الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أخواتي الكريمات! وصلنا إلى آخر مباحث الاستعاذة، ألا وهو تفسير الاستعاذة، وقد بدأت في أول هذا المبحث، وهو المبحث السابع من أحكام الاستعاذة، بدأت في أوله وقلت: أكمله إن شاء الله في هذه الموعظة وفيما بعدها بعون الله جل وعلا.
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، معنى هذه الجملة المباركة:
أعوذ فعل مضارع من العوذ، والعوذ معناه الاعتصام والالتجاء والتحصن والتحرز والاستجارة، وعليه فمعنى أعوذ بالله، أي: ألتجئ إلى الله وأعتصم به وأتحصن وأتحرز وأستجير به سبحانه وتعالى من شر هذا الشيطان اللعين الذي يرانا ولا نراه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وحقيقة الاستعاذة هي الهروب من شيء يخافه الإنسان إلى من يعصمه منه، فإذا هرب الإنسان من شيء يخافه واحتمى بمن يعصمه من ذلك الشيء الذي يخاف منه يقال لفعله هذا: استعاذة، ولذلك سمي من يهرب إليه الإنسان ويستجير به ويستعيذ به ويحتمي به ويلتجئ إليه سمي معاذاً وملجأً وحرزاً وحصناً.
والأم في أيام ولادتها الأولى يقال لها: عائذ؛ لأن مولودها يعوذ بها ويحتمي بها ويلتجئ إليها، ولا غنى له عنها، فهي عائذ بصيغة اسم الفاعل، لكنها بمعنى اسم المفعول، فرضيعها يعوذ بها ويحتمي بها ويلتجئ إليها، فهي حصنه وهي حرزه وهي معتصمه، ويمكن أن تكون تلك الصيغة وهي عائذ من صيغ النسب، وصيغ النسب إما أن تكون بالحروف، وهي ما لحق آخره ياء مشددة مكسور ما قبلها، فالنسبة مثلاً إلى مكة مكي، والنسبة مثلاً إلى حلب مثلاً حلبي، وإلى مصر مصري.. وهكذا النسبة إلى شيء آخر بزيادة ياء في آخره مشددة مكسور ما قبلها، هذه صيغة نسب، وهناك صيغة نسب لا تكون بإضافة ياء مشددة ومكسور ما قبلها، إنما تكون على وزن فاعل، فتلك الصيغة هي صيغة نسب، وهناك عائذ ولابن وتامر، لابن نسبة إلى اللبن وبيع اللبن، تامر إلى بيع التمر، عائذ أيضاً لأن طفلها يعوذ بها ويحتمي بها، فهي صيغة نسب دون أن يلحقها ياء مشددة مكسور ما قبلها، فإما أن تكون اسم فاعل والمراد اسم المفعول، أو أن تكون صيغة نسب، وعلى الأمرين سميت بذلك لأن ولدها يعوذ ويحتمي بها، ولذلك من يلجأ إليه الإنسان يقال له: معاذ، يقال له ملجأ، يقال له حرز، يقال له: حصن، فمعاذنا وحرزنا وحصننا ومأوانا من شر عدونا هو ربنا جل وعلا، الذي يدفع عنا كل شر ويجلب لنا كل خير، وبيده مقاليد الأمور وهو على كل شيء قدير. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
إذاً: من يعاذ به يقال له: معاذ، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي في السنن، وابن حبان في صحيحه وأبو يعلى في مسنده عندما قال ابن عمر لسيدنا عثمان رضي الله عنهم أجمعين: ( أما سمعت يا
ولذلك ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري من رواية أبي أسيد والحديث رواه الإمام أحمد أيضاً والبخاري في صحيحه، ورواه الإمام النسائي في سننه وهكذا ابن ماجه في السنن من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها، وهو في الصحيحين من رواية سهل بن سعد رضي الله عنهم أجمعين، فهو من رواية ثلاثة من الصحابة الكرام: أبي أسيد وأمنا عائشة وسهل بن سعد رضي الله عنهم أجمعين: ( أنه لما أدخلت
وفي رواية: ( لقد عذتِ بعظيم الحقي بأهلك )، وفي بعض الروايات: ( غطى النبي صلى الله عليه وسلم وجهه بكمه ثم قال: عذتِ معاذاً، عذتِ معاذاً، عذتِ معاذاً )، وهذه رواية الإمام ابن سعد في الطبقات، ثم قال لها: ( أمن عائذ الله، أمن عائذ الله، أمن عائذ الله )، أي: من استعاذ بالله فقد عاذ بمعاذ عظيم، وينبغي أن نؤمنه، ولذلك سرحها وفارقها وألحقها بأهلها، ثم ندمت بعد ذلك عندما علمت بما حصل منها، فكانت تقول عندما قيل لها: هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام فكيف رغبتِ عنه، فكانت تقول: أنا كنت أشقى من ذلك، وكانت بعد ذلك تلتقط البعر وتقول: أنا الشقية، ونسأل الله أن يغفر لها وللمسلمين أجمعين، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
كما قلت: لصغر سنها وعدم علمها، ولما أتي بها من قومها إلى النبي عليه الصلاة والسلام تصرفت ثم ندمت، لكن عندما استعاذت بالله فقد عاذت بمعاذ، عاذت بعظيم، فينبغي إذاً أن نؤمنها، ( أمن عائذ الله، أمن عائذ الله، أمن عائذ الله ).
إذاً: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أمرنا الله جل وعلا أن نستعيذ به، وأمرنا أن نؤمن وأن نجير من استعاذ به، فهو من باب أولى سيجيرنا من عدونا إذا استجرنا به.
وقلنا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فمعنى أعوذ إذاً كما تقدم معنا: أعتصم وألتجئ وأستجير وأتحصن وأحترز وأتحرز بالله جل وعلا من الشيطان الرجيم.
أخواتي الكريمات! والاستعاذة تكون لدفع ضر ودفع شر، وقلت: إن حقيقتها الهروب من شيء نخافه إلى من يعصمنا منه، وعليه فهي ضد اللياذة، فاللياذة تكون لجلب نفع ممن نلوذ به، وأما العياذة فتكون لدفع ضر ممن نعوذ به، فاللياذة لتحصيل منفعة، والعياذة لدفع مضرة، فمن أردنا أن نحصل منه منفعة نلوذ به لياذة، ومن أردنا أن نلجأ إليه ليدفع عنا ضراً وبلية نعوذ به عياذة، وهذا الذي حققه الإمام ابن كثير عليه وعلى أئمتنا رحمات ربنا الجليل في أول تفسيره (1/15) عند تفسيره للاستعاذة، ونقل ما يقرر هذا المعنى من كلام الشاعر أبي الطيب المتنبي وهو أحمد بن حسين المتنبي الذي توفي سنة (354هـ)، وكان من فحول الشعراء، وقد زل وضل فترة في حياته فادعى النبوة في بعض القرى، ثم قبض عليه وحبس وافتضح، ثم تاب وأناب فأفرج عنه، وشعره كما يقول أئمتنا في الذروة، وهو القائل:
لولا المشقة ساد الناس كلهمُ الجود يفقر والإقدام قتالُ
قال الإمام الذهبي رحمة الله في ترجمته في (6/200) وما بعدها: وله عدة أبيات سابقة يضرب بها المثل -أي: قالها ويتمثل بها في المناسبات- منها هذا البيت:
لولا المشقة ساد الناس كلهمُ الجود يفقر والإقدام قتال
أي: لابد من مشقة في تحصيل السيادة، والمشقة حقيقة لا تستسهلها أكثر النفوس، فالسيادة لابد لها من كرم، ولابد لها من شجاعة، والكرم لا يفعله البخلاء، والشجاعة لا يقترب منها الجبناء، ولولا المشقة لساد كل الناس، أي: صاروا رؤساء، لكن الرئيس لابد من أن يكون كريماً، ولابد من أن يكون مقداماً شجاعاً لا يخاف:
لولا المشقة ساد الناس كلهمُ الجود يفقر والإقدام قتالُ
وهذا الشاعر تاب وأناب وأمره إلى الله، ونسأل الله أن يتوب علينا أجمعين، إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين، يقول هذا الشاعر مفرقاً بين العياذة واللياذة كما قرر الإمام ابن كثير عليه وعلى المسلمين أجمعين رحمات رب العالمين، يقول المتنبي :
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
إذاً: إجابة المأمول وتحصيل المنفعة أتى بفعل ألوذ: (يا من ألوذ به فيما أؤمله).
وفي جانب المحذور ودفع المضرة أتى بفعل أعوذ:
(ومن أعوذ به مما أحاذره)
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
أي: لا يكسرون عظماً أنت جابره.
وهذان بيتان حقيقة محكمان نافعان
فما قدرته لابد من وقوعه، فمن جبرته لا يستطيع أحدٌ أن يكسره، ومن كسرته وقدرت عليه الضر فلا يستطيع أحدٌ أن يجبره: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:2]، إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، وهنا كذلك:
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
إذاً: حقيقة الاستعاذة هي الهروب من شيء نخافه إلى من يعصمنا منه، وأما اللياذة فهي الالتجاء إلى من يجلب لنا نفعاً، والعياذة فهي الالتجاء إلى من يدفع عنا ضراً، فهي في جانب تحصيل النفع لياذة بالله، وفي جانب دفع الضر عياذة فنلوذ بمن يحصل لنا الخير، ونعوذ بمن يدفع عنا الشر، ونحن نلوذ بالله ونعوذ به من شر كل ذي شر، فهو أرحم الراحمين ورب العالمين، وهو على كل شيء قدير.
وكما قلت أخواتي الكريمات: من استعاذ بالله فقد عاذ بمعاذ، وينبغي أن يحقق له مطلوبه وأن نعيذه، وما ينبغي أن نخفر ذمة الله عندما يستعيذ بالله، وقد أمرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد كان هو أيضاً يحقق هذا، فمن استعاذ بالله جل وعلا أعاذه وأمنه، وهكذا كان سلفنا الكرام يعيذون من استعاذ بالله ويؤمنونه ويدفعون عنه الضر الذي استعاذ بالله منه، وهكذا نحن أمرنا بذلك إلى قيام الساعة، وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وكتاب الأدب المفرد للإمام البخاري ، والحديث رواه أبو داود والنسائي في السنن، ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، والبيهقي في السنن الكبرى وأبو نعيم في حلية الأولياء، وإسناد الحديث صحيح كالشمس من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه )، زاد الإمام أحمد في روايته في المسند والإمام النسائي في السنن: ( ومن استجار بالله فأجيروه ).
وعليه يصبح معنا خمس جمل: ( من استعاذ بالله فأعيذوه، من سأل بالله فأعطوه، من دعاكم فأجيبوه، من استجار بالله فأجيروه، من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه ).
(من استعاذ بالله)، أي: قال: أعوذ بالله أن تصيبوني بضر أو تنالوني بأذى، وأنا في جوار الله، وأنا في ذمة الله، وأنا في حصن الله، وأنا في حفظ الله، نقول له: أنت في مأمن، وقد عذت بمعاذ، فلا يجوز أن نتعرض له بعد ذلك بسوء، فمن استعاذ بالله فأعيذوه.
(ومن سأل بالله فأعطوه) إذا سألنا شيئاً وتوسل إلى ذلك بالله، فقال: أسألكم بالله أن تعلموني، أن ترشدوني، أن تغيثوني فيما حصل له من كرب وبيدنا أن نساعده وأن ندفع الضر عنه، فوجب علينا أن نساعده.
وهكذا من دعانا نجيبه، وهكذا من استجار بالله نجيره، وهكذا من صنع إلينا معروفاً نكافئه، فإذا لم يكن عندنا ما نكافئه به ندعو له حتى نعلم أننا قد كافأناه بدعائنا، بواسطة ما يصل إليه من خير بذلك الدعاء، فقد ثبت في سنن الترمذي والنسائي والحديث رواه ابن حبان في صحيحه من رواية أسامة بن زيد حب رسول الله وابن حبه، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء )، إنسان أحسن إليك وصنع إليك معروفاً، وما عندك ما تكافئه ولا ترد صنيعه إليه، فقلت له: جزاك الله خيراً فقد أبلغت في الثناء، أي: أثنيت عليه ثناء عظيماً وكافأته بذلك إذا لم تجد ما ترد له هديته وما تكافئه به على هديته.
إذاً: من استجار بالله فأجيروه، من استعاذ بالله فأعيذوه؛ لأنه استعاذ بمعاذ، والذي يفرط في ذلك ولا يعيذ من استعاذ بالله، ولا يجير من استجار بالله، فهو شر خلق الله، كما ثبت ذلك عن رسول الله عليه صلوات الله وسلامه، ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي ، وقال الترمذي في سننه: هذا حديث حسن غريب، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، وهو حديث حسن كما قرر أئمتنا الكرام، من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ألا أنبئكم بخير الناس منزلاً )، أي: بخير الناس مكانة ودرجة وقدراً عند الله جل وعلا، ( قلنا: بلى يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الناس منزلاً رجل آخذ برأس فرسه في سبيل الله حتى يموت أو يقتل )، يعني: أن يجاهد في سبيل الله هذا خير الناس منزلة عند الله جل وعلا، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( وأخبركم بالذي يليه؟ قلنا: نعم يا رسول الله! أخبرنا من الذي يلي ذاك الصنف؟ فقال عليه الصلاة والسلام: رجل معتزل في شعب من الشعاب، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعتزل شرور الناس )، يعني: هو متجنب شرور الناس، وقد اعتزل فلا يشهد مواسم الناس إلا في خير، يقيم الصلاة يؤتي الزكاة، ثم بعد ذلك مجالس اللغط والقيل والقال والاجتماعات التي ليس لها وزن ولا اعتبار قد تجنبها وابتعد عنها، فهذا خير الناس بعد ذلك، فالإنسان ينبغي أن يكون نفاعاً يجاهد عن دين الله، ويمنع عن حرمات الله فهو في خير المنازل، وإذا لم يستطع هذا فلا أقل من الحالة الثانية: أن يعتزل الشرور، وأن لا يشارك في عمل مرذول، بل يعتزل شرور الناس، وليقم بعد ذلك الصلاة وليؤتِ الزكاة، فهذا خير الناس بعد ذلك.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( وأخبركم بشر الناس؟ قلنا: نعم يا رسول الله! قال: شر الناس الذي يسأل بالله ولا يعطي به ).
أخواتي الكريمات! باب الناس طبق يسأل يُسأل، والصحيح أنه مبني للمعلوم لا للمجهول؛ ليدل على أن هذا الإنسان وهذا الموصوف وهذا الشخص جمع بين أمرين اثنين:
الأول: أنه سأل بالله جل وعلا، وما ينبغي للإنسان أن يسأل بالله شيئاً من عرض الدنيا ومتاع الدنيا كما سيأتينا موسعاً مفصلاً إن شاء الله عند أركان الاستعاذة الثلاثة، فما ينبغي للإنسان أن يسأل بالله ولا بوجه الله شيئاً من الأمور الدنيئة ولا من حطام الدنيا الدنية، إنما لو سأل بالله شيئاً نافعاً، سأل مثلاً أن يعلمه حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام وتوسل إلى ذلك بالله، قال: أسألك بالله أن تعلمني حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، أسألك بالله أن تعلمني كيف أصلي، أسألك بالله أن تعلمني سورة من القرآن فأنا جاهل، فإذا توسل بسؤاله إلى الله جل وعلا بتحصيل منفعة تنفعه في آخرته فلا حرج، وإذا جعل سؤاله بالله وسيلة لتحصيل عرض دنيوي زائل، فهذا في الحقيقة منقصة في الإنسان أن يجعل هذا الأمر العظيم طريقاً لذلك الأمر الحقير المهين، ولذلك هذا الإنسان جمع بين قبيحين: الأول: أنه هو يسأل بالله إذا أراد شيئاً من عرض الدنيا، يضجر الناس ويسألهم بالله؛ لأنهم لا يستطيعون أن يردوه عندما يسألهم بالله جل وعلا.
والثاني: أنه إذا سئل بالله لا يعطي، فهو يسأل غيره بالله ويأخذ منه، وإذا هو سئل بالله لا يعطي، هذا شر الناس الذي يسأل بالله ولا يعطي به، إذا سئل هو بالله لا يعطي، وهو إذا سأل غيره سأله بالله ليعطى، هذا شر الناس، وفي بعض روايات المسند للإمام أحمد من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أخبركم بخير البرية؟ قلنا: بلى )، ثم ذكر الصنفين المتقدمين: ( خير البرية من يجاهد في سبيل الله، وخير البرية من يعتزل -بعد الصنف الأول- شرور الناس، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أخبركم بشر البرية؟ شر البرية الذي يسأل بالله، ولا يعطي إذا سئل به ).
وخلاصة الكلام أخواتي الكريمات! أن معنى أعوذ أي: أحتمي وألتجئ وأستجير بالله جل وعلا، وأتحصن به وأحترس به من الشيطان الرجيم، فأنا أهرب مما أخافه إلى من يعصمني منه، هذه هي حقيقة الاستعاذة، ومن سأل بالله واستعاذ بالله واستجار بالله فينبغي أن نحقق مراده، وإذا كان الله جل وعلا قد أمرنا بذلك فهو أكرم الأكرمين وأرحم الرحمين، فإذا استجرنا به واستعذنا به سيحقق لنا مرادنا، ويدفع عنا ضر عدونا، فهو رب العالمين، وهو على كل شيء قدير.
هذه العياذة التي هي الهروب من شيء نخافه إلى من يعصمنا منه لها ثلاثة أركان لا تتحقق الاستعاذة إلا بهذه الأركان الثلاثة:
أولها: مستعيذ، وثانيها: مستعاذ به، وثالث الأركان: مستعاذ منه.
أما المستعيذ وهو الركن الأول من أركان الاستعاذة: فهو كل مخلوق؛ لأن كل مخلوق مفتقر إلى الله جل وعلا، فهو مفتقر إلى الاستعاذة بخالقه ليدفع ربه جل وعلا عنه ضر عدوه، والاستعاذة تخلية وتحلية، وفيها تحقيق الصلة بين العبد وربه، وبها تظهر عزة الربوبية وذلة العبودية، فنحن عندما نستعيذ بالله جل وعلا نعلم أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وهو أكرم الأكرمين، ولا يستطيع أحد في الوجود أن يحصل لنا مرادنا إلا ربنا سبحانه وتعالى، وبذلك نستعيذ به ونلجأ إليه جل وعلا.
إذاً: كل مخلوق مفتقر إلى الاستعاذة بخالقه جل وعلا؛ من أجل تحقيق الصلة بين العبد والرب جل وعلا، وقد استعاذ أنبياء الله ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، استعاذ أنبياء الله ورسوله والصالحون من عباده بالله جل وعلا، وأخبرنا الله عن ذلك في كتابه.
لما حصل لقوم نوح ما حصل -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- من الغرق سأل نوح ربه من أجل ولده، فقال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45]، وسبب هذا السؤال أن الله جل وعلا وعده أن ينجيه وأهله، لكن الله استثنى في ذلك الوعد: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ [المؤمنون:27]، ولذلك يقول الله جل وعلا لنبيه نوح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40].
إذاً: احمل في السفينة من كل زوجين اثنين: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هود:40] بأنه لن يؤمن ولن تحصل له النجاة، وهي زوجته وولده، ثم احمل معك أيضاً في السفينة من آمن: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40]، قيل: بلغوا ثمانين، وقيل مائة، هذا بعد أن لبث فيهم يدعوهم إلى الله جل وعلا ألف سنة إلا خمسين عاماً، ما استجاب له إلا قليل.
إذاً: لما حصل الغرق نادى نوح ربه: فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45]، وأنت وعدتني بنجاة الأهل، فأجابه الله جل وعلا: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46]، والإنسان له صلتان، صلة نسبية وهذه لا وزن لها ولا اعتبار في الموازين الشرعية، وصلة دينية، وهذه هي الصلة الحقيقة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وأما صلة النسب إذا لم يصاحبها الإيمان فلا وزن لها ولا اعتبار عند ربنا الرحمن: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ [المجادلة:22].
إذاً: هنا: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46]، أي: ليس من أهل ملتك وليس على ديانتك، وهذه هي الصلة الحقيقة، وهذا هو النسب المعتبر، أما النسب الذي هو نسب اللحم والدم فلا وزن له عند الله عز وجل: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46]، أي: ليس من أهلك المؤمنين الذين وعدت بنجاتهم معك، فهذا من الكافرين، فليس بينك وبينه صلة، وهذا أرجح ما قيل في معنى الآية.
وقيل قول ثانٍ وهو للحسن البصري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46]، أي: هذا ليس من أولادك الحقيقيين؛ لأنه كان ربيباً له وابناً لزوجته، فنشأ في حجره وفي بيته، لكنه ليس من صلبه، وليس منه، إنما هو ابن زوجته، ولذلك ركن إليها ومال معها على دينها الضال الباطل، وعليه ليس من أهلك، أي: ليس أيضاً من صلبك هذا الولد، إنما هو ابن زوجتك.
والذي يظهر والعلم عند الله أن القول الأول هو المعتبر وعليه المعول الذي قرره أئمتنا الكرام عليهم رحمة ذي الجلال والإكرام.
والقول الثاني وإن كان لا منقصة فيه على نبي الله نوح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، إلا أن الأول أولى بالاعتبار، ولا داعي لإخراج الكلام عن ظاهره، والعلم عند الله، (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ). أي: ليس من أهل ملتك، ولا حرج في هذا الاستعمال.
وهناك هو يقول: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45]، فكيف يقال له بعد ذلك ليس من أهلك؟
إذاً: من أهله، هو يقول: هذا من نسبي وأسرتي، فقيل له: لا اعتبار بصلة النسب والأسرة، الاعتبار بصلة الدين، وتقوى رب العالمين، وهذا ليس له في ذلك نصيب.
وأما ما قاله بعض السفهاء من أنه ليس من أهلك، أي: أن هذا كان ابن زنا نسأل الله العافية، وأنت لا تدري، وزوجتك خانتك وجاءت بهذا الولد على فراشك، فمن قال بهذا ينبغي أن تضرب رقبته، ونساء الأنبياء يحفظن من العهر والفجور والبغاء، وما بغت امرأة نبي قط، كما ثبت هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وزنا الزوجة طعن في زوجها، ولو حصل زنا لزوجة نبي من الأنبياء لكان في ذلك طعن في ذلك النبي ما بعده طعن، فلا يمكن لنبي أن تزني زوجته، كما أنه لا يمكن لنبي أن يزني، كما أنه لا يمكن لنبي أن يقع من أمه عهر وفجور من أجل كرامة ذلك النبي عند الله عز وجل.
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46]، والذي يدل على ترجيح المعنى الأول، أنه قال: إنه عمل غير صالح، أي: ما جرى منه، جرى منه الشرك وهو عمل غير صالح: فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46].
استجار نبي الله نوح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بربه واستعاذ به مباشرة؛ ليدفع عنه الضر الذي تسبب بسؤاله عندما قال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45] فعوتب تلك المعاتبة: فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:46-47]، لن يخسر من استجار بالله المجير، ولن يخيب من استعاذ بالله المجيب، فماذا كانت النتيجة؟ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [هود:48] بسلامة تأمن فيها، ولك منا تحية، بسلام تحصل السلامة في هذه الحياة، ونسلم عليك ونحييك على السلامة والسلام والتحية نزيدك: وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [هود:48]، فلما استعاذ نبي الله نوح بربنا جل وعلا أعطاه الله السلامة وسلم عليه وحياه، ثم أغدق عليه الخيرات والبركات، وهذا حال من استعاذ برب الأرض والسماوات، هذا نبي الله نوح عندما استعاذ بالله أعاذه الله وأجاره، وحقق له أمنيته وأعطاه مراده.
ثم أخبرنا الله عما حصل لنبيه يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فقال جل وعلا: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]، كلمة: مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23]، أصلها: أعوذ بالله معاذاً، فحذف الفعل وانتصب المصدر للفعل المحذوف، ثم أضيف المصدر إلى اسم الجلالة ولفظ الجلالة (الله)، فقيل: معاذ الله، الأصل: أعوذ بالله معاذاً، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23]، كيف أقع في هذا العهر وفي هذا الفجور: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23].
قوله: (إنه ربي) يحتمل معنيين اثنين كما هو مقرر في كتب التفسير، إما إنه ربي، أي: الذي خلقني، وهو الله جل وعلا أحسن مثواي، أي: أحسن تنشئتي ورعايتي وكرامتي، وتولاني في جميع شئوني وأموري فكيف أخالفه وأقع فيما حرم علي؟!
ويصح أن يراد من هذه الجملة المباركة: إِنَّهُ رَبِّي [يوسف:23]، أي: زوج هذه المرأة المراودة وهو عزيز مصر، أي: إنه سيدي أحسن مثواي عندما أكرمني وجعلني في بيته، وائتمنني على عرضه كيف أخونه وأفعل الفجور بأهله؟! إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ [يوسف:23]، إن الحال والشأن والأمر لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]، من اتصف بالظلم لا يحصل الفلاح في هذه الحياة، ولن يحصل إلا عاراً في هذه الحياة، وهلاكاً بعد الممات.
إذاً: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]، ماذا كانت النتيجة؟ عندما راودته عن نفسه، وفعلت ما فعلت، وهو استعاذ بالله جل وعلا ماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أن دفع الله عنه ضرها وأثبت طهارته وعفته، ثم مكن له في الأرض وجعله بعد ذلك حاكماً لبلاد مصر.
ثم قال الله: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، هذا استعاذ برب العالمين، سنصرف عنه كل أمرٍ مشين؛ لأنه من عباد الله المخلصين، والهم الذي حصل من المرأة معروف، همت به عندما بذلت ما في وسعها لتحصيل مرادها مما حرم الله عليها، وأما همه على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فالآية لها تخريجان ومعنيين معتبران:
الأول منهما: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ [يوسف:24]، الوقف هنا نقف ومعروف همها، ثم نقول: وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24]، وعليه امتنع الهم لرؤية البرهان؛ لأن (لولا) حرف امتناع لوجود، فامتنع الهم لرؤية البرهان، كما يقول الإنسان: لولا زيد لضربتك، لولا عمرو لأكرمتك، فامتنع الضرب والإكرام لوجود زيد وعمرو، لولا زيد لأكرمتك، إذاً: لولا حرف امتناع لوجود، وهنا امتنع الهم لوجود البرهان، والبرهان ما هو؟ عصمة الله لأنبيائه وحفظه لهم، فلولا أن الله نشأ أنبياءه على التنشئة الصالحة، وأنه حفظهم وعصمهم لوقع هذا العبد الصالح نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه في حبال تلك المرأة المراودة، لكن الله حفظ أنبياءه ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
إذاً: امتنع الهم لرؤية البرهان، فلولا البرهان لحصل الهم الحرام، وهذا القول كما قال أبو حيان هو أجرى الأقوال من حيث العربية وهو أقواها، وهو فيما يظهر أقوى القولين وأولاهما لتفسير كلام الله جل وعلا: وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24].
والمعنى الثاني: أن المراد بالهم هنا: الهاجس الذي يخطر في النفس البشرية ثم يزول ولا يستقر، وليس في ذلك شيء من المنقصة؛ لأن هذا خاطر جبلي خطر في النفس البشرية ثم زال عندما علم الإنسان أنه عبد الكريم، وأن هذا الفعل لا يرضاه رب العالمين، فزال عنه ذلك الخاطر الأثيم فلا حرج إذاً من تفسير الآية أيضاً بالمعنى الثاني. ولا يصح غير هذين القولين في تفسير هذه الآية الكريمة: وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
(إنه من عبادنا المخلِصين) بصيغة اسم الفاعل واسم المفعول، قرأ المكي عبد الله بن كثير والبصريان أبو عمرو بن العلاء ويعقوب الحضرمي والشامي وهو عبد الله بن عامر أربعة من القراء العشرة قرءوا بصيغة اسم الفاعل: (إنه من عبادنا المخلِصين)، وقرأ المدنيان والكوفيون الأربعة: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، أي: قرأ القراء الستة الباقون بصيغة اسم المفعول المخلَصين، أما المخلِصين فهم الذين أخلصوا لله جل وعلا، وأما المخلَصين فهم الذين استخلصهم الله جل وعلا، والأمران متلازمان، فلا يخلص الإنسان للرحمن إلا بعد أن يستخلصه الله، ومن استخلصه الله فهو مخلص: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46].
إذاً: عندما استجار واستعاذ نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بالله صرف الله عنه السوء والفحشاء؛ لأن الله هو الذي أمرنا أن نعيذ من استعاذ، فهو من باب أولى يعيذ من استعاذ به، ويدفع عنه الضر، ويصرف عنه الأذى ويزيل عنه المكروه: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
أخواتي الكريمات! ما حصل لنبي الله يوسف -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- من امتحان في قصة المراودة، قال أئمتنا كما قرر ذلك الإمام الرازي في تفسيره: كل من له علم بالقضية ومدخل فيها، وله علم في أمرها، كل من له اطلاع عليها شهد ببراءة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، والذين لهم علم بذلك واطلاع والمشاركة في تلك الحادثة هم ستة أصناف.
الصنف الأول: المدعى عليه نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه هو شهد ببراءة نفسه على نفسه فقال: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف:26]، عندما قالت امرأة العزيز : مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف:25-26].
وشهد أيضاً ببراءة نفسه عندما قال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:33-34].
الثاني: المرأة وهي الطرف الثاني، وهي الصنف الثاني في من له اطلاع على هذه القضية ومشاركة فيها شهدت ببراءة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه عندما قالت: وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32]، وقالت أيضاً كما حكى الله: قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:51].
الصنف الثالث: زوج المرأة شهد ببراءة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فلما قال الشاهد ما قال: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27] زوج المرأة: فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28]، وهكذا الشهود شهدوا ببراءة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.
الصنف الرابع: أنطق الله من في المهد ببراءة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فقال: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [يوسف:26]؛ لأنه يكون هو المراود، وهو المتعرض، وهي تدفعه عن نفسها، فيتمزق ويتقطع ثيابه من الأمام: وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ [يوسف:27]، من الخلف والوراء: فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:27]؛ لأنه هو الهارب وهي التي تتبعه، فهي إذاً المراودة وهو بريء من ذلك.
والصنف الخامس: خير الشاهدين، وهو رب العالمين الذي لا تخفى عليه خافية شهد ببراءة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فقال: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، فكيف يهم بالزنا، ويبذل ما في وسعه لتحصيله وفعله؟! هذا لا يمكن أن يوصف به من صرف الله عنه السوء والفحشاء، ومن شهد الله له بأنه من عباده المخلِصين المخلَصين.
والصنف السادس: الشيطان اللعين شهد ببراءة نبي الله يوسف الكريم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فالشيطان قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، والله قد قرر في كتابه أن نبيه يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه من عباد الله المخلِصين المخلَصين، وعليه فهذا اعتراف من الشيطان اللعين أنه ما أغوى ذلك العبد؛ لأنه من المخلصين: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83].
وعليه أقول ما قاله الإمام الرازي وغيره من أئمتنا: إذا كان من يقول ذلك الكلام في حق الله نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه من أنه هم هماً منكراً، وأراد أن يفعل العهر والفاحشة؛ إذا كان قائل ذلك الكلام من أتباع الرحمن ومن المؤمنين بذي الجلال والإكرام، فليقبل شهادة الله على براءة نبيه يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وإذا كان قائل ذلك الكلام من أتباع الشيطان فليقبل شهادة الشيطان على براءة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، لكن كثيراً من عتاة البشر زادوا في الخبث والشر على الشيطان، فقالوا: كنا تلامذة للشيطان، وتعلمنا منه، ثم تخرجنا بعد ذلك فزدنا في الخبث عليه، ولذلك لا نقبل كلامه؛ لأن عندنا من الخبث أكثر مما عنده، كما قال بعض هؤلاء العتاة:
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعدهُ طرائق تشقي ليس يحسنها بعدي
فالشاهد أخواتي الكريمات! في الآية أن نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه عندما استعاذ بالله أعاذه الله، وصرف الضر عنه.
وهكذا ثبت أيضاً في سورة يوسف أن نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه استعاذ أيضاً وقال نفس المقولة السابقة: (معاذ الله) عندما ثبت وجود الصواع -وهو المكيال الذي يكال به- في رحل أخيه، وكان جزاء من سَرق أن يكون ملكاً لمن سُرق منه، فأراد نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أن يأخذ أخاه الذي هو من أبيه وأمه إليه ليكون هذا مقدمة لقدوم أبويه بعد ذلك حسبما رتب الله من حكمة في الوقت المقدر لذلك وهو الحكيم العليم، فلما وجد الصواع في رحل أخيه: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:78-79]، فكانت النتيجة: معاذ الله أن يحصل منا هذا التصرف، وأن نعاقب غير المذنب، وأن نعاقب البريء، فهذا وجد الصواع في رحله فنحن سنأخذه، فكانت النتيجة بعد ذلك أن من الله عليه بقدوم أبويه عليه، وجمع الله شمله في أسرته بأبويه وإخوته عندما دخلوا عليه وقال: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف:99]، فهذا العبد الصالح نبي الله يوسف -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- استعاذ بالله فأعاذه.
وهكذا أخبرنا الله أيضاً عن نبيه موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أنه استعاذ بالله ولجأ إليه عندما أراد فرعون العاتي اللعين أن يبطش بنبي الله الكليم موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، يخبرنا الله جل وعلا عن ذلك فيقول في سورة غافر: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، فماذا سيفعل ذلك النبي الأعزل الذي لا يملك سلاحاً ولا جيشاً مع هذا الطاغية الكبير الذي ادعى أنه هو رب أهل مصر، وأنه هو مالكهم والمتصرف في شأنهم: فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات:23-26].
وهنا: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، فكانت كلمة موسى تلك الكلمة التي فيها استعاذة بالله من شر ضر ذاك العاتي الطاغي، فقال نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27]، ماذا كانت نتيجة تلك الاستعاذة؟ كانت نتيجة تلك الاستعاذة أن أغرق الله فرعون وقومه، ونصر نبيه وكليمه ونجيه، ومكن له في الأرض عندما استعاذ بالله جل وعلا: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27].
وقد تكرر مثل هذا عن نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ففي سورة الدخان أيضاً يحكي لنا ربنا الرحمن هذا المعنى عن نبيه موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فيقول: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الدخان:17-18]، وذلك الرسول الكريم هو نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ [الدخان:19-20]، تحصنت واحتميت به جل وعلا، ولجأت إليه من أن تفعلوا بي هذا الفعل، أي: أن ترجموني بالحجارة، وأن تعاقبوني وأن تطردوني وأن تخرجوني وأن تقتلوني: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ [الدخان:20]، ومن استعاذ بالله فقد عاذ بمعاذ، وسيعيذه الله ويدفع عنه شر ما استعاذه، وكانت النتيجة أن مكن له جل وعلا، وأغرق فرعون وقومه عندما استعاذ نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بالله جل وعلا.
كانت النتيجة أن رزقها الله جل وعلا ولداً من غير زوج، وأن نزهها الله جل وعلا بلسان ذلك الولد، وهو نبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه عندما أتت به قومها تحمله: قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:27-33].
هذه نماذج أخواتي الكريمات ممن استعاذوا برب الأرض والسماوات من القرون الخالية السالفة؛ نوح وموسى ويوسف من أنبياء الله ورسله استعاذوا بالله فأعاذهم، امرأة عمران ومريم استعاذتا بالله فأعاذهما الله ودفع الضر عنهما وهو على كل شيء قدير، وهكذا أمرنا الله أيضاً في كتابه جل وعلا بأن نستعيذ به، وأخبرنا أننا إذا فعلنا ذلك يدفع الله عنا الضر، ونحصل الخير والفلاح والنجاح في هذه الحياة.
وهذا المعنى أخواتي الكريمات! الذي ذكره الله جل وعلا في سورة الأعراف أشار إليه أيضاً جل وعلا في سورة المؤمنون في آية: (96) أيضاً فما بعدها، أشار إلى معاملة هذين العدوين جل وعلا، فقال في كتابه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون:96]، وهذا كما قلت في معاملة العدو الظاهري من الإنس: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ [المؤمنون:96-97]؛ من وساوسه وإغوائه: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:98] في جميع شئوني، ولاسيما عند احتضاري وموتي وفراقي هذه الحياة: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97-98].
وهذا المعنى أيضاً أشار الله جل وعلا إليه في سورة: (حم) فصلت في آية: (36) فما بعدها، فأشار إلى معاملة هذين العدوين أيضاً، فقال جل وعلا: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35]، وهذا كله في معاملة العدو الظاهر من البشر، ثم أخبرنا الله كيف نعامل العدو الجني فقال جل وعلا: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36].
يقول الإمام ابن كثير عليه وعلى أئمتنا رحمات ربنا الجليل في تفسيره (1/15) عند بيان أحكام الاستعاذة، يقول: لا حيلة في التخلص من العدو الباطني إلا بالاستعاذة منه بمن خلقه، فكما أن الشيطان يرانا ولا نراه، فنسلط الله عليه فالله يراه والشيطان لا يرى الرحمن جل وعلا، أما العدو الإنسي فنرد عداوته بالمداراة والمصانعة، وهذا المعنى أشارت إليه ثلاث آيات من القرآن في ثلاث سورة، أشار الله إليه في ثلاث مواضع من كتابه في سورة الأعراف وفي سورة المؤمنون وفي سورة (حم) فصلت كيف نعامل هذين العدوين؟ أما العدو الجني فكما قلت لا يقبل مصانعة ولا مداراة، فلابد من أن نستعيذ بالله منه، فالله جل وعلا يكيفنا شره، ويدفع عنا ضره، والله بيده مقاليد الأمور، وهو على كل شيء قدير.
ويذكر أئمتنا الكرام كما ذكر هذا الإمام القرطبي في تفسيره عند الموضع الأول الذي ذكره في معاملة العدوين من تفسيره في تفسير سورة الأعراف في (7/348) أن بعض الشيوخ قال لتلاميذه: إذا عرض لك الشيطان يوماً فماذا تفعل؟ قال: أجاهده، قال: إن عرض لك؟ قال: أجاهده، قال: إن عرض لك؟ قال: أجاهده، قال له: هذا يطول، قال: فماذا أفعل أيضاً؟ قال: إذا كنت تمشي في طريق واعترضك كلب من بستان فنبح عليك فماذا تفعل؟ قال: أضربه بالحجارة، قال: إن نبح، قال: أضربه بالحجارة، قال: إن نبح؟ قال: أضربه بالحجارة، قال: هذا يطول، قال: فماذا أفعل؟ قال: تستعين بصاحب البستان ليدفع عنك شر كلبه، وأنت هنا تستعين بالله ليدفع عنك شر عدوك.
فإذا شعرت بوسوسة كما قال الله: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200]، فالله يسمع ويرى، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فيدفع عنك شر هذا العدو اللعين، وهو على كل شيء قدير، وأما أنك تجاهد وتجاهد وتحترس وتعارك، هذا أمر يطول، فالجأ إلى الله ليكفيك شر هذا العدو والله جل وعلا على كل شيء قدير.
قال الإمام ابن كثير عليه رحمة الله: ومن قتله العدو الظاهري البشري مات شهيداً، ومن غلبه العدو من البشر كان مأجوراً حميداً.
إذا قتلني العدو من الإنس أموت على شهادة، وإذا غلبني هذه مصيبة نزلت علي يثاب عليها المؤمن، أما من قتله العدو الجني الباطني فقد مات طريداً، ومن قهره العدو الشيطاني فقد صار مفتوناً موزوراً، فشتان شتان بين العدوين العدو الإنسي إذا تمكن من مؤمن وقطع رقبته يموت شهيداً، إذا غلبه وقهره يؤجر ويثاب، وأما العدو الجني إذا تمكن من إنسان وأغواه وأضله فالإنسان يكون طريداً مأزوراً في هذه الحال.
إذاً: لنا عدوان ينبغي أن نعامل كلاً منهما بما أرشد ربنا الرحمن، أما الإنسي فنصانعه ونداريه ونعرض عنه، وندفع بالتي هي أحس، وأما الجني فنستعيذ بالله منه فيكفينا الله شره وهو على كل شيء قدير.
وهذا المعنى -كما قلت- أشار الله إليه في ثلاثة مواضع من كتابه: في سورة الأعراف وفي سورة المؤمنون وفي (حم) فصلت، وقد نظم الإمام ابن الجزري عليه رحمة الله هذا المعنى في كيفية معاملة العدو الإنسي والعدو الجني في بيتين من الشعر ذكرهما في كتاب النشر في القراءات العشر (1/56) فقال عليه رحمة الله بعد أن ذكر الآيات الثلاث المتقدمة في المواضع الثلاثة المتقدمة، قال:
وقلت في ذلك وفيه أحسن الاكتفاء وأملح الاقتفاء:
شيطاننا المغوي عدو فاعتصم بالله منه والتجئ وتعوذِ
وعدوك الإنسي دار وداده تملكه وادفع بالتي فإذا الذي
(شيطاننا المغوي)، وهو العدو الجني الباطني، (عدو فاعتصم بالله منه والتجئ وتعوذِ)، أي: عامل العدو الجني الباطني بأن تلتجئ إلى الله، وأن تستعيذ بالله من شره، ولا تستطيع أن تتخلص منه إلا بهذا الطريق، وأما عدوك الإنسي (وعدوك الإنسي دار وداده)، أي: دار صلتك به، كما قال الله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].
وعدوك الإنسي دار وداده تملكه ...
أي: ينقلب من العداوة إلى الصداقة، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].
وعدوك الإنسي دار وداده تملكه وادفع بالتي فإذا الذي
أي: ادفع بالتي هي أحسن؛ ليصبح الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم.
أخواتي الكريمات! إذاً: أمرنا الله أن نستعيذ به من شر الشيطان الرجيم، وقرن أيضاً هذه الاستعاذة بمعاملة أخرى للعدو الظاهري من الإنس، كما قلت في ثلاثة مواضع من كتابه، وهكذا أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام، ونحن له في ذلك تبع أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم إذا قرأنا القرآن، كما تقدم معنا في آية النحل فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، وهكذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ بالله، وأن يلجأ إليه، وأخبره أنه إذا فعل ذلك فسيدفع عنه ضر أعدائه من شياطين الإنس والجن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر