الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! سنتدارس -كما قلت- في كل أسبوع موعظتين في علم الفقه، في يوم الأحد ويوم الإثنين، نسأل الله أن يعيننا على ذلك، وأن يتقبل منا بفضله ورحمته.
إخوتي الكرام! وهذه أول موعظة في هذا العلم المبارك، سأقدم لهذا العلم مقدمة تقوم على أمرين اثنين:
الأمر الأول: في بيان منزلة علم الفقه في الدين في شريعة رب العالمين.
والأمر الثاني: في تراجم أئمتنا المهتدين، ساداتنا أئمة المذاهب الأربعة المتبعة: سيدنا أبي حنيفة النعمان فقيه هذه الملة المباركة المرحومة، الذي توفي سنة خمسين بعد المائة، وسيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، أبو عبد الله ، الذي توفي سنة تسع وسبعين ومائة، والثالث سيدنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، الذي توفي سنة أربع ومائتين، والإمام الرابع الإمام المبجل سيدنا أحمد بن حنبل، الذي توفي سنة إحدى وأربعين بعد المائتين، ويكنى بـأبي عبد الله أيضاً، عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.
أما الأمر الأول وهو: منزلة الفقه في الدين في شريعة رب العالمين، فسأقدم له مقدمة في بيان منزلة العلم، وإذا ظهرت لنا منزلة العلم فسنحدد منزلة علم الفقه من العلم.
أما العلم فشأنه عظيم، ويكفى في بيان حقيقته ما قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: (يكفي في بيان شرف العلم أن كل أحد يحب أن ينسب إليه ولو في أمر حقير) يعني: العلم بأمر حقير، كما لو قلت: هذا يعرف ويعلم كيف يزرع الشجر، وكيف يبني بيت الدجاج، وكيف يرتب البيت، فإذا وصفته ونعته بالعلم حتى في أمر حقير تراه يفرح، فيكفي في شرف العلم أن كل أحد يحب أن يمدح وأن يوصف به ولو في أمر حقير، وكل أحد يحزن إذا رفع عنه هذا الوصف ولو في أمر حقير، فإذا قلت: هذا يجهل أمراً من الأمور الحقيرة، كأنه ينكسر خاطره، فكل أحد يحب أن ينسب إلى العلم، وكل أحد يكره أن ينسب إلى الجهل، وهذا يكفي في بيان شرف العلم، كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه.
وقد جاءت الآيات المحكمات في كتاب رب الأرض والسموات، والأحاديث المتواترات عن نبينا خير البريات، عليه وعلى صحبه صلوات الله وسلامه، والآثار الكثيرات عن سلفنا أصحاب العقول الزاكيات، في بيان منزلة العلم وشأنه.
الآية الأولى: التي تبين منزلة العلم وفضله، ومكانة العالم ورتبته، يقول ربنا الرحمن في سورة آل عمران: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، سبحانه وتعالى، (شهد الله أنه لا إله إلا هو) حكم سبحانه وتعالى بذلك، وقال هذا وبينه، حكم بذلك وقاله وبينه، فشهد لنفسه بالألوهية والربوبية والوحدانية سبحانه وتعالى، ثم ثنى بمن شهد له بذلك (والملائكة)، وثلث (بأولي العلم) من أنبياء الله المباركين على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، ومن خلفائهم وورثتهم العلماء العاملين شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، فالله جل وعلا هو القائم بالقسط، المقيم للعدل سبحانه وتعالى بأمره وقسمه وجزائه.
أما بأمره: فقد أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفواحش والإثم والعدوان، وقسمه: هو الذي يرزق من يشاء سبحانه وتعالى، يعز من يشاء، يحيي ويميت، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وجزائه، هو الذي يثيب كل عامل على ما عمل، إن خيراً فخير وإن شراً فشر؛ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].
الآية الثانية: في سورة الزمر، وفيها يقول ربنا عز وجل: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].
حقيقة لا يستوي من هو عالم مع من هو جاهل، والعالم هو الذي يخشى الله عز وجل، فإن ثمرة العلم الخشية، ولذلك فهم يقنتون للحي القيوم، (آناء الليل) ساعات الليل، يحذرون الآخرة ويرجون رحمة الله جل وعلا، فهل يستوي من هذا شأنه ومن هو كافر بالله؟ لا. وهكذا لا يستوي العالم والجاهل: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].
الآية الثالثة: في سورة فاطر، وفيها يقول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:27-28].
لقد جاءت الآية بهذه الصيغة: (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء) ولم يقل: (رب الأرض والسماء)، إنما ذكر أن العلماء يخشون الله ليفيد إفراد العلماء بالخشية من الله عز وجل، فهم الخاشون للحي القيوم سبحانه وتعالى لا غيرهم، ولو قال: إنما العلماء يخشون الله، لكان في ذلك بيان للمخشي منه وهو الله، لا إفراد العلماء بالخشية من الله عز وجل، إنما المقصود هنا: أنهم هم الذين يخشون الله لا غيرهم، فلبيان هذا الأمر قدم الله اسمه المبارك سبحانه وتعالى الواقع موقع المفعول به (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء) فهم الذين يخشونه لا غيرهم، ولو قال: إنما العلماء يخشون الله، لكان في ذلك بيان أن العلماء يخشون الله ولا يخشون أحداً غيره، كما قال جل وعلا في سورة الأحزاب: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39]، وليس في هذه الآية من الوصف للعلماء كما هو في سورة فاطر، فهنا نعتهم بالخشية التي هي خاصة بهم إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28].
فإذا وجد العلم النافع سيتبعه عمل صالح، وخشية لله عز وجل، والقوة العلمية إذا لم تتبعها قوة عملية فلا خير فيها ولا مدح؛ لأن الإنسان سيلتحق بأهل الملة الغضبية، علم من غير عمل هذا طريق اليهود عليهم لعائن ربنا المعبود، كما تقدم معنا إيضاح هذا في مواعظ التفسير، عند قول ربنا الجليل: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].
ولذلك: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، علم مع عمل أنتج الخشية لله عز وجل سبحانه وتعالى، وكلما كثر علم الإنسان كلما زادت خشيته من ذي الجلال والإكرام.
ثبت في المسند والصحيحين وغير ذلك من دواوين السنة، والحديث في أعلى درجات الصحة، من رواية أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، قالت: ( صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ترخص فيه فتنزه عنه أقوام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أفعله، أما والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية).
وقد تقدم معنا ضمن مواعظ التفسير أن الشيء الذي فعله نبينا صلى الله عليه وسلم، وترخص عنه من ترخص، فسر بعدة أمور كما ورد في الروايات الثابتة:
منها: القبلة للصائم، وتقدم معنا أن هذا في صحيح مسلم وغيره.
ومنها: طلوع الفجر على النبي عليه الصلاة والسلام وهو جنب، أيضاً هذا مما كان يترخص فيه وينوي الصيام بعد ذلك عليه الصلاة والسلام، ويطلع عليه الفجر وهو جنب أحياناً، فبعض الناس تنزه عن هذا ورأى أنه إذا طلع الفجر عليه وهو جنب لا يصح صومه.
والأمر الثالث من الأمور التي فعلها عليه الصلاة والسلام وسلك طريق القصد: أنه عليه صلوات الله وسلامه كان يصوم ويفطر، ويصلي ويرقد، ويتزوج النساء، فقال من قال: أين نحن من خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه؟ ثم بعد ذلك عزم بعضهم على أن يقوم الليل، وبعضهم على أن يصوم الدهر، وبعضهم على أن لا يتزوج، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من رغب عن سنتي فليس مني).
وأمر رابع ذكره أئمتنا ولم أقف له على دليل، وهو: القصر في السفر، فقد فعله عليه الصلاة والسلام، والفطر في السفر فعله عليه صلوات الله وسلامه، وترخص فيه، فكأن بعض الناس ما أراد أن يفطر، وما أراد أن يقصر الصلاة، فهذا أيضاً مما ذكر ضمن الأمور التي تنزه عنها من تنزه، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إني لأعلمكم بالله، وأشدكم له خشية).
وقلت -إخوتي الكرام- مراراً: إن منبع الكمالات بأسرها أمران اثنان: قوة علمية، وقوة عملية، وما اجتمعتا إلا في نبينا خير البرية، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ولذلك هنا العلماء نعتوا بهذا الأمر؛ علم لكن معه خشية، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
ولو كان في العلم دون التقى شرف لكان أشرف خلق الله إبليس
فخاصية العلماء هي الخشية من رب الأرض والسماء.
روى الإمام الدارمي في سننه في المقدمة، في باب: من قال: العلم الخشية، والأثر في الحلية، ورواه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه، عن الحسن البصري عليه رحمة الله ورضوانه، أنه أفتى في مسألة فقيل له: إن الفقهاء يقولون بغير هذا، فقال للسائل: ويحك! وهل رأيت فقيهاً؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه.
هل رأيت من تنطبق عليه هذه الصفات؟ هذا هو الفقيه، وهو الذي أشار إليه ربنا جل وعلا بقوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وبقوله في سورة الزمر: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].
منها: ما رواه الإمام أحمد في المسند، والحديث في السنن الأربعة إلا سنن النسائي، ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه والدارمي في سننه، ورواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، ورواه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه، كما رواه أيضاً في كتاب الرحلة في طلب الحديث، ورواه البيهقي في المدخل، في صفحة خمسين ومائتين، ورواه البيهقي في شعب الإيمان أيضاً، والفسوي في تاريخه، والحديث صحيح، وهو من رواية سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات، ومن الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
العلم ميراث النبي كذا أتى في النص والعلماء هم وراثه
ما خلف المختار غير حديثه فينا فذاك متاعه وأثاثه
عليه صلوات الله وسلامه.
هذه الخيرات -إخوتي الكرام- يحصلها طالب العلم، طلبه العلم في هذه الحياة يوصله إلى نعيم الجنات، الملائكة تضع أجنحتها تتواضع له, تظلله بأجنحتها، ترافقه عندما يطلب العلم, يستغفر له من في السموات ومن الأرض، حتى الحيتان في جوف الماء، وفضله على العُبَّاد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وهو خليفة النبي عليه الصلاة والسلام ووارثه.
وروى الإمام الترمذي في سننه، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، والخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه، وهو في غير ذلك من دواوين السنة، والحديث إسناده صحيح، وهو من رواية سيدنا أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما: عابد، والآخر عالم، فقال عليه الصلاة والسلام: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن الله، وملائكته، وأهل السموات، وأهل الأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحيتان في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير).
إن طلب العلم، وتعلمه وتعليمه، مهنة الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، مهنتهم أن يتعلموا وأن يعلموا، والله يقول لنبينا عليه الصلاة والسلام: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، وبعثه الله عليه الصلاة والسلام معلماً.
وروى الإمام ابن ماجه في سننه، والدارمي في سننه أيضاً، والحديث رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده، ورواه البيهقي في المدخل إلى السنن، في صفحة ست وثلاثمائة، ورواه الخطيب في الفقه والمتفقه، والطبراني في معجمه الكبير، ورواه الإمام ابن السني في كتاب رياضة المتعلمين، وهكذا الإمام أبو نعيم أيضاً، والحديث حكم عليه شيخ الإسلام الإمام العراقي عليه رحمة الله في تخريج أحاديث الإحياء في الجزء الأول صفحة سبع عشرة، حكم على إسناده بالضعف، وقال: إسناده ضعيف، وتابعه على ذلك الإمام الزبيدي في شرح الإحياء، في الجزء الأول صفحة إحدى عشرة ومائة.
والذي يظهر والعلم عند الله: أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن لشواهده، وللمتابعات لمن ضُعف من رواته، فمن ضعف له متابع، والحديث له شواهد، وفي الحديث رجلان صالحان مباركان فيهما ضعف بسبب عدم كمال تمام الضبط، أولهما: العبد الصالح عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، شيخ بلاد أفريقيا وقاضيها، العلم الإمام الصالح، الأمَّار بالمعروف والنهَّاء عن المنكر رضي الله عنه وأرضاه.
روى له البخاري في الأدب المفرد، وحديثه مخرج في السنن الأربعة إلا سنن النسائي، وقد توفي سنة ست وخمسين ومائة، وهو ضعيف في حفظه، وكان صالحاً، وصلاحه مجمع عليه، وتمام ديانته متفق عليها رضي الله عنه وأرضاه، وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يجله ويحترمه، مع أنه لم يدركه، لكن لما يذكر يحتفل بذكره وبمكانته، ويرى له شأناً في الإسلام، ويقول: جهر بالحق أمام أبي جعفر وأبو جعفر هو من كان سيفه يسبق لسانه، وجهر بالحق أمامه، فقد قال له ذات مرة: الظلم ببابك فاشٍ، جئت أشكو إليك ظلم العمال في الأمصار النائية البعيدة، فكلما اقتربت من مكانك رأيت الظلم أكثر، حتى رأيت الظلم فاشياً ببابك.
وتقدم معنا خبره مع أبي جعفر ضمن محاضرات الحديث الشريف، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
عبد صالح قانت، وشيخه أيضاً عبد صالح قانت، واسمه أيضاً عبد الرحمن، هذا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، وذاك عبد الرحمن بن رافع التنوخي المصري ، وهو أيضاً من بلاد أفريقيا، توفي سنة ثلاث عشرة بعد المائة وقيل بعدها، وهو أيضاً ضعيف في الحفظ، وهو رجل صالح، وخرج حديثه من خرج أحاديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، فخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأهل السنن الأربعة إلا الإمام النسائي، عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.
ولفظ الحديث إخوتي الكرام: عن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ( مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجلسين، أحد المجلسين فيه أناس يدعون الله ويرغبون إليه، يذكرونه ويحمدونه ويصلون على النبي عليه الصلاة والسلام، يسألونه الجنة ويستعيذون به من النار، والمجلس الثاني فيه أناس يتعلمون الفقه ويعلمونه، فقال عليه الصلاة والسلام: كلا المجلسين على خير -كلاهما في طاعة لله جل وعلا، من يذكر ومن يتفقه- أما هؤلاء فيسألون الله ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيتعلمون ويعلمون الجاهل، وإنما بعثت معلماً، ثم أقبل عليهم عليه الصلاة والسلام وجلس معهم ) عليه صلوات الله وسلامه.
وقد دعا نبينا عليه الصلاة والسلام لمن يحفظ نصوص الشريعة الحسان، دعا له بالنضرة والرحمة، بالبهجة في قلبه، والضياء في وجهه في هذه الحياة، وما له عند الله أعظم وأعظم مما لا يخطر ببال أحد من المخلوقات، نضرة ورحمة.
قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ( نضَّر الله امرأً -تقرأ بالتشديد والتخفيف- سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ).
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي في السنن، وهكذا الإمام ابن ماجه في سننه وابن حبان في صحيحه من رواية سيدنا عبد الله بن مسعود، ورواه الإمام الترمذي في سننه، وهكذا الإمام أبو داود والإمام ابن ماجه في سننه أيضاً، وابن حبان في صحيحه، والإمام الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة من رواية سيدنا زيد بن ثابت، ورواه الإمام أحمد في المسند، والإمام ابن ماجه في السنن من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنهم وأرضاهم، ورُوي الحديث عن غيرهم كما سيأتينا، فهو من الأحاديث المتواترة عن نبينا إمام البررة عليه صلوات الله وسلامه، وفي رواية هؤلاء: (نَضَّر) وروي بلفظ: (رحم الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
ورواية: (رَحِم) رواها الإمام ابن حبان في صحيحه عن سيدنا عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت أيضاً في صحيح ابن حبان، ورواها الإمام الطبراني في معجمه الكبير، والإمام ابن قانع في تراجم الصحابة، وأبو نعيم والإمام ابن عساكر عن النعمان بن بشير عن أبيه بشير عن نبينا البشير النذير على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، والحديث رواه الإمام الديلمي عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنهم أجمعين بلفظ: (رحم) وهناك بلفظ: (نَضَّر).
والحديث من الأحاديث المتواترة كما قرر أئمتنا، وينظر في ذلك: قطف الأزهار المتناثرة من الأحاديث المتواترة للإمام السيوطي ، وهو الحديث الثاني، في صفحة ثمان وعشرين من الكتاب، فقد نص على تواتره، وهكذا النظم المتناثر من الحديث المتواتر للشيخ الكتاني، وهو الحديث الثالث في نظم المتناثر، في صفحة أربع وعشرين.
وقد قال الإمام ابن منده : روى هذا الحديث أربعة وعشرون من الصحابة، والإمام السيوطي زاد في كتابه تدريب الراوي فقال: روي عن ثلاثين صحابياً عن نبينا، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وأفرده بجزء مستقل وكتاب مستقل وتأليف مستقل عدد من أئمتنا، منهم تلميذ الإمام ابن ماجه أبو عمرو أحمد بن محمد المديني الأصفهاني، الذي توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، أفرد هذا الحديث في جزء خاص، ومنهم الخطيب البغدادي، ومنهم من المعاصرين أبو الفيض أحمد بن الصديق الغماري ، وسمى كتابه: المسك التبتي في تواتر حديث من سمع مقالتي، وتُبت بلدة متاخمة للصين في بلاد الصين، لعلها في هذه الأيام يقال فيها أجود أنواع مسك الظباء.
إخوتي الكرام! العلم نور، ولا بد من تحصيل العلم بلفظه وبفقهه، فالنصوص لا بد من أن تضبط، ولا بد من أن تفهم، والعلم يقوم على هذين الأمرين، فمن نقل النص وفهمه فقد جمع بين الحسنيين، ومن نقله ولم يفهمه فينقله إلى فقيه يفهمه ويستنبط منه أحكاماً -كما سيأتينا- فالمحدثون صيادلة والفقهاء أطباء، لكن العلم يقوم على هذين الأمرين: على حفظ النص وعلى فقهه وفهمه، وإذا ضاع أحدهما وجدت الجاهلية، وإذا ضاعا أظلمت الحياة الدنيوية، فلا بد من بقاء النصوص المباركة، ولا بد من فهمها والفقه فيها.
فهذان الأمران لا بد من وعيهما، وإذا لم يتوفرا فسيصير الناس في جاهلية بسبب عدم الأنوار النبوية، فيقع الشرك والتفرق، فالفتن القولية والفتن العملية هي من الجاهلية، وتكون بسبب خفاء الأنوار النبوية.
قال الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه: (إذا قل العلم ظهر الجفاء، وإذا قلت الآثار ظهرت الأهواء) إذا قل العلم ظهر الجفاء، ولذلك من بدا جفا؛ لأنه يبعد عن أهل العلم، وإذا قلت الآثار ظهرت الأهواء، يوجد عند الناس علم لكن هذا العلم بدون أثر، فتظهر الأهواء والبدع؛ لأن هذا العلم سيكون علماً آرائياً، علماً عقلياً، لا يستند إلى العلم النبوي الحق، إلى الهدى الحقيقي.
ولذلك لابد من هذين الأمرين: النص نحافظ عليه، ثم بعد ذلك نفهمه ونفقهه، ومن لم يستطع الفقه فلا أقل من أن ينقل هذا النص، فله هذا الأجر عند الله جل وعلا: (نضَّر الله امرأ رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع).
والمراد -إخوتي الكرام- من الذكران -كما وضحت هذا أيضاً ضمن محاضرات التفسير- أن لفظ الرجل والذكورة يطلق أحياناً على ما يقابل الأنوثة، ويطلق أحياناً على صفة الكمال في الإنسان، تقول: مررت برجل رجل أبوه، كما حكى ذلك سيبويه عن العرب، مررت برجل رجل أبوه، أبوه رجل قطعاً، إنما يقصد مررت برجل أبوه كامل الرجولة، فيه صفات الشهامة، والفتوة، والنخوة، والمروءة، وهنا العلم ذكر، أي: هذا العلم كريم لا يطلبه إلا من كان كريماً من الإناث والذكور، لكن بما أنه -كما قلت- صفة الرجولة صفة كمال، من اتصف بالكمال يقال: فيه صفة الرجولة، أي: الصفة التامة الكاملة الشهامة المروءة، فالمرأة الكاملة تطلب العلم، والرجل الكامل يطلب العلم، ومن انحرف عن العلم فقد انحرف عن الإنسانية كما سيأتينا، لما سئل سيدنا عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه: من الناس؟ قال: العلماء. فمن خرج عن هذا الوصف خرج عن الإنسانية.
فالعلم ذكر، أي: العلم كريم، وله شأن عظيم عند رب العالمين، لا يطلبه إلا من كان كريماً، ومن كان فيه صفة دنيئة ذميمة فإنه لا يطلب العلم، من انحط عن الإنسانية لا يطلب العلم، هذا هو المقصود، وليس المقصود أن رجولته ناقصة بمعنى ذكوريته ناقصة، لا، فالعلم ذكر لا يطلبه إلا ذكران الرجال، لا يحبه إلا ذكران الرجال، لا يرغب فيه إلا ذكران الرجال، ويكرهه مؤنثوهم.
ويقول العبد الصالح كما في شرف أصحاب الحديث صفحة واحد وخمسين، العباس بن محمد الخراساني:
لا يطلب العلم إلا بازل ذكر وليس يبغضه إلا المخانيث
وكما قلت هنا: يريد من الذكورة أيضاً صفة الشهامة والمروءة والكمال والتمام في الإنسان.
والبازل: هو السيد من الإبل الذي أكمل ثمان سنين أو تسع سنين، وليس بعد هذه الرتبة رتبة، بازل ذكر، وليس يبغضه إلا المخانيث.
ومما ينسب إلى سيدنا علي صهر النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، والأبيات تنسب إليه في كثير من كتب أئمتنا، في الإحياء وشرح الإحياء، والله أعلم بصحة النسبة؛ لأنهم لم يذكروا الإسناد إلى سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه.
وتنظر هذه الأبيات مثلاً في شرح الإحياء في الجزء الأول صفحة ثمان وثمانين، والأبيات حكيمة محكمة، إن قالها سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه فهذه من معدنه والشيء من معدنه لا يستبعد، وإن لم يقلها فقالها رباني آخر من هذه الأمة المباركة، رحمة الله ورضوانه على قائلها، يقول:
الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
وإن يكن لهم في أصلهم شرف يفاخرون به فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
ووزن كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء
أبيات -كما قلت- محكمة حكيمة، إن قالها سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه فهي من الحكمة التي منَّ الله بها عليه، وإن لم يقلها فقائلها -كما قلت- رباني في هذه الأمة المباركة المرحومة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر