثم صالح، ثم نوح في سورة الذاريات، ثم جاء خطاب محمد صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:51-53].
إذاً: هذا مسلك يجب أن تعرفه، لابد أن تجد من يستهزأ، ولا بد أن تجد ممن يسميك درويش.. مغفل.. متحجر.. معقد، أما إذا كنت تريد طريقاً كما يقال بالتعبير المعاصر: مبسوطاً أو مفروشاً بالورود، فهذا لا يمكن: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214].
ولماذا اللين وإقالة العثرة؟
لأنك ستواجه أناساً، ولماذا كان الدعاة هم المنائر إلا لهذا السبب، أما لو كان كل من دعوته استجاب لما كان لك الفضل في أن يستجيب الناس، إنما فضلك الذي ترجو ثوابه عند الله أن تتحمل، ومهمتك هي البلاغ، والمشكلة والغلط أنك تظن أنك إذا دعوت فيجب أن يسمع هذا، ويفهم الناس ذلك.. فرسل الله عليهم الصلاة والسلام جميعاً ليس مهمتهم إلا البلاغ، ليس عليهم الهدى -بمعنى التوفيق والإلهام- أبداً، لا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضلهم ولا غيره.
والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، فليس مهمتك أن تقول لي: يا فلان! أصلح حالك، وإذا ما صلح تقول: أعوذ بالله هذا خبيث.. نعم أعوذ بالله، لكن مهمتك أن تبلغ، وحينما تبلغ لا يعني أنك تبلغ مرةً واحدة، بل تبلغ في كل حين، وليس مهمتك أن يهتدي الناس.
يا أخي! أولادك تربيهم عشرين سنة.. البيئة واحدة، والمدرسة واحدة، والأكل والشرب واحد، ويسكنون في بيت عشرين سنة، ومع ذلك.. هذا شمال وهذا جنوب، فيجب أن نفقه طبائع الناس، ونفقه دين الله عز وجل، وأن نستطلع مسالك الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن مهمتنا البلاغ والدعوة والتوصيل.
والمهم من هذا كله أن نكون على طريق صحيح، أما النتائج والثمار فليست إلينا أبداً، ليس علينا أن يهتدي الناس، علينا أن نترسم طريقنا، وأن نعرف أننا على الحق، ولا يكون ذلك إلا بمراجعة أنفسنا، والتذاكر فيما بيننا، والرجوع إلى أولي العلم والفضل منا.. نرجع إليهم ونراجع أنفسنا فقط، أما أن نفترض أن الناس يهتدون بقولنا، أو أن الإنسان إذا طلع على منبر وقال: أيها الناس! اتقوا الله؛ فتراهم يخرجون يبكون ويتركون كل شيء، هذا لا يمكن، ولا أن تلاقي استهزاءً وسخرية، هذا لا بد أن تفترضه.
الجواب: أنصحك بالاستمرار في الدعوة وهاجس الرياء لا تلتفت إليه، إنما هو مدخل من مداخل الشيطان، خاصة إذا كان يكتب الله على يديك خيراً كثيراً، فالرياء عليك أن تتقيه -بإذن الله- أولاً: بمعالجة الإخلاص بينك وبين الله، لأن الرياء والإخلاص أمر قلبي لا يراه الناس -بينك وبين ربك- فإذا اجتهدت في الإخلاص ولو قال لك الناس: إنك مرائي، ولو قال لك الناس كذا وكذا، فالرياء والإخلاص عمل قلبي، ومن هنا كانت الصعوبة، وكان تفاوت الناس في الدرجات والمنازل في الإخلاص؛ فإن الإخلاص عزيز جداً، حتى إن الناس قد يصلون في صف واحد، وقد يتقدم البعض والآخر يتأخر، ويمكن أن يكون المتأخر أرقى؛ لأن أكله حلال -وهذا غير منظور- ولإخلاصه وحسن توجهه، واجتهاده في الاتباع، وحضور قلبه؛ هذه كلها تؤثر في القبول.
إذاً: عليك أن تجتهد في الدعوة ما دام أن الله قد فتح لك بابها، أما هاجس الرياء فادفعه بالاستعاذة، والنظر في القضايا التي تظن أن فيها رياء.
إذا كان مثلاً في مسجد الحارة، فاذهب إلى قومٍ لا يعرفونك.. وإذا كنت تجد نشاطاً عند الناس، هذا -أيضاً- يمكن أن تُعالج نفسك في الداخل، فمثلاً بعض الناس قد يصلي ويكون نشيطاً أمام الناس، فإذا ذهبت إلى البيت فصلِّ نوافل، والذي تعمله أمام الناس اعمله سراً؛ لأن عمل السر أخلص كما هو معلوم، لكن لا تتوقف عن عمل العلانية؛ لأن فرائض الإسلام منها ما هو علانية لا بد أن يكون أمام الناس، وليس رياءً؛ كصلاة الجماعة، والتمسك بالسنة، وتقصير الثياب.. كلها أمور ظاهرة، بل الصدقة يمكن أن تكون سرية أو علانية.. إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] إذاً: هاجس الرياء قد يكون مدخلاً من مداخل الشيطان.
الجواب: أما البنوك الربوية فالأمر فيها ظاهر، كبنك الرياض، والبنك الأهلي وغيرها من البنوك الربوية، لكن الشركات التي أصلها استثماري في أعمالٍ مشروعة مباحة، فالأصل فيها الحل، وأنا لا أقول هذا من عندي، وإنما شيخنا عبد العزيز بن باز حفظه الله يفتي بهذا، وأنا في مثل هذا أعلن لكم أنني مقلد، وفي كثيرٍ من القضايا، بل كل ما تسمعونه مني ليس من عندي، وإنما أسمع ممن أثق به من أهل العلم فأقول بقوله، فالأصل فيها الحِل، إلا من تبين له شيء لم يتبين للناس، أو كان في نفسه شيء، فالورع هو الأفضل.
الجواب: عموماً الجهاد الأفغاني حينما ابتدأ لا شك أنه كان انطلاقةً انتشت لها الأمة، وأمة الإسلام أمة مجاهدة، وكان طريقاً -إن شاء الله- نحسبه سليماً وصحيحاً، وكانت الأمة متعطشة، ويجب أن نعرف هذا، وأن يعرف ولاة الأمور في كل بلاد إسلامية مثل هذا، وأن يعرفوا نفسيات الأمة وتطلعها ومصدر عزها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم } فحينما ظهر الجهاد تطلعت الأمة ورفعت رأسها، وكان طريقاً لعزها، وكان جهاداً في سبيل الله عز وجل، وتحمس العلماء والدعاة والشباب والناس لهذا، وكان هناك صدىً واسعاً والحمد لله، ونحسب أنه لا زال كذلك، لكن لا شك أنه حصلت خلافات قديمة ليست جديدة -كما تعلمون- واحتكاكات وصراعات، وحصل ما حصل، ومن آخرها هذه الفتنة الأخيرة، والتي كنت واحداً ممن ذهبوا، وهي فرصة للإنسان إلى أن يطلع عن كثب إلى الأحوال والوقائع، والذي يمكن أن يقال في هذا مع الأسف: إن الخلاف سنة ماضية في البشرية كلها وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118-119] ولكن المهم الذي يجب أن نبحث عنه هو كيفية الخروج من الخلاف؟ وإلا فالخلاف لا يمكن الخروج منه ولا بد أن يقع، لكن كيف نتحكم فيه؟
حينما ننظر في سيرة صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده؛ نجد أنه أثيرت فيهم قضايا كبرى أوشكت أن تهدد مصير الأمة، وأحياناً قد تدخل قضايا عقدية، فقد اختلفوا في الخلافة، ووصل الخلاف فيهم إلى شيء كبير، حتى إنهم في أثناء المناقشات وحينما قال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، وقال أبو بكر : أنتم الوزراء ونحن الأمراء، قال قائلٌ من الأنصار: أنتم قتلتم سعد بن معاذ ، وصل الحال إلى أن قال عمر رضي الله عنه: بل قتله الله، أي: مات ميتةً طبيعية، لكن أراد الله سبحانه وتعالى وقال عمر لـأبي بكر : ابسط يدك نبايعك، فبسط يده فبايعه فتتالى الناس حتى اتفقوا.
إذاً: الخلاف يحصل، لكن علينا أن نحتويه، هذا هو المهم، على معنى أن نحتوي آثاره، وقد اختلفوا في كتابة المصحف، فاحتووه وما انشقوا، وعلى الرغم أن بعض الناس ما كان يرى -مثلاً- رجحان إمامة أبي بكر ، ومع هذا سلَّم وبايع، وقد يرى بعض الناس رأي عمر في كتابة المصحف، حتى إنهم قالوا: نصنع شيئاً لم يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم! ومع هذا لما اتفق ساروا عليه، وما انشق أحدٌ، وما بدع وما فسق، وقال: هذا شيء لم يفعله وهذا خلاف.
وهناك قضايا كثيرة، والأوضح من ذلك قضايا كبرى تهم الأمة، مثل سواد العراق ، اختلفوا فيه حتى قيل لـعمر : انظر أمراً يسع المسلمين كلهم، فنظر عمر إلى ما نظر، ثم تبعه الناس، وما انشقوا عليه، وإن كانوا تفاوضوا واختلفوا ولكنهم ساروا مع رأي الإمام، وإن كان بعضهم يعتقد أنه مرجوح، وهذا مهم جداً، يجب -أيها الإخوة- أن تتنازلوا عن آرائكم ولو كانت في ظنكم راجحة، إذا كان في ذلك جمع الكلمة وما دام أنه في حدود، بل حتى ولو كان حقاً.
عائشة رضي الله عنها حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثها عن الكعبة ويريها أركانها، وقال: {إن قومك قد قصرت بهم النفقة فبنوه على غير قواعد إبراهيم، ولولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة ولأقمتها على قواعد إبراهيم } فترك هذا الأمر وهو حق وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد الفتح، وقد هدم الأصنام ولكن هذه تركها، قال العلماء: وفيه دليل على أن للعالم أن يترك أو يكتم ما هو حقاً في بعض الأمور إذا خشي على العامة. فالقضية خطيرة، وليست سهلة.
ومن هنا لا أقول لكم إلا ما قال شيخنا عبد العزيز بن باز حفظه الله، فالقضايا العامة التي تمس الأمة يجب أن يكون لنا رأي موحد يصدر عن جهة معينة موثوقة، والشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله أصدر في أول الأمر ما أصدر، ثم أصدر بعد ذلك ما أصدر، فيجب أن نتوحد، ولا يمكن أن نصل إلى شيء وإنما هو تشقيق ثم يصل إلى اتهامات، ولا يمكن أن يكون إلا هذا.
أنا لا أتكلم عن أفغانستان إنما أتكلم عن الذين هنا، فالأفغان فيهم ما فيهم، لكن لماذا ننقله هنا، بل -والله- إن الذي هنا أشد من الذي هناك من حيث نوع النقاش الذي يدور، فقبل أن أسافر وبعد أن جئت وأنا في مكة كان إخوة من الشباب الأفاضل يتحمسون ويصدرون ويتحدثون، فذهبنا هناك وكل ما لمسناه من الطرفين عندما استمعنا واجتمعنا وتحدثنا ونقلنا إلى كلا الطرفين ما يدور في الطرف الآخر، وكلٌّ نفى ما اتهم به بانت الحقيقة واتضحت، وإن كانت هناك اتهامات قد يكون لها أصل -وأنا لست في مقام التحقيق- وأيضاً يجب أن تعلموا حينما يكون هناك مصالحة أو نريد -فعلاً- عمل صلح لا يجب أن ندقق في النقاش، ولا يمكن أن نصل إلى هذا، ولجنة الصلح هي التي تدقق في القضايا التي يتصالحون عليها، أما حينما نصلح نحن هنا فعلينا ألا نغوص، لأننا إذا غصنا لا يمكن أن نصل إلى حل.
هذا الذي يمكن أن يقال في المقام، والحديث يطول.
الجواب: لاشك أن تغيير المنكر على درجات، فالمجاهر بالمعاصي أحياناً قد تستطيع أن تنكر عليه بيدك، فهذا لك أن تنكر عليه كما لو كان أخاك الأصغر، أو كان تحت إمرتك أو إدارتك أو في مصلحتك في مؤسسة، أو في بيتك أو عملك وأنت تستطيع.. كما لو كان مدير مدرسة، أو مسئولاً عن مصلحة، أو رئيس مصلحة، هذا قطعاً يستطيع أن يزيل المنكر، فهذا لا شك أنه يملك، أو كان صاحب واجهة، أو كان مسئولاً عن الحي، أو كان له وجاهة بحيث يستطيع أن يأمر لما له من جاه ويسمع منه، هذا لا شك أنه له أن ينكر بيده، وينكر بلسانه، وهذا مبذول لكل أحد، والمجاهر لا بد أن تواجهه وتنبهه؛ لكن أحياناً ترى المجاهر يعمل كثيراً من المعاصي لأول مرة، فالذي تراه لأول مرة لاشك أن حقه أن تلين القول معه.
نعم! أنت قد ترى في الشارع فلان بن فلان، لكن ترى كثيراً في معصية واحدة، ولا ترى إلا فرداً في شارع كذا وشارع كذا، عشرة منكرات أو منكر واحد في عشرة مواقع، وأنت تعلم أنك رأيت الموقع هذا لأول مرة، رأيته حينما تحدث صاحبه أو الواقع فيه، فعليك أن تنكر عليه بلفظك ولسانك، وإن كنت ممن ينكر باليد أو يملك ذلك بحكم سلطة أو موقع أو نحو ذلك فتنكر باليد ولا شك، ولا يسعك إلا هذا، وترتفع عنك المسئولية بهذا، أما إذا كنت غير ذلك فتنكر باللسان، وهذا موجود -ولله الحمد- في هذه البلاد، وإن كان دون ذلك فتنكر بالقلب.
الجواب: معلوم أن سبب البعثة في أصلها هي هداية الكفار؛ لأنها في بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً إلى خيبر ، وأعطاه الراية، وقال له: { والله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم } فأصلها في هداية الكفار، لكن الذي يبدو -والله أعلم- أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالأمر أوسع من ذلك، وفضل الله واسع.. والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر