اليوم السبت الأول من شهر جمادى الأولى من سنة (1425هـ)، ورقم هذا الدرس (73) من أمالي شرح بلوغ المرام، ضمن الدورة العلمية المكثفة الثالثة المنعقدة بجامع الراجحي ببريدة والذي ينظمها مكتب الدعوة.
عندنا اليوم ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول: رقم الحديث: (449) يقول المصنف رحمه الله تعالى: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته)، يقول: رواه النسائي وابن ماجه والدارقطني وإسناده صحيح، لكن قوى أبو حاتم إرساله.
وسند الحديث لابد منه؛ لأننا سوف نحتاجه قليلاً للتعليق على كلام المصنف في قوله: (إسناده صحيح، وقوى أبو حاتم إرساله) فقد رواه هؤلاء وغيرهم من طريق بقية بن الوليد، عن يونس الأيلي، عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر .. هكذا إسناده.. عن بقية بن الوليد، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر.
فهذا حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه عند النسائي أيضاً في الباب نفسه، وعند ابن خزيمة، والحاكم، والترمذي، وغيرهم، عن أبي سلمة عن أبي هريرة .
وهناك أيضاً أحاديث أخرى غير حديث أبي هريرة وغير حديث ابن عمر، هناك حديث مرسل: عن سالم بن عبد الله عن رسول الله، وسالم من التابعين، لا يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فيكون الحديث مرسلاً، وهو بمعنى حديث الباب، وقد ذكره النسائي أيضاً في سننه.
كما أن الباب نفسه: (باب من أدرك ركعة فليضف إليها أخرى) هذا الباب جاء فيه آثار عن جماعة من الصحابة منهم عبد الله بن عمر، يعني: من قوله هو وفتواه، وليس من روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما عند عبد الرزاق .. وغيره، وأثر آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه أفتى بنحو ذلك كما عند ابن أبي شيبة والبيهقي وابن المنذر .. وغيرهم، وعن أنس بن مالك عند ابن أبي شيبة وجماعة من الصحابة والتابعين الذين أفتوا بأنه إن أدرك ركعة أضاف إليها أخرى من صلاة الجمعة، وإن أدرك أقل من ركعة فإنه يصلي أربعاً، يتمها أربعاً.
المصنف رحمه الله قال هنا: إسناده صحيح، لكن قوى أبو حاتم إرساله.
أبو حاتم هذا هو: الإمام أبو حاتم الرازي محمد بن إدريس الحنظلي صاحب كتاب الجرح والتعديل، وهو من أعظم أئمة الحديث وخصوصاً في باب العلل.
ونقصد بالعلل: معرفة العيوب الخفية في الإسناد، يغوصون على العيوب الخفية في الإسناد، مثل: أن يكون الحديث حقيقته أنه مرسل فيغلط بعض الرواة -ولو كان ثقة- فيصله ويذكر صحابياً، أو أن يكون الحديث حقيقته أنه موقوف من كلام أحد الصحابة فيغلط بعض الرواة فيرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون الحديث من رواية صحابي فيغلط راوي وينسبه إلى صحابي آخر، أو يكون في الإسناد تدليس .. أو ما أشبه ذلك من العلل الخفية أو الظاهرة.
فهذا الباب يسمى باب العلل، وله أئمة مختصون من أشهرهم وأعظمهم أبو حاتم، وله كتاب مطبوع، وكذلك الدارقطني له كتاب مطبوع، والإمام أحمد والبخاري، والترمذي .. وغيرهم من الأئمة الذين تخصصوا في هذا الفن.
حتى إن من بعض ما يقولونه، يقول: لكي تعرف أنني أعرف علة الحديث اسألني ثم اذهب واسأل فلاناً وفلاناً من أهل الاختصاص، فإن وجدتنا اتفقنا على هذه العلة فمعنى ذلك أن الكلام صحيح، فنحن مثل الصيرفي -أو الجوهرجي- صاحب الذهب الذي إذا أتيته بالحلي قال لك: هذا مغشوش، بدون أن يحتاج إلى أن يعرِّضه لاختبارات، وإذا ذهبت إلى الثاني والثالث وجدتهم أطبقوا على هذا المعنى، فهكذا هؤلاء بحكم طول معاناتهم للسنة أصبح عندهم حدس وحاسة خفية يدركون بها بسهولة: أن هذا الحديث ليس على وجهه.
على سبيل المثال: حديث الباب الآن، قلنا: إنه من رواية بقية، وبقية رواه عن يونس عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر، فظاهر هذا الحديث أنه ليس فيه كلام، وأن إسناده صحيح، لكن بقية بن الوليد هذا مدلس، وما هو التدليس؟
التدليس هو أن يوهمك الراوي أنه روى هذا الحديث عن فلان، وهو لم يروه عنه مباشرة، وإنما بينه وبينه راوٍ آخر، فهو أسقط هذا الراوي أو طواه، فيقول مثلاً: عن فلان -ما قال: إنه حدثني فلان- بحيث تظن أنه أخذ منه، والواقع أنه ما أخذ منه مباشرة وإنما بواسطة.
فلو سألته: أنت سمعت من فلان؟ قال لك: لا، أنا سمعته ممن سمعه منه، فهذا تدليس!
لكن شر أنواع التدليس ما يسمى بتدليس التسوية.
تدليس التسوية: أن الشيخ أو الراوي يقوم على الإسناد فيحذف الرواة الضعفاء -وليس شيخه فقط- يحذف الرواة الضعفاء في الإسناد كله، سواءً شيخه أو من فوقه إلى الصحابي، يعني: ما بين الصحابي وما بينه هو، إذا وجد راوياً ضعيفاً في الإسناد حذفه، وحذف كلمة (حدثنا) وقال: عن فلان عن فلان عن فلان، فيطلع لك الإسناد ظاهره أنه صحيح.
بقية هذا ممن يدلس ويسوي كما يقول العلماء، يعني: يصنع تدليس التسوية، فلو سألت بقية، وقلت له: هذا الإسناد هل هو بهذا الشكل؟
قال لك: لا، حقيقته أنه فلان أن فلاناً حدثه، فلان ربما أتى باثنين أو ثلاثة من الرواة الضعفاء الذين طواهم وأبعدهم هو عن الإسناد.
وقد يقول قائل: لماذا يصنع هذا؟
أحياناً المنافسة بين الطلاب أو النقل أو ما أشبه ذلك، ليس المقصود أنه يدخل في السنة ما ليس منها؛ لأنه يعرف أن هذه الحيلة لن تنطوي، ولن يترتب عليها إثبات حديث ضعيف، وإنما لأنه لا يريد أن يظهر كما لو روى عن ضعفاء فيلغي هؤلاء ويعرف أن أهل العلم والفقه والخبرة سوف يكتشفون هذا الأمر ولن يأخذوا به.
فإذاً نقول: إن هذا الحديث فيه بقية بن الوليد وهو يدلس ومع التدليس يسوي، طيب!
وممن قال هذا أبو حاتم -كما أشار إليه المصنف- والدارقطني وأطال النفس في شرحه في العلل، وأيضاً العقيلي في الضعفاء وابن عدي في الكامل، والحافظ ابن حجر كما في كتابه التلخيص الحبير .. وغيرهم من أهل العلم.
أيضاً أبو حاتم ابن حبان صاحب الصحيح، كلهم ذكروا أن الحديث غلط في السند وغلط في المتن.
أما الخطأ في السند فيقولون: إن الصواب أن الحديث ليس من رواية الزهري عن سالم، عن ابن عمر، يقولون: لا، وإنما الصواب أن الحديث من رواية الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة هذا الصواب.
ولعل اللبس هنا حصل بسبب أثر مروي عن ابن عمر، فقد ذكرنا لكم قبل قليل: أن الحديث جاء عن ابن عمر من فتواه هو، فقد يكون التبس عند الراوي الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالفتوى المنسوبة إلى ابن عمر فجعل مكان الموقوف المرفوع ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حقه أن يقفه على ابن عمر، هذا ما يتعلق بالسند.
إذاً: الصواب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة .
أما ما يتعلق بالمتن: ففيه خطأ أيضاً، فإن متن هذا الحديث -كما ذكره المصنف هنا وغيره- متنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها، فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته ).
والعلماء يقولون: إن ذكر (صلاة الجمعة) هنا ليس صحيحاً ولا محفوظاً؛ يعني: ليس هو المرفوع الصحيح الثابت عند أهل العلم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليس محفوظاً.
وإنما المحفوظ: قلنا بالنسبة للإسناد عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، المحفوظ هنا: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، وهذا القدر صحيح، وسبق أن شرحناه، وهو لا يتعلق بصلاة الجمعة وإنما يتعلق بالوقت: أنه من أدرك ركعة من العصر، -مثلاً- قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك صلاة العصر، ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك صلاة الفجر، وحديث أبي هريرة هذا في مسلم وغيره.
إذاً: عرفنا أن الحديث فيه خطأ في الإسناد وفيه خطأ في المتن، والصواب ما ذكرناه عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، ولم يذكر فيه الجمعة، فذكر الجمعة هنا في الحديث غير محفوظ.
هذا ما يتعلق بتخريج الحديث والكلام على إسناده.
وقوله: (قوى إرساله) الإرسال: هو ما يرويه التابعي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يذكر فيه الصحابي، مثل أن يقول -مثلاً- سالم أو غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نعلم أنه لم يلقَ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروِ عنه مباشرة، وإنما بينه وبينه صحابي، وقد يكون بينه وبينه أيضاً تابعي ولم يذكره.
أو بشكل أفضل دعنا نقول: في الحديث مسألة، وهي: بماذا تدرك صلاة الجمعة؟
هذه المسألة أهم ما فيها ثلاثة أقوال للعلماء:
القول الأول: أنه كما دلّ عليه ظاهر حديث الباب، أن الإنسان إذا أدرك من صلاة الجمعة ركعة أضاف إليها ركعة أخرى وقد تمت صلاته، وإن أدرك أقل من ركعة فإنه يتمها ظهراً أو يتمها أربعاً، أي: من غير استئناف، ولا يحتاج الأمر إلى نية خاصة .. أو ما شابه ذلك، هذا هو القول الأول وهو مذهب الجمهور، فهو مذهب مالك رحمه الله، والشافعي، وأحمد، ومحمد من الحنفية، وبه قال أكثر العلماء، حتى إن ابن المنذر رحمه الله نسب هذا الحديث إلى جماعة من الصحابة، مثل: ابن مسعود -وذكرنا أثر ابن مسعود - وابن عمر أيضاً -وذكرنا أثر ابن عمر - وأنس -وأشرنا إلى أثر أنس في هذا الباب- وهو مذهب جماعة من التابعين كـسعيد بن المسيب، والأسود، وعلقمة، والحسن، والنخعي، والزهري، ومذهب جماعة من الفقهاء كمن ذكرنا، والأوزاعي إمام أهل الشام، وغيرهم.
والترمذي رحمه الله في صحيحه قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، يرون أنه إن أدرك ركعة أتم إليها أخرى، وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً.
استدل هؤلاء بأدلة:
أولاً: حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة : ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ).
وفي لفظ: ( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر ).
ودلالة هذا الحديث عندهم ظاهرة، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأن إدراك ركعة إدراك للصلاة سواءً في ذلك إدراك وقت الصلاة، أو إدراك حكم الصلاة، أو إدراك فضيلتها.
فدل ذلك على أنه إذا أدرك من الجمعة ركعة واحدة فقد أدرك فضيلة الجمعة -فضيلة الصلاة- وأدرك حكمها بحيث إنه يصليها ثنتين، وأدرك وقتها من باب أولى، فهذا الدليل الأول.
الدليل الثاني: حديث الباب، وهو صريح في المسألة بأنه إذا أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الجمعة.
ودلالته ظاهرة، لكن يشكل على استدلالهم به ما قلناه: من أن ذكر الجمعة في الحديث غير محفوظ، فيرجع هذا الدليل للدليل الأول.
الدليل الثالث لهم على هذا وهو في نظري دليل قوي: ما نقل عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، كما نقلناه عن ابن عمر رضي الله عنه، وجاء عنه بأسانيد صحيحة عند عبد الرزاق .. وغيره: [ أن ابن عمر رضي الله عنه أفتى: بأن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى ].
وهكذا أنس رضي الله عنه، يقول: [ إن أدركهم جلوساً في صلاة الجمعة صلى أربعاً ]، وحديث أنس عند ابن أبي شيبة وغيره.
وابن مسعود رضي الله عنه نقل عنه أثر في هذا بنحو ما سبق: إنه إن أدرك ركعة صلى اثنتين، وإن أدرك أقل من ذلك فليتمها أربعاً، وحديثه عند عبد الرزاق .. وغيره.
وعمران بن حصين أيضاً له أثر صحيح عند عبد الرزاق : (أن رجلاً سأله وقال له: كيف ترى في رجلٍ فاتته صلاة الجمعة؟ فقال له عمران : لِمَ تفوته صلاة الجمعة؟ فانصرف الرجل كأنه استحيا، فقال عمران رضي الله عنه: أما أنا فلو فاتتني صلاة الجمعة لصليت أربعاً).
إذاً: الدليل الثالث، نستطيع أن نقول: إن الدليل الثالث هو الآثار المنقولة عن جماعة الصحابة، وهي آثار غالبها بأسانيد صحيحة، ولا شك أنهم عملوا بهذا بناءً على فهم صحيح أو سماع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
القول الثاني في المسألة: هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، قال: إنه إذا أدرك التشهد مع الإمام في صلاة الجمعة فقد أدرك الجمعة، يعني: إذا أدرك مع الإمام أقل وقت أو أقل قدر من الصلاة فإنه يتمها ركعتين، حتى قالوا: لو أنه أدركه وهو في آخر سجود السهو -مثلاً- فإنه يتم بعده ركعتين فقط.
فإذا أدرك أقل قدر من الصلاة مع الإمام من صلاة الجمعة أتمها ركعتين، وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف والحكم وحماد بن أبي سليمان .. وغيرهم.
وحجة الحنفية على ما ذهبوا إليه: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ( فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا -أو فاقضوا- ).
وهذا أقوى دليل لهم، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر من فاته شيء من صلاته أن يتمه أو يقضيه، وكما يقول الفقهاء: القضاء يحكي الأداء.
ومعنى (القضاء يحكي الأداء) أن الإنسان يقضي الشيء على صفته، إذا قلنا: اقضِ هذا العمل فهو مثلما تؤديه لو أديته في وقته ومناسبته تماماً.
فبناءً على ذلك قالوا: كم فاته من صلاته؟
ركعتان، صلاة الجمعة فاته منها ركعتان، فنقول: يقضي ركعتين أيضاً من دون زيادة، هذا استدلالهم بالحديث، وبطبيعة الحال فإنهم ضعفوا أحاديث الباب كما أشرنا.
القول الثالث في المسألة: أن من فاتته خطبة الجمعة صلى أربعاً حتى لو أدرك الصلاة من أولها مع الإمام وأدرك تكبيرة الإحرام.
وهذا القول منسوب لبعض السلف كـمكحول وعطاء وطاوس ومجاهد .. وغيرهم.
وهذا القول اندرس حتى لا يكاد يوجد من قال به من أهل العلم.
لكن حجتهم قالوا: لأن الخطبتين مقام ركعتين، يعني: صلاة الظهر أربع، وصلاة الجمعة ركعتان وخطبتان، فقالوا: إن الخطبتين مقام الركعتين، فإذا فاتته الخطبتان فلا تجزئه الركعتان من صلاة الجمعة.
واحتجوا لذلك أيضاً: بأن الإجماع منعقد على أن الإمام لو لم يخطب، يعني: لو لم يوجد خطيب أن الناس يصلون ظهراً، فقالوا: كذلك إذا فاتته الخطبة فإنه يصليها أربعاً.
وما ذكره هؤلاء الأئمة مرجوح ومحجوج بما ذكرناه قبل قليل من الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والفتاوى الصحيحة الثابتة عن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
ولذلك نقول: إن القول الراجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، ونقلت فيه الفتوى ولم ينقل مخالف من الصحابة فيما أعلم لذلك: أن من أدرك من صلاة الجمعة ركعة واحدة أضاف إليها أخرى -ركعة ثانية- ومن أدرك أقل من ركعة فإنه يتمها أربعاً، وهذا فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة ).
ونحن نقول: إن هذا الحديث عبارة عن قاعدة عامة: أن من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة، وهذه القاعدة يندرج تحتها عدد من المسائل:
مثلاً: يندرج تحتها أنه لو أدرك ركعة من صلاة الفجر قبل طلوع الشمس، فنقول: إنه حينئذٍ يكون صلى صلاة الفجر في وقتها، وهكذا لو أدرك ركعة من صلاة العصر قبل غروب الشمس، فإنه يكون أدرك صلاة العصر في وقتها.
كذلك من أفراد هذه المسألة: أنه لو أدرك ركعة من الجماعة مع الإمام -يعني: أدرك الركعة الأخيرة والإمام راكع- فإنه حينئذٍ يكون قد أدرك فضيلة الجماعة، وأدرك مع الفضيلة حكم الجماعة، لاحظ الفضيلة والحكم، ما هو الفرق بين الفضيلة والحكم؟
الفضيلة هي الأجر المترتب على إدراك الجماعة والحكم، أي: حكم الصلاة.
مثلاً: الفضيلة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين أو سبع وعشرين درجة )، فهذه يدركها الإنسان، ليس فقط بالركعة، يدركها ولو بأقل قدر مع الإمام، يعني: لو جئت للإمام قبل أن يسلم ينتظر ويرجى أن تكون أدركت سبعاً وعشرين، أدركت الفضيلة.
لكن الفضيلة غير الحكم؛ فالحكم معناه: أن يكون حكمك حكم الإمام سواء بسواء، مثلاً: إذا كان حكمك حكم الإمام، والإمام صلى الجمعة ركعتين، فأنت تصلي ركعتين مثله، لكن إذا أدركت أقل من ركعة في صلاة الجمعة مع الإمام تدرك الفضيلة لكن لا تدرك الحكم، فيلزمك أربعاً.
وأنا أرى أن هذا الكلام يصلح أن يعمم على مسألة المقيم والمسافر -كمثال- وهذا هو المثال الثالث.
يعني: افرض أنك مسافر وصليت خلف إمام مقيم، يعني: هذا نقل عن جماعة من الأئمة ومالك .. وغيرهم رحمهم الله، قالوا: إنه إذا أدرك ركعة مع الإمام حكمه حكم الإمام، فإذا كان الإمام مقيماً -مثلاً- فيلزمك أن تكمل الصلاة كلها ولو كنت مسافراً، إذا كانت صلاة الظهر وأدركت مع الإمام ركعة فيلزمك أن تأتي بثلاث، إنما لو أدركت أقل من ركعة، أدركت التشهد وأنت مسافر كم تقضي؟
اثنتين، ولا يلزمك أربعاً، يلزمك ركعتين، طبعاً هذا قول، وهو أحد الأقوال في المسألة، وأنا سبق أن بحثت في المسألة، وربما أنا أقول بهذا، بل أقول بما هو أبعد منه في موضوع السفر، وهو: أنه إن أدرك ركعتين تكفيه، وإن أدرك أقل من ذلك أكمل ركعتين.
يعني: لو كنت مسافراً وصليت خلف إمام مقيم، فإن أدركت الصلاة من أولها -ولتكن صلاة العصر مثلاً- إن أدركت الصلاة من أولها يلزمك أربع، هذا واضح، وهو مذهب الجماهير.
الحالة الثانية: لو أدركت ركعتين، كأن أدركت الإمام وهو قائم من التشهد الأول كم يكون أدركت معه؟ ركعتين فقط وأنت مسافر، كم صلاتك؟ ركعتان.
فالذي أختاره: أنه تكفيك الركعتان؛ لأن هذه صلاة المسافر، وأنت لم تختلف مع الإمام، أدركت اثنتين وصليت معه.
الحالة الثالثة: لو أدرك ركعة واحدة، في الحالة هذه تضيف إليها أخرى.
طيب! لو لم يدرك إلا التشهد؟ طبعاً، هذه تكون أشد وضوحاً: أنه في الحالة هذه ليس لك حكم الإمام، وبالتالي فلا إشكال -إن شاء الله- أنك تصلي ركعتين فقط؛ لأنه لا يشملك حكم الإمام في كونه مقيماً وأنت مسافر.
المهم: أن نفرق بين الفضيلة وبين الحكم، هذا هو المقصود في المسألة.
وبكل حال: فالذي نختاره في موضوع صلاة الجمعة هو ما عليه الجمهور وفتيا الصحابة كـابن عمر وابن مسعود وعمران بن حصين وأنس بن مالك .. وغيرهم، وجمهور التابعين كما نقل عنهم، وأكثر الأئمة كـمالك والشافعي وأحمد ومحمد وابن المبارك والأئمة، ونقله الترمذي عن أكثر الفقهاء والعلماء: أنه إن أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى، وإن أدرك أقل من ركعة فإنه يصليها ظهراً، يصليها أربعاً.
وأما فوائد الحديث فهي لا تخرج عما ذكرنا.
ورواه أيضاً في الباب نفسه أبو داود وابن ماجه والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وعبد الرزاق والبيهقي والطيالسي والطبراني وأبو يعلى .. وغيرهم، ورواه أحمد في مسنده، وهو كما ذكر المصنف من إخراج مسلم فهو حديث صحيح.
فقد رواه الشيخان البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه، ورواه مسلم أيضاً عن كعب بن عجرة، وله شاهد أيضاً عن ابن عباس عند ابن أبي شيبة .. وغيره.
كما له شواهد من آثار الصحابة رضي الله عنهم في الخطبة قائماً، كالأثر عن أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة وغيره.
فقوله: (أنه كان يخطب قائماً ثم يجلس)، المقصود بالجلسة هنا: الجلسة بين الخطبتين.
قال: (ثم يقوم فيخطب قائماً) يعني: الخطبة الثانية.
(فمن أنبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب) يعني: أخطأ، معنى قوله: (كذب) أخطأ، وهذا معروف في لغة أهل الحجاز، وكأن جابراً رضي الله عنه كان يرد على بعض من كانوا يخطبون قعوداً من بني أمية، فإنه ورد أن أول من خطب قاعداً معاوية بن أبي سفيان، وكان معذوراً في ذلك، حيث ثقل جسمه وكبر سنه، وقيل: إن عثمان رضي الله عنه خطب قاعداً، وقيل ذلك عن بعض ولاة بني أمية.
مسلم رحمه الله ذكر الحديث عن جابر وقال: [ فمن أنبأك أنه كان يخطب قاعداً فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة ]، يعني: ألفي جمعة معكم آلة حاسبة حتى نرى كم تكون ألفا جمعة.
أنا حسبتها حوالي أربعين سنة؛ لأن ألفي جمعة، يعني: الجمعة في سبعة أيام، اضرب ألفين في سبعة كم عدد الأيام؟
أربعة عشر ألف يوم -لو قلنا: جمعة يعني- فأربعة عشر ألف اقسمها على ثلاثمائة وستين التي هي السنوات، تطلع عندك تقريباً ثماني وثلاثين أو قريباً من هذا.
ألفا جمعة تستغرق -فيما يبدو لي وإن كنت على عجل- سنين طويلة جداً يستحيل أن يكون جابر يقصد ألفي جمعة، لا! وإنما يقصد ألفي صلاة عادية، فكأنه يقول: أنا كثير الملازمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما الجمعة فهو لا يقصد ألفي جمعة، وإنما يقصد أنه من الناس الذين كانوا يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم ويعرفون سنته وهديه.
وقد يجوز على احتمال أن يكون مقصوده أنه شهد معه خطباً كثيرة بهذا القدر أو قريباً منه من خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل في ذلك خطب الجمعة، وخطب العيدين، وخطب الكسوف، وخطب المناسبات، والاستسقاء .. وغيرها من الأشياء التي كان يخطب فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان يخطب في مناسبات كثيرة جداً، وهذا يظل احتمالاً وليس بالقوي.
فالأقوى عندي أنه يقصد الصلوات، ما قال: أكثر من ألفي جمعة، الصلوات العادية، هذا فيما يتعلق بألفاظ الحديث.
فالحديث فيه أكثر من مسألة فقهية:
المسألة الأولى: حكم خطبة الجمعة، هل هي لازمة أو سنة؟
والمسألة فيها قولان:
القول الأول: وهو مذهب جمهور الفقهاء؛ مذهب الحنابلة والشافعية والأحناف وجمهور المالكية وهو الصحيح أيضاً عند المالكية: أن خطبة الجمعة شرط لصحة الصلاة، أو شرط لإقامة الجمعة، وهذا القول حكى بعض العلماء الإجماع عليه إلا قولاً منسوباً للحسن البصري .
وأدلة هذا القول الذي هو قول الجمهور في أن الخطبة شرط للجمعة كثيرة منها: قوله سبحانه: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، وذكر الله قد يكون المقصود به الخطبة أو الصلاة أو هما معاً، ولاشك أن الدلالة من الآية تكون من وجهين:
الوجه الأول: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالسعي إلى ذكر الله والذي منه الخطبة، ولا يكون السعي واجباً إلا إلى واجب، هذا أولاً.
الوجه الثاني: قوله: وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، فإن الأصل أن البيع مباح، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]، فلا ينهى الله سبحانه وتعالى عما هو مباح ويحرمه إلا لأنه يترتب عليه ترك ما هو واجب أيضاً، فلما نهى الله تعالى عن البيع دل على وجوب الاستماع إلى الخطبة ووجوب إقامتها، هذه الدلالة من الآية.
يوجد أيضاً دليل ثالث من الآيات: وهو قول الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11]، وهذا لا شك أنه على الخطبة، فعاتب الله الصحابة، وعاب من ذهب إلى البيع وترك الخطبة، ولا يعاب ويذم إلا على ترك واجب.
إذاً: هذا دليل للجمهور على مسألة وجوب الخطبة وشرطيتها.
أيضاً من الأدلة: التواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه كان يخطب الجمعة كما في حديث جابر وحديث ابن عمر .. وغيرهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب، وفي بعضها: ( كان يخطب قائماً ).
ومنه حديث جابر السابق في سبب نزول الآية .. وغيره.
فكل هذه الأشياء تدل على الاتفاق على أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يخطب لصلاة الجمعة، ومحافظة النبي صلى الله عليه وسلم على الخطبة قالوا: دليل على وجوبها.
ونحن نقول: إن المحافظة ليست بذاتها وبمفردها دليلاً على الوجوب إلا إذا كانت بياناً لواجب، فالاستدلال بمجرد محافظة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس قوياً.
ومن الأدلة أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وهو كان يخطب خطبتين قبل الصلاة.
ويمكن أن يعكر على هذا الدليل بأن نقول: إن الخطبة ليست صلاة.
من الأدلة: آثار عن جماعة من الصحابة، كالأثر عن عمر رضي الله عنه عند عبد الرزاق أنه قال: (خطبة الجمعة موضع الركعتين)، وهكذا روي عن عائشة نحو هذا المعنى، والأثر هنا عنهم ضعيف.
إذاً: القول الأول مذهب الجمهور أن الخطبة شرط لصحة الصلاة، وهذه أدلتهم.
القول الثاني: أن الخطبة لصلاة الجمعة سنة وليست بواجبة، وهذا مذهب الحسن البصري كما ذكره عنه صاحب الحاوي وغيره، قالوا: وشذ الحسن البصري عن الجماعة فلم يوجب خطبة الجمعة، وهو أيضاً مروي عن مالك وإن كان خلاف الصحيح وخلاف المشهور عند المالكية، وبه قال ابن حزم رحمه الله؛ أن الخطبة سنة.
طبعاً! أدلتهم على ذلك قالوا:
إن الجمعة تصح ممن لم يحضر الخطبة، يعني: من لم يدرك الخطبة وأدرك صلاة الجمعة، فدل ذلك على أن الخطبة ليست واجبة.
ولا شك أن هذا الدليل ليس جيداً؛ لأننا نقول: الخطبة فرض أن تقام، وفرضية إقامتها لا تعني فرضية استماعها على الأعيان إلا على من حضر الخطبة، فلا يلزم من كون الإنسان يكتفي بركعتين دون سماع الخطبة أنه يجوز أن لا تقام الخطبة أصلاً، بل لا جمعة إلا بخطبة.
ولذلك نحن نرجح ما ذهب إليه الجمهور من أن خطبة الجمعة شرط لإقامة الصلاة؛ وذلك لقوة أدلتهم وصحتها وسلامتها من المعارضة.
أيضاً المسألة فيها تقريباً قولان أو ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن القيام شرط لمن قدر عليه، وهذا قول الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد حتى يرون أنه لو لم يقم وهو قادر أنها لا تجزئه الخطبة، والنووي -رحمه الله- في المجموع نقل عن ابن عبد البر : إجماع العلماء على القيام للخطبة لمن قدر على ذلك، لكن ابن عبد البر لم يذكر القيام هل هو شرط أو ركن أو واجب أو سنة، وإنما ذكر القيام للخطبة لمن أطاق ذلك وقدر عليه، ونسب القرطبي هذا القول لجمهور الأئمة والفقهاء.
وأدلتهم: قوله تعالى: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11].
وقول جابر رضي الله عنه: ( كان يخطب قائماً )، كما في حديث العيد، وقول جابر بن سمرة رضي الله عنه هنا: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً ثم يجلس )، وتواتر هذا النقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
القول الثاني: أن القيام للخطبة سنة، وهذا مذهب الحنفية وبعض المالكية، وهو قول شاذ أو ضعيف عند الشافعية، وهو الرواية المشهورة عند الحنابلة، فكأن القول بالسنية مذهب أكثر الأئمة المتبوعين تقريباً؛ لأنه مذهب أبي حنيفة، ورواية مشهورة عن أحمد، وهو أيضاً مذهب بعض المالكية، ورواية شاذة عند الشافعي .
ودليلهم قالوا: لأن القيام صفة للخطبة، والهدف والغرض منه أن يسمع البعيد صوت الخطيب، وإذا تكلم الخطيب ووعظ فقد أدى ما وجب عليه، والناس يأتون لسماع الخطبة وليس لكون الخطيب يكون قائماً أو قاعداً.
ولا دليل على الأمر بالقيام، وإنما غاية ما جاء في شأن القيام هي عبارة عن أفعال، يعني: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11]، هذا فعل: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً )، هذا فعل، لكن لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: من خطب فليقف -مثلاً- بحيث يكون هذا واجباً متعيناً.
القول الثالث: أن القيام واجب، ولو تركه أساء وأجزأته الخطبة، وهذا قول أكثر المالكية.
ونحن نرجح القول الثاني: أن القيام للخطبة سنة، وأنه لو خطب قاعداً أجزأه ذلك، خصوصاً إذا كان قعوده لسبب كما ذكرنا مثل: أن يكون مريضاً أو نحو ذلك.
القول الثالث: أنه واجب، وإن تركه أساء وأجزأته الخطبة والصلاة، وهذا مذهب أكثر المالكية كما قلنا.
إذاً: الأول يرون أنه شرط، الأول يقولون: شرط، طبعاً الشرط أقوى من الواجب، الشرط معناه أنه لو خطب قائماً من غير عذر لا يجزئه ذلك ويلزمه الإعادة -مثلاً- أو كأنه لم يخطب.
ونحن نرجح أنه سنة لعدم الدليل؛ لا على الشرطية ولا على الوجوب، ولكن اتباع سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم! ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة )، رواه مسلم .
وفي رواية له -يعني: لـمسلم - : ( كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك وقد علا صوته -يعني: يقول: خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي رواية له: ( من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له )، وللنسائي : ( وكل ضلالة في النار ).
ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد ذكر فصلاً عن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة وهديه في الخطبة، وفيه كلام جميل لا بأس أن نذكره بمناسبة حديث جابر.
يقول ابن القيم رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم نقل عنه أنه كان يخطب على المنبر، ويخطب على الأرض، ويخطب على بعير كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وغيره، ويخطب على منبر من الطين بني له، ويخطب على منبر من الخشب، وخطب على نبع من النخل.
ونقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يخطب خطبة إلا استفتحها (بحمد الله تعالى)، وغالب خطب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تستفتح بخطبة الحاجة المشهورة التي ورد طرف منها في صحيح مسلم : ( إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه )، وهذه الخطبة جعلها بعض الفقهاء للنكاح فقط، وقد يكون ذلك، وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بها أحياناً خطبه، لكن لم يرد نص في أنه صلى الله عليه وسلم كان يلتزم هذه الصيغة في جميع خطبه، ولو كان يلتزمها دائماً لنقلت لنا نقلاً كثيراً، وإنما كانت هذه إحدى الصيغ -والله أعلم- التي كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بها في خطبه.
ومن ذلك أنه كان يخطب قائماً كما في حديث جابر بن عبد الله وحديث جابر بن سمرة، وقد يقال في بعض الآثار: إنه خطب قاعداً، ولكن هذا إن صح فهو في غير صلاة الجمعة.
غالب خطب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تدور حول الوصية بتقوى الله تعالى، وشرح كتاب الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والترغيب في الجنة والتحذير من النار، وبيان الأحكام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في كل مناسبة بما تقتضيه حال المخاطبين، كما يكون -مثلاً- في حال الحرب كان يخطب صلى الله عليه وسلم بما يناسب هذا المقام، وإذا جاء مجاعة كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ويأمر الناس بالصدقة والإنفاق من مالهم، من دينارهم، درهمهم، صاع بر، صاع تمر، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ( .. ولو بشق تمرة )، وإذا كانوا في حال خوف خطبهم بمثل ذلك، وهذا معروف من هديه عليه الصلاة والسلام.
وكان منبر النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاث درجات على ما هو معروف، وكان صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر سلم على الناس، ثم أخذ المؤذن في الأذان، ثم قام صلى الله عليه وسلم وخطب ثم قعد -قعدة خفيفة- وقام بعد ذلك للخطبة الأخرى، فكان يفصل بين الخطبتين بقعدة خفيفة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوكأ على عصا أو قوس أو غيره في الخطبة، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم: أنه توكأ على سيف كما زعمه وظنه بعض الجهلة، وهنا كان لـابن القيم تعليق لطيف جداً، يسرني أن أنقله لكم تقريباً بنصه، يقول رحمه الله: كثير من الجهلة تظن أنه كان يمسك السيف على منبره إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف، يقول: وهذا جهل قبيح -يا سلام على ابن القيم !- جهل قبيح، من وجهين:
أولاً: المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم: توكأ على العصا والقوس -يعني: وليس على السيف-.
ثانياً: قال: إن الدين إنما قام بالوحي وليس بالسيف، وكان السيف لمحق أهل الضلال والشرك.
يعني: لم يكن الجهاد هدفاً وغاية وإنما كان وسيلة.
وهذا الكلام أنا فرحت به؛ لأنني كثيراً ما كنت أجادل بعض الشباب -هداهم الله- في مثل هذا، وربما ذكرت لبعضكم أنه يوماً من الأيام جاءني أحد الشباب مزهواً مندفعاً يرى أنه قد أمسك الحقيقة بيمينه، وقال لي: إنني منذ كنت طفلاً في المرحلة المتوسطة وأنا أقول: لا عز ولا حل إلا بالجهاد، فقلت له: هداك الله؛ هل هذا حديث أو آية؟ قال: لا، لكن هذه حقيقة لا يجادل فيها أحد.
قلت: أنا أول من يجادل فيها، هذا غلط، ولو أنك قلت: لا حل إلا بالإسلام لكنت مصيباً، فأنت أخذت ببعض الكتاب وتركت بعضه، دعنا من فهمك للجهاد ما هو، هذا موضوع آخر! لكن حتى الجهاد الشرعي الذي لا يختلف اثنان في أنه جهاد شرعي يحبه الله ويرضاه من الخطأ أن نقول: لا حل إلا به، وإنما نقول: الحل هو بالإسلام بكل أحكامه وكل شرائعه وكل تعاليمه، والجهاد ليس إلا فريضة واحدة، حتى إن كثيراً من الرسل لم يبعثوا بالجهاد أصلاً، وإنما بعث جميع الرسل بماذا؟ بالدعوة، فهذا كلام ابن القيم رحمه الله.
وأيضاً مما ذكره في آداب الخطبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عرض له عارض أثناء الخطبة اشتغل به ثم رجع إلى خطبته.
وهذا من ترك التكلف، يعني: ( لما جاءه
وهكذا لما دخل سليك الغطفاني المسجد وقعد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم، فاركع ركعتين وتجوّز فيهما )، يعني: خفف الركعتين، وهذا هدي جيد؛ لأنه دليل على البساطة والعفوية وترك التكلف.
وأنا أذكر -يعني: قديماً جداً؛ لأننا كنا ننظر الخطيب إلى أن الخطيب يجب أن يكون في غاية من الجدية والوقار وعدم.. فصليت وأنا صغير مع الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في عنيزة في وقت متقدم جداً، فصار في المكبر -مكبر الصوت- صار فيه إشكال، فوقف الشيخ من خطبته ونزل من المنبر وجلس يحرك المكبر ويقول: زد هذا وأنقص هذا، فكانت هذه جديدة علينا، يعني: لم نكن نعرفها من قبل، وكانت من فقه الشيخ رحمة الله تعالى عليه وتعليمه للناس، وأيضاً جراءة الإنسان؛ لأن الخطيب أحياناً قد لا يستطيع أن يعمل هذه الأشياء، يشعر بالحرج منها!
ويقول ابن القيم -رحمه الله-: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الخطبة أو يقصرها أحياناً بحسب حاجة الناس إليها.
وهذا جيد، وإن كان الأصل في الخطبة عدم الإطالة، وإطالة الصلاة وقصر الخطبة دليل على الفقه، ولكن نقول: إن الإطالة والقصر هذه أمور نسبية لا نستطيع أن نقول: إن الخطبة ينبغي أن تكون -مثلاً- عشر دقائق أو ربع ساعة، لا، نقول: الأمر نسبي، مثلاً: إذا كان الخطيب يتكلم بمناسبة موضوع طارئ يتطلب الأمر فيه إلى كلام وتطويل، هذا غير ما إذا كان يتكلم في أحوال عادية.
كذلك أحياناً الخطيب نفسه إذا كان خطيباً طارئاً، والناس جاءوه يريدون أن يستمعوا إليه، يتحملون منه من الإطالة ما لا يتحملون من خطيبهم المعتاد.
كذلك إذا كان الخطيب مقصوداً، بعض الخطباء يأتي الناس إليه، وربما بعضهم يأتي في أوقات مبكرة جداً، وينتظرون ويتنافسون على الاستماع إليه، ويكون يهتم بالخطبة ويعدها ويحضرها، فهذا غير إنسان ربما يخطب ويتكلم بكلام طويل قد لا تكون فائدته بقدر طوله.
إذاً: الطول هنا نسبي، ولذلك قال ابن القيم : إن خطب النبي صلى الله عليه وسلم العارضة أطول من خطبه الراتبة، يعني: الخطبة الاستثنائية لمناسبة أو لنازلة أو لمشكلة أو أزمة تنزل، كانت أطول من خطب الجمعة العادية.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يخطب النساء على انفراد أحياناً، كما في خطبة العيد في البخاري لما جاء إلى النساء ووعظهن وذكرهن وقال: ( يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار! فقامت امرأة سفعاء الخدين، وقالت: لماذا نحن أكثر أهل النار يا رسول الله! .. )؛ وذلك لأن النساء لم يكن يسمعن صوته صلى الله عليه وسلم.
أما اليوم فلا حاجة لهذا؛ بسبب وجود المكبرات التي تنقل الخطبة، ولكن الحاجة ماسة إلى أن يوجد في كل جامع مكان مخصص للنساء، لتستمع المرأة إلى الخطبة وإلى ذكر الله تعالى، كما كان ذلك في عهد النبي عليه الصلاة والسلام.
فيه: مشروعية خطبتي الجمعة، وقد بينا الخلاف فيها وأن الراجح أنها شرط للصلاة.
وفيه: صفة الخطيب وما يكون عليه من القيام والقوة ورفع الصوت والتفاعل والحماس.
وأيضاً من فوائد الحديث: ما كانت تدور عليه خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في قوله هنا: ( خير الحديث كتاب الله -وهو القرآن- وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) والمقصود: سنته عليه الصلاة والسلام وما كان يقوله ويفعله.
( وشر الأمور محدثاتها ) والمحدثات: جمع محدثة، ( وكل بدعة ضلالة).
فالمقصود بالمحدثات هنا: المحدثات في الدين كما في حديث عائشة : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، فالمقصود إذاً: الإحداث في العبادات؛ مثل أن يحدث الناس صلاة جديدة لمناسبة خاصة، أو يحدثوا صياماً جديداً لمناسبة غير معتبرة شرعاً، مثل أن يصوم بمناسبة أن هذا يوم الإسراء والمعراج، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: هذه محدثة، لكن ينبغي أن يراعى في ذلك: أن أمور الحياة على الجواز، يعني: هذا في الأمور التعبدية المحضة، وهذا من التيسير؛ لأنه لو أعطي الناس مجالاً: أن كل واحد يبتكر عبادة جديدة، معناه من عهد النبوة إلى اليوم سيصبح عندنا بدل خمس أو أربع عبادات عشرات العبادات، وأصبح وقت الناس كله مصروفاً إلى ألوان من التعبدات التي ابتكروها وابتدعوها.
فمن حكمة الله أن جعلت الصلاة والصوم والحج والزكاة من العبادات التي لا يحل لأحد أن يزيد فيها ولا ينقص منها لكن ما وراء ذلك من أمور الحياة الدنيا فالأصل فيها الإذن، وأن يخترع الناس فيها، يعني: يجددون من الأنظمة والإجراءات ومن العقود، ومن المعاملات، ومن التصرفات، ومن العادات، هذا الأصل فيها والإذن والسماح.
وقد ابتكر الصحابة رضي الله عنهم -مثلاً- حتى في عهد عمر رضي الله عنه في أنظمة الدولة، في الدواوين، في الجيش، في الجند، في تنظيم الولايات والأمصار الشيء الكثير؛ مما يدل على أن الإسلام يستوعب كل مبتكرات العصر ويستفيد منها، وإنما المقصود البدع تكون في الأمور التعبدية والقرب المحضة التي يقصد بها التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وأما ما سوى ذلك فالأصل فيه الإذن.
وهذا يشكل على كثير من الناس، قال لي يوماً من الأيام بعض الشباب: إن الأصل في وسائل الدعوة أنها توقيفية ولا يجوز الزيادة عليها، قلت له: من أين لك هذا؟ الأصل في وسائل الدعوة وفي أمور الحياة كلها أنها مأذون بها، وإلا فهل تستطيع أن تقول: إن العمل يكون جائزاً مباحاً فإذا نوى به الإنسان نية طيبة أصبح حراماً؟ لا يصلح.
يعني: مثلاً: واحد يقول: والله استماع الأناشيد، يقول: والله إذا تسمع أناشيد عادية جائز، لكن إذا تسمع أناشيد فيها تحريك للقلوب، وفيها إثارة المعاني والقيم الإسلامية فهذا حرام؛ لأنه هذا عبادة ووسيلة للدعوة، تقول: هذا شيء غريب أن يكون الأمر مباحاً، فإذا حسنت وصلحت فيه النية صار حراماً، وإنما حمل الإنسان على هذا أحياناً النزاع والصراعات والخلافات والحزبيات وغيرها، وإلا فالأصل الإذن، وإنما المنع هو في التعبدات والقرب المحضة، كواحد ينشئ صلاة جديدة أو صيغة جديدة أو عبادة جديدة، يقول: احفر لنفسك -مثلاً- في الرمل واجلس في الشمس لمدة ساعة قبل الزوال بنية التقرب إلى الله، نقول: هذا لا يجوز؛ لأنها هنا نية التقرب لا يعلمها إلا الله، أما لو كان يفعل هذا من أجل علاج أو مله كما يكون وصفها له بعض الأطباء، فهذا شأنه ولا يخصنا، فيراعى هذا المعنى في قوله: ( وكل بدعة ضلالة ).
أيضاً من فوائد الحديث: النهي عن البدعة، وأن البدع كلها ضلالة، وقد قسم بعض أهل العلم كـالشاطبي وغيره البدع إلى خمسة أقسام ويقصدون بذلك البدعة اللغوية.
وفيه آداب الخطيب كما أشرنا إليها.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر