إسلام ويب

فضل قيام الليل [1]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • صلاح آخر هذه الأمة لا يكون إلا بما صلح به أولها، وأول هذه الأمة -وهم سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين- كانوا على قدر عظيم من الصلاح والتقوى والتمسك بالدين، ومن ذلك محافظتهم على الطاعات والعبادات والنوافل والقربات والتي من أهمها وأفضلها قيام الليل، وقد دلت الأدلة الكثيرة من كتاب الله تعالى على فضل هذه العبادة العظيمة ومنزلتها عند الله تعالى.
    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    الحمد لله شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين، ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

    وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد:

    معشر الإخوة الكرام! إن الموضوع الذي سنتدارسه في هذا الحين يدور حول شعار الصالحين في كل حين، وهذا الموضوع في الحقيقة يعتبر تتميماً لموضوع قد مضى الكلام عليه في وقت ماضٍ حول هدي الإسلام في نوم الإنسان، واستعرضت هناك آداب النوم، والحكمة من خلق النوم، ووجود الليل، وسأستعرض الآن ما ينبغي أن يفعله الإنسان بعد نومه، وهو شعار الصالحين في كل وقت، والذي دعاني للحديث عن هذا الأمر أمران عظيمان جليلان:

    صلاح الأمة بصلاح القلوب

    الأمر الأول: أنني تأملت حال الأمة الإسلامية الذين زاد عددهم في هذا الوقت على ألف مليون مسلم، فرأيت حالتهم تفطر الأكباد وتدمي القلوب، وإذا أراد الإنسان أن يفكر في إصلاح الأمة، فلن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وألقيت نظرة في الأمر الذي صلح به أمر أول هذه الأمة فرأيت أن بداية الإصلاح كانت من هذا الأمر، وهو إصلاح القلوب، وربطها بعلام الغيوب عن طريق قيام الليل وغيره.

    وسيأتي معنا عند مدارسة هذا البحث أنه من العجيب الغريب الذي يلفت أذهان العقلاء: أن الله جل وعلا افترض قيام الليل في مكة قبل أن تنزل الفرائض، وقبل أن تشرع الحدود، بل قبل أن تفرض الصلوات المفروضة الصلوات الخمس، وهذا لأمر عظيم؛ لأن الإنسان إذا خلا بربه جل وعلا، واتصل قلبه بالله جل وعلا في جنح الليل طهر القلب، ونزلت عليه الفوائد، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، وإذا طهر القلب فإنه يكون في حالة استعداد لتلقي كل أمر طاهر بعد ذلك، وإذا كان القلب فيه فساد، فلن يتقبل الأوامر الطاهرة إذا وجهت إليه، ولذلك عندما ربي الرعيل الأول الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم على هذا المعنى على تطهير القلوب، وربطها بعلام الغيوب، خرج جيل لم يشهد له التاريخ مثيلاً.

    ثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين، وأقر ذلك الذهبي ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن -يتصل قلبه بالله جل وعلا- وكانت السورة تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عندها، ثم رأيت أناساً يأخذون القرآن قبل الإيمان، يقرأ القرآن من أوله لآخره لا يسقط منه حرفاً، ولا يدري ما أمره ولا نهيه، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده).

    ولذلك قال أئمتنا الكرام: من رحمة الله بالحدث وبالشاب أن يوفق في بدايته لرجل من أهل السنة ليربط قلبه بالله جل وعلا، وليعرفه الطريق المستقيم، ثم بعد ذلك يقبل على العلوم ويأخذ منها وينهل، لا بد من هذا، وهذا كما ثبت في سنن ابن ماجه بسند صحيح عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا ونحن فتيان حزاره) جمع حزور، وهو الشاب الممتلئ نشاطاً وقوة وجلداً، (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاره، فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً) وتعلم الإيمان يكون عن طريق الخلو مع الرحمن جل وعلا في جنح الظلام، هذا الأمر الأول الذي دعاني للحديث عن هذا الأمر العظيم شعار الصالحين.

    طهارة القلوب سبب لطهارة الجوارح وتقبلها أوامر الله تعالى

    عباد الله! إن القلب إذا طهر، واتصل بالله جل وعلا تطهر سائر الجوارح، وقد ربى الله جل وعلا هذه الأمة على هذا المعنى، ففي صحيح البخاري عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (أول ما أنزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار)، وتعني بها سورة المدثر، وهي ثاني سورة نزلت من القرآن، وفيها يقول الله جل وعلا: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:8-10]، ثم يتحدث الله جل وعلا بعد ذلك عن بيان أصحاب وعدة أهل النار الملائكة، وما سيصلى الكفار في النار من طريق حراس الملائكة التسعة عشر، فيقول جل وعلا: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، ثم في نهاية السورة يقول الله جل وعلا: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ [المدثر:38-40]، فأول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، تقول: (حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل من أول الأمر -أي: والقلوب لا زالت على شوائبها ولم تطهر ولم تتصل بربها جل وعلا- ولو نزل من أول الأمر لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، ولو نزل من أول الأمر لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا نترك الخمر أبداً، أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جارية ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:46]، وهو من سورة القمر، وما نزلت البقرة والنساء إلا وأنا عندهم في المدينة)، عليها رضوان الله، وصلوات الله وسلامه على نبينا وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

    ولهذا الأمر إخوتي الكرام! لو تفكر الإنسان في شرع الرحمن جل وعلا لوجد أن الله حرم الخمر في العام الثاني للهجرة، أي: بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بواحد وعشرين سنة، وحرم الغناء في مكة عند بعثته صلوات الله وسلامه عليه، الغناء يحرم في مكة، والخمر تحرم بعد واحد وعشرين سنة؛ لأنه لا يجتمع قرآن الشيطان مع قرآن الرحمن في قلب إنسان، وإذا اجتمعا فسيخرج أحدهما الآخر، فإما شيطان وإما عبد للرحمن، الغناء يحرم في العصر المكي، وعسى الله جل وعلا أن يمد في الأجل لنتدارس هذه الرذيلة التي فشت في أوساط المؤمنين وجعلتهم في رتبة الشياطين، الغناء يحرم في مكة، والخمر في المدينة بعد واحد وعشرين سنة؛ لأن القلب إذا طهر وقيل له: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91]، يقول المسلمون قولة رجل واحد: انتهينا، القلوب طاهرة، سبحان الله العظيم، يعتني الله بالقلب إلى هذا الحد!

    لو نظر الإنسان في الشرع لرأى أن الله فرض الحجاب في العام السادس للهجرة بعد تسع عشر سنة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، كان يركز على القلب ولا يضر الظاهر؛ لأن الظاهر يغير بعد ذلك بإشارة، يقول الله في سورة النور: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، (يغضوا) مجزوم بقوله: قل للمؤمنين، فإذا قلت للمؤمنين: غضوا يغضوا، بعد أن طهرت قلوبهم فأفعالهم متوقفة على أمرك.

    ولما نزلت آية الحجاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59]، ثبت في سنن أبي داود وغيره عن أم سلمة وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما: (أن هذه الآية لما نزلت عمد النساء إلى مروطهن -أي: أثخنها وأسمكها وأغلظها- فاختمرن بها، وخرج النساء بعد ذلك كأن على رءوسهن الغربان)، بعد تسع عشرة سنة ينزل هذا الأمر فيخرج النساء مباشرة كأن على رءوسهن الغربان، وفي زمننا التي في الإسلام من سنوات كثيرة، ومن أسرة مسلمة، إذا خاطبتها بالحجاب تعرض بوجهها عن هذا! لم؟ لأن القلب فاسد، معشعش بوساوس الشياطين من غناء وهوى وغير ذلك، فلا بد من تطهير القلب وربطه بالرب جل وعلا، فإذا ربط القلب بالله أعمال الجوارح بعد ذلك هينة سهلة.

    ولذلك ثبت في الصحيحين والمسند وغيرهما في الحديث الطويل عندما سأل هرقل أبا سفيان وغيره عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعن أصحابه الكرام، وكان أبو سفيان إذ ذاك مشركاً، فقال: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ كيف يرتد وقلبه يرقص طرباً بلقاء الله كل ليلة، كيف يرتد؟! هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه، كراهية له ونفوراً منه بعد أن يدخل فيه؟ قال أبو سفيان : لا، وكان إذ ذاك مشركاً، فقال هرقل : وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    صلاح القلب وطهارته يرفع صاحبه منزلة عالية

    وهذا الأمر يفسر لنا حديثاً كم بذلت في فهمه لأصل إلى المراد، فأزال الله بعد ذلك عني القلق الذي كان يساورني من هذا الحديث، والحديث هو ما رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح أقره عليه الذهبي ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: ذكر الله )، وفي رواية: ( والذي نفسي بيده! لو ضرب بسيفه المشركين حتى يختضب دماً لكان الذاكر لله أفضل منه )، قلت: كيف فضل بهذه المرتبة على الجهاد، وعلى الزكاة، وعلى إنفاق الذهب والفضة، وعلى غير ذلك من الأعمال؟ ثم أزال الله عني الإشكال؛ لأن المجاهد إذا لم يكن ذاكراً سيولي الأدبار، كما هو حالنا في هذه الأيام، فلا بد إذاً من تعمير القلب بذكر الله؛ ليكون بعد ذلك شعلة نور وصلاح وفضيلة وخير وبركة، وأما المجاهد إذا لم يكن قلبه متصلاً بالله سيفر، والمتصدق والمزكي إذا لم يكن قلبه طاهراً سيحبط عمله.

    فجعل للذكر هذه المرتبة لأن الذكر عندما يربط القلب بالله فإن جميع الأعمال بعد ذلك تكون زكية مقبولة طاهرة، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وإذا كان القلب فاسداً، فكل ما سيصدر عن الجوارح سيضرب به وجه صاحبه.

    إخوتي الكرام! هذا الأمر له قدر كبير لا تظنوه يسيراً، واسمعوا لإشارة نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي ، والحديث رواه الحاكم في المستدرك، وهو في مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه، ورواه ابن ماجه بسند ضعيف عن أنس بن مالك رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة )، تأملوا أحوالنا إخوتي الكرام! إذا كان عدد الجيش اثنا عشر ألف مقاتل لا يغلبون من قلة، لو اجتمع أهل الأرض على قتالهم، إذا كانت قلوبهم طاهرة، وبذكر الله عامرة، إنما يغلبون من ذلة كما هو حالنا في هذه الأيام، فإذا بلغ عدد الجيش هذا الرقم، فلو اجتمع أهل الأرض على قتالهم سينهزم أهل الأرض أمامهم؛ لأن الله معهم، وإذا كان عدد الجيش بهذا المستوى أو أكثر ممن كثروا فيفتش قلوبهم؛ لعلها أخبث من قلوب أعدائهم، ولذلك أهانهم الله، وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18].

    إخوتي الكرام! ألف مليون مسلم غثاء كغثاء السيل، قلوب خبيثة، وأعمال فاسدة، ولا يعلم بحالنا إلا الذي خلقنا، ولذلك إذا أردنا الإصلاح لا بد من تطهير القلوب، إن القلب إذا طهر فإن الواحد يعدل مائة، بل يعدل أرقاماً لا نهاية لها، وفي معجم الطبراني الأوسط والصغير بسند ضعيف، وللحديث روايات كثيرة عن نبينا صلى الله عليه وسلم: ( ليس شيء خيراً من ألف مثله إلا الإنسان )، إذا كان قلبه طاهراً فهو خير من ألف قلوبهم غير طاهرة.

    والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى

    ولم أر كأمثال الرجال تفاضلت إلى المجد حتى عد ألف بواحد

    إذاً: لهذا الأمر -وهو السبب الأول- أردت أن أتكلم عن قيام الليل، لنعرف أن هذا الأمر له شأن كبير يطهر القلوب، وهذه بداية الصلاح والإصلاح.

    بقاء الخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة

    الأمر الثاني الذي دعاني للحديث عن هذا الأمر: أنه في خلال محاضراتي في كلية التربية للبنات، عندما درست أخواتي الصالحات في بداية تدريسي لهن من ثلاث سنوات، كان في ذهني عندما درست في تلك الكلية لأخواتي خمسة أمور، ركزت في أذهان البنات ولله الحمد، وثبتت واستقرت، فبدأت بأول محاضرة في التوجيه بعد مضي فترة من محاضرات التوحيد عن قيام الليل، وربطت هذا بموضوعات المنهج المقرر في بحث نزول الرب جل وعلا في ثلث الليل الأخير، وما الذي يستفيده من ذلك؟ ثم جاءتني البشائر من أخواتي الصالحات بأن طالبات قسم الدراسات الإسلامية قد التزمن بقيام الليل على الإطلاق، وكان السكن -ولله الحمد- عامراً بالمتهجدات الصالحات القانتات، ركزت على هذا، وحصل أثر، وسأعقب بعد ذلك على هذا بما يتيسر.

    والأمر الثاني: ألقيت محاضرة حول الغناء فيهن، وفي الليلة التي ألقيت فيها المحاضرة قطعت أشرطة الغناء من قبل من كن يسمعنه، وألقيت في مكان في الكلية حتى اجتمع عدد من الأشرطة، وعندي عدد من الرسائل من الأخوات الصالحات التي تخبر عن نفسها أنها قطعت أشرطة الغناء والخزي وما شاكل هذا، والحمد لله رب العالمين.

    الأمر الثالث: كنت أتكلم معهن عن منزلة المرأة، واستعرضت ما يتعلق بالحجاب على الخصوص، وبتعدد الزوجات، أما الحجاب فلله الحمد التزمن به في القسم الذي كنت أدرس فيه التزاماً كبيراً، ولعله من الغريب في أكثر نساء هذه البلاد لباس الجوارب الثخينة السميكة، ولباس القفازين، وقد وجد -ولله الحمد- طالبات صالحات من أبي عريش ومن جيزان ومن سائر المناطق لا تخرج الواحدة خارج بيتها إلا بجورب ثخين سميك، وقفازين في اليدين، وكانت شروط حجاب المرأة المسلمة تكتب على الجدران لتتقيد بها كل طالبة ولله الحمد والمنة.

    ثم بعد ذلك وهو الأمر الرابع: الاعتناء بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يتقصد الإنسان من الحديث الذي يرويه عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت أوراق الامتحان عندما يستدل بالأحاديث فيها، وتذكر الأحاديث فيها يقال: رواه الشيخان، ورواه الحاكم ورواه النسائي وسنده صحيح، وسنده ضعيف، هذا في أوراق الامتحان، وقد أخبرني عدد من المشايخ الكرام بهذا عندما ألقوا محاضرات هناك، وعندما جاءتهم الرسائل.

    والأمر الخامس وهو أعظم الأمور وهو موضوع المنهج: مادة التوحيد جعلتها على أن تكون حياة الإنسان حولها تدور، فلا خير في الحياة إذا لم يعرف الإنسان ربه، ولم يحبه، ولا خير في الآخرة إذا لم ير فيها وجهه، ولم يتنعم بجنته، هذا الأمر قد التزم به من التزم ولله الحمد، وقد وصلتني رسائل من عدد من الصالحات كل واحدة تقول: والله لقد هانت عندنا الحياة في ذات الله، وأخرى تقول: والله لا أريد شيئاً إلا الجهاد في سبيل الله، ومثل هذا كثير، وإذا كان هذا الموضوع قد آتى ثماره عند أخواتي الصالحات، فأسأل الله جل وعلا أن يعطي ثماره في وفيكم، وأسأل الله جل وعلا أن لا يجعلني جسراً يعبر به إلى الجنة ثم يلقى في جهنم إنه على كل شيء قدير، وأسأل الله أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعل سرنا خيراً من علانيتنا إنه على كل شيء قدير.

    والذي أريد أن أنبه عليه في الأمر الثاني: ليعلم كل واحد منا أن الأمة ولله الحمد لا زال فيها خير كثير، وأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كالذهب، ولكن تراكم عليه الغبار في هذا الوقت فيحتاج فقط إلى تنظيف ونفخ ونفض وإزالة هذا الغبار، وإذا زال الغبار تظهر المعادن الطيبة في الذكور والإناث، لا يتقدم عليهم الصحابة الأبرار إلا بفضل الصحبة رضي الله عنهم أجمعين، وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم عندما يقول في الحديث الذي رواه عنه الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته )، ولله الحمد والمنة، عندما تقال كلمة الحق يتقبلها أهل القلوب الطيبة من ذكور وإناث، عندما تنظف هذا المعدن الطيب وعندما تزيل عنه ما تراكم عليه تراه يتفاعل معك وكأن القرآن نزل عليه الساعة، والحمد لله رب العالمين، وما دامت الأمة بهذه الحالة، فهذه تبشر بخير، وأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا مزيداً من الإخلاص وتدبير الدعوة لتكون كلمة الله هي العليا إنه على كل شيء قدير.

    روى أبو نعيم في الحلية عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: لا تزالون بخير ما أحببتم خياركم، وما قيل فيكم الحق فعرفتموه. أي: إذا قيل فيكم الحق عرفتموه، واطمئننتم إليه، وقدمتموه، وارتاحت قلوبكم له، فهذا يدل على أمر حسن عظيم فيكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088612388

    عدد مرات الحفظ

    777631043