عندنا الآن حديثان أو ثلاثة في موضوع دباغ الجلود:
الحديث الأول: وهو حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ).
وعند الأربعة: ( أيما إهاب دبغ -يعني- فقد طهر )، ولكنه ذكر القدر الذي اختلفت رواية مسلم فيه عن رواية الأربعة، وقد سبق مراراً من هم الأربعة.
هم أصحاب السنن: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه .
ثم ذكر رحمه الله حديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دباغ جلود الميتة طهورها )، وقال: صححه ابن حبان.
وحديث سلمة بن المحبق رضي الله عنه رواه أبو داود والنسائي وابن حبان -كما سبق- والبيهقي وأحمد وغيرهم، بلفظ قريب مما ساقه المصنف رحمه الله.
وقد تكلم في إسناد هذا الحديث:
فضعفه بعض أهل العلم كالإمام أحمد ؛ وذلك لأن في إسناده الجون بن قتادة الراوي عن سلمة، فالجون بن قتادة يروي عن سلمة بن المحبق هذا الحديث، فالإمام أحمد رحمه الله قال: لا أدري من الجون هذا. فكأنه عده مجهولاً .
وصححه بعض أهل العلم حيث إن يحيى بن معين وغيره وثقوا الجون هذا وعرفوه، وعده بعضهم من الصحابة؛ فلذلك صحح بعض أهل العلم الحديث، وممن صححه ابن حبان كما سبق، وصححه ابن حجر صراحة في كتاب: تلخيص الحبير، حيث قال: إسناده صحيح.
وصححه النووي أيضاً وقال: إسناده صحيح إلا أنه اختلف في الجون بن قتادة .
والغريب أن الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه في تلخيص الحبير، ذكر هذا الحديث والكلام في الجون بن قتادة، ثم حكم بالصحة للحديث بصحة الإسناد وذكر أن الجون معروف، وأن بعضهم عدوه في الصحابة، ثم في كتابه الآخر الشهير تقريب التهذيب ذكر الجون أيضاً، وقال: إنه لا تصح له صحبة، وإنما الصحبة لأبيه وهو مقبول، فصار عنده مقبولاً.
وقد سبق في مواضع في هذه الدروس أن المقبول ما حكم حديثه؟ المقبول في اصطلاح ابن حجر في التقريب ما حكم حديثه؟ هل يكون حديثه مقبولاً -يعني: صحيحاً أو حسناً- أو له حكم آخر؟
حكم حديث المقبول أنه ضعيف إلا إذا توبع. حيث بين ابن حجر هذا في المقدمة فقال: المقبول أي: حيث يتابع وإلا فلين الحديث، فالمقبول لين الحديث إذا لم توجد له متابعة، وبناءً عليه فكان ينبغي أن يكون حكم هذا الحديث على حسب هذا الاصطلاح، وكلام ابن حجر في الجون وأنه مقبول، أن يكون هذا الإسناد بمفرده ما حكمه؟ ضعيفاً. أن يكون هذا الإسناد بمفرده ضعيفاً، وإن كان قد يرتقي؛ لأن النسائي رحمه الله روى اللفظ نفسه عن عائشة رضي الله عنها ( دباغ جلود الميتة طهورها )، فبذلك يكون هذا شاهداً لحديث سلمة يرتقي به إلى درجة الحسن، هذا ما يتعلق بحديث سلمة بن المحبق وإسناده.
والقرظ: هو نوع من الشجر، وهو ورق شجر السلام، وهو يستعمل في معالجة الجلود ودباغها حتى تلين ويذهب ما بها من الرطوبة والنتن . فالمقصود: يطهرها الدباغ.
هذه الأحاديث الثلاثة تتعلق بحكم جلود الميتة إذا دبغت؛ ولذلك أدخلها المصنف رحمه الله في باب الآنية، لأن الجلود من الآنية التي يستعملها الناس في المياه.
الأولى منها: الإرسال أنه مرسل؛ لأن عبد الله بن عكيم مخضرم، والمخضرم: هو من عاش في الجاهلية وفي الإسلام ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معدود في التابعين، بعضهم يعد المخضرمين في التابعين، فـعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، فالحديث بناءً على هذا مرسل.
والعلة الثانية: الانقطاع، فإن عبد الرحمن بن أبي ليلى الذي روى حديث عبد الله بن عكيم لم يلقه، فالحديث على هذا منقطع أيضاً، وهذه علة ثانية.
العلة الثالثة: الاضطراب في سند الحديث، الاضطراب في السند، فإن عبد الله بن عكيم رحمه الله قال:
مرة عن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءنا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومرة أخرى قال: عن مشيخة من جهينة سمعوا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومرة ثالثة قال: عمن قرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أن المشيخة من جهينة، والذين قرءوا كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكونون صحابة، وقد يكونون كذلك من المخضرمين كـعبد الله بن عكيم .
العلة الرابعة: الاضطراب في متن الحديث، فقد جاء في بعض الروايات: (جاءنا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهرين)، وفي بعضها: (قبل أن يموت بشهر)، وفي بعضها: (قبل أن يموت بأربعين يوماً)، وفي بعضها: (قبل أن يموت بثلاثة أيام) وهذا اضطراب؛ ولذلك ترك الإمام أحمد هذا الحديث لما رأى اضطرابهم فيه.
وبعض أهل العلم يجيبون على هذه العلل فيقولون: إن ابن عكيم قرأ الكتاب، ورواه عن مشيخة من جهينة أيضاً، وليس في هذا تعارض، والاضطراب يعود إلى جزء من المتن، وهو المدة التي كانت بين وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وبين وصول الكتاب، ولا يعود إلى الأمر المتعلق بالمسألة وهو موضوع: (عدم الانتفاع من الميتة بإهاب ولا عصب)، ولكن على فرض أن الحديث صحيح فإنه يجاب عن استدلال هؤلاء بالحديث بجوابين:
الجواب الأول: أن يقال: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة أنه أذن بالانتفاع بجلود الميتة بعد دبغها، وورد هذا عن أكثر من سبعة عشر صحابياً, أو بعبارة أدق نقول: ورد في ذلك أكثر من سبعة عشر حديثاً، منها ثلاثة أحاديث عن أم سلمة رضي الله عنها، ومنها حديثان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ومنها حديثان عن ابن عباس رضي الله عنه، ومنها حديث عن سلمة بن المحبق كما مر، وعن ميمونة ومر أيضاً، وعن سودة، وعن جابر، وعن أبي أمامة، وعن المغيرة، وعن ابن عباس، وعن ابن عمر وغيرهم، أكثر من سبعة عشر حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الإذن بالانتفاع بجلود الميتة، فإذا أردنا أن نقارن أو نرجح أحد الطرفين أيهما أولى بالترجيح؛ الأحاديث السبعة عشر، أم حديث عبد الله بن عكيم على فرض صحته؟
لا شك أن الأحاديث السبعة عشر أولى بالترجيح إن كان ولابد من الترجيح، فهذا هو الوجه الأول: أن يقال بترجيح الأحاديث الواردة في التطهير بالدباغ.
الوجه الثاني: وهو أنسب وأحسن أن يقال: ليس بين الأحاديث تعارض، فالأحاديث السبعة عشر في جواز الانتفاع بجلد الميتة إذا دبغ، أما حديث عبد الله بن عكيم فهو في تحريم الانتفاع بجلد الميتة قبل الدبغ، ومما يؤكد صحة هذا المعنى: أن أهل اللغة كـالنضر بن شميل والجوهري وغيرهم فسروا الإهاب: بأنه الجلد قبل أن يدبغ. إذاً: فحديث ابن عكيم : ( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب )، أي: لا تنتفعوا من الميتة بجلد غير مدبوغ، وهذا مسلم. لا تنتفعوا من الميتة بجلد غير مدبوغ هذا هو الإهاب، وبهذه الطريقة تلتئم الأحاديث ويشد بعضها بعضاً، إذاً: هذا هو القول الأول، القول: بأنه لا يطهر جلد من جلود الميتة بالدباغ وهذا دليلهم.
أولاً: الحديث المتفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما حرم من الميتة أكلها )، ولابد من الانتباه لطريقة الاستدلال بالحديث ( إنما حرم من الميتة أكلها )، فوجه الشاهد والدلالة في الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف هذه الشاة بأنها ميتة، وهذا الوصف وصف مؤثر ومقصود، وبين أنه إنما حرم بموتها أمر واحد وهو أكلها، ولذلك وصفها بأنها ميتة ( إنما حرم من الميتة )، فوصفها بأنها ميتة ورتب على كونها بهذه الصفة حكماً: وهو أن يحرم أكلها، أليس هذا دليلاً على أن ما لا يؤكل أصلاً له حكم آخر؟ بلى. يدل بظاهره على ذلك، فنقول: ما كان حراماً أصلاً سواءً بالموت أو بالتذكية فلا يدخل في ذلك، فمثلاً سائر السباع والحيوانات التي لا يؤكل لحمها هل تفيد فيها الذكاة بحل لحمها؟ كلا لا تفيد، فبناءً على ذلك نقول: إن الحكم خاص بالميتة التي حرم أكلها لعارض وهو كونها ميتة، ولو ذكيت لما حرم أكلها، فمأخذ الاستدلال بالحديث لطيف ولابد من الانتباه له، فهذا الدليل الأول على التفريق بين مأكول اللحم وغيره.
نعيد مرة أخرى: قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما حرم من الميتة أكلها )، الرسول صلى الله عليه وسلم، وصف هذا الحيوان بأنه ميتة، ورتب على كونه ميتة حرمة الأكل منه، وحل الانتفاع بجلده بعد دبغه، فعلم بذلك أن الحيوان الذي هو محرم الأكل بكل حل سواء ذكي أو مات حتف أنفه أنه لا تفيد فيه الذكاة، ولا يدخل في هذا الحكم، هذا الدليل الأول لهم.
الدليل الثاني: ما رواه النسائي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهذا أيضاً يضاف للأحاديث الخمسة عشر أو الستة عشر التي ذكرت في الدباغ، حديث عائشة رضي الله عنها ما رواه النسائي عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن جلود الميتة: دباغها ذكاتها )، وفي لفظ: ( ذكاتها دباغها )، هذا الحديث يدل أيضاً على المعنى بوجه لطيف، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الدباغ لجلد الميتة مقام الذكاة، فكأنه صلى الله عليه سلم قال: إنك إذا دبغت جلد الميتة فكأنما ذكيتها ( دباغها ذكاتها )، والذكاة تفيد في مأكول اللحم بلا شك، لكنها لا تفيد فيما لا يؤكل لحمه، فدل على أن ما يؤكل لحمه ينتفع بجلده بعد الدبغ، وما لا يؤكل لحمه لا ينتفع به، هذا الدليل الثاني.
الدليل الثالث: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق عن معاوية بن أبي سفيان، وعن أسامة بن عمير الذهلي، وعن المقدام بن معدي كرب وغيرهم، في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن جلود السباع، وربما استأنس هؤلاء بأسباب ورود الحديث، وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة يجرونها، شاة لـميمونة أو لمولاتها أو نحو ذلك، وجميع الأسباب التي وردت فيها ذكر حيوان مأكول اللحم، فهذا قد يستأنس به على أن المقصود ما كان مأكول اللحم، وإن كان من المقرر عند الأصوليين أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه أدلة هؤلاء الأئمة على أنه يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم، وهذا القول هو أقوى الأقوال وأصحها؛ لقوة أدلته كما رأيتم، ولأن فيه جمعاً بين النصوص، فالواقع أن أصحاب هذا القول لم يهملوا نصاً واحداً من النصوص، فهم أعملوا نصوص تطهير جلد الميتة بالدباغ .. أعملوها في حدود مأكول اللحم، وهم كذلك أعملوا أحاديث النهي عن جلود السباع .. أعملوها في ما عدا ذلك، وبناءً على ذلك فهذا القول أقوى وأصح من غيره من الأقوال.
ومعنى ظاهراً لا باطناً، أي: أنها تطهر فيجوز استعمالها في الأشياء اليابسة، أما الأشياء الرطبة كالماء مثلاً والمائعات فلا تستعمل فيها؛ لأن باطنها نجس.
حجتهم حديث ابن عباس: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر )، وعند الأربعة: ( أيما إهاب دبغ )، فيقولون: هذا عام، الإهاب عام إذا دبغ الإهاب (وأيما إهاب) هذه نكرة في سياق الشرط فتعم كل إهاب، إهاب مأكول اللحم، وإهاب غير مأكول اللحم .. إهاب كلب .. إهاب خنزير؛ كلها تطهر عندهم بالدباغ.
فهذه سبعة أقوال مرتبة: أولها أضيقها، وهو الذي يقول: لا يجوز الانتفاع بجلود الميتة، لا جلد مأكول اللحم ولا غيره، لا قبل الدبغ ولا بعده، وآخرها وهو السادس أوسعها، حيث يبيح الانتفاع بجميع الجلود حتى جلد الكلب والخنزير، بل وذهب الزهري كما رأيتم وسمعتم إلى أن الدبغ ليس بلازم، بل ينتفع بالجلد وإن لم يدبغ، وأصح هذه الأقوال كما سبق هو القول الثاني: الذي يبيح الانتفاع بجلد مأكول اللحم إذا دبغ، هذه هي الأقوال المذكورة في حكم جلد الميتة.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر