إسلام ويب

مرض الشبهات [2]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مرض الشبهات أخطر الأمراض التي تصيب القلب فتصده عن دين الله تعالى، وبسببه يسير الإنسان متبعاً هواه وأهواء المضلين، تاركاً شرع ربه وراء ظهره، ومن أخطر الشبهات على الإنسان شبهات البدع في الدين، إما بالزيادة فيه أو النقصان منه بقصد التقرب إلى الله تعالى بذلك، والبدعة معصية لكنها أحب إلى إبليس من المعاصي الأخرى؛ لأن صاحبها يتقرب بها إلى الله بزعمه على خلاف المعصية، ومنها ما هو كفر مخرج من الملة، ومنها دون ذلك.. بحسب مخالفتها وبعدها عن الدين.
    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    النقطة الثانية هي مرض الشبهات يقصد بمرض الشبهات: أن يسير الإنسان على هواه دون السير على شرع ربه جل وعلا، وقد ذكرت أن في القلب قوتين: قوةٌ علميةٌ، وقوةٌ إرادية، إذا فسدت القوة العلمية وقع في الشبه، وإذا فسدت القوة الإرادية وقع في الشهوات، فصاحب الشبهات على هواه دون شرع مولاه، فلا يميز بين الحق والباطل، بل يميل إلى الباطل، وأبرز ما يوضح هذا أمران اثنان:

    النفاق، وهذا من أمراض الشبهات الخبيثة.

    والثاني: البدع، وهذا من الشبه الخبيثة، وقد مضى الكلام على النفاق في محاضرةٍ سابقة، وسأتكلم الآن على البدع المحدثة في هذه المحاضرة إن شاء الله. ‏

    تعريف البدعة وحقيقتها

    يقصد بالبدعة: ما أحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، ما أحدث في دين الإسلام وأدخل فيه، إما أنه زاد وإما أنه نقص، وعلى هذا فالبدعة في حقيقتها معصية، ولكن صاحبها لا يرى نفسه عاصياً لله جل وعلا، فهو يفعل المعصية، ولكن يقول: إنها مباحة، وقد يصل به الحال إلى أن يقول: إنها مستحبة، هذا هو مرض الشبهات، فما ميز بين الحق والباطل، فأعطى للباطل حكم الحق، ففعل الباطل وأدخله في شرع الله جل وعلا، هذا معنى البدع: الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، فهي معصية، ولكن صاحبها لا يرى أنها معصية، وتكون بالاعتقاد إذا فعل خلاف الحق، وتكون بالعمل إذا تعبد الإنسان بما لم يأذن به الله عز وجل.

    طرق الشيطان لإغواء الإنسان وتفضيله البدعة على الكبائر والموبقات

    وهذا الأمر -أعني البدعة والحدث في دين الإسلام- يفضل الشيطان إيقاع الناس فيها على إيقاعهم في الكبيرة، وقد ذكر علماؤنا عليهم رحمة الله طرق الشيطان التي يضل بها الناس، ويعاديهم بها، وهي سبع طرق ينبغي للبصير اليقظ المهتدي أن يكون على دراية بها حتى يعادي الشيطان، كما أنه يعادينا: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6].

    الطريق الأول الذي يرصده الشيطان لإضلال الناس: إيقاعهم في الكفر والشرك، فإذا حصل هذا منهم حصل غايته الكاملة، فإذا عجز ينتقل لإيقاعهم في البدعة، أي: يزين لهم المعاصي باسم الشرع، وأما هذه فلا غضاضة فيها ولا حرج، كما سأتكلم على نماذج كثيرة من البدع التي نغوص بها وفيها، ونتخبط بها، ونظن أنه لا غضاضة فيها، وأنها مباحةٌ في شرع الله، ونسأل الله أن يلطف بحالنا.

    فإذا عجز عن إيقاعهم في الشرك يفضل إيقاعهم في البدعة، وإذا ما أمكنه أن يوقعهم في البدعة ينتقل لطريقٍ ثالث: فيزين لهم الكبائر من شرب خمرٍ وسرقةٍ وتعاملٍ بالربا وزنا وما شاكل هذا، ويفضل إيقاعهم في البدعة على إيقاعهم في الزنا وشرب الخمر؛ لأن شارب الخمر يعلم أنه عاصٍ، والمبتدع لا يشعر بذلك، ولذلك كلما ازداد في بدعته اجتهاداً ازداد من الله ابتعاداً، فإذا عجز عن إيقاعهم في الكبائر أوقعهم في الصغائر، وإذا عجز عن إيقاعهم في الصغائر شغلهم في المباحات، في القيل والقال فيما لا ينفع لتضيع أوقاتهم سدى، وإذا عجز عن إيقاعهم في المباحات، واستعملوا أوقاتهم فيما يقربهم إلى رب الأرض والسموات، انتقل إلى الطريق السادس فيوقعهم ويزين لهم فعل المفضول وترك الفاضل، أي: العمل الذي أجره قليل على العمل الذي أجره كثير، وإن كان كل من العملين صالحاً؛ ليفوت عليهم الربح العظيم والأجر الكثير.

    فإذا عجز عن هذا سلط أولياءه من الإنس على هذا المؤمن الذي لم يتلبث بواحدةٍ من هذه الطرق؛ ليؤذوه ويعادوه، فإذا صبر المؤمن أمام هذه المرتبة، وعادى من اتخذه الشيطان ولياً وحميماً، ولم يتخذهم أولياءً من دون الله، اتخذه الله ولياً حقاً، وقد تم إيمانه على وجه الكمال، فلا كفر، ولا بدعة، ولا كبيرة، ولا صغيرة، ولا انهماك في المباح، ولا يؤثر المفضول على الفاضل، ثم بعد ذلك يعادي أولياء الشيطان ويبغضهم في كبائر الذنوب.

    البدعة أحب إلى إبليس من المعصية

    قال الإمام سفيان الثوري عليه رحمة الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، والسبب في هذا: أن البدعة لا يتوب الإنسان منها؛ لأنه يعلم أنه على خير، وأما المعصية فيتوب الإنسان منها، ولذلك قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: المبتدع هو الذي يتخذ ديناً لم يأذن به الله. هذا زين له سوء عمله، فلا يمكن أن يتوب؛ لأن أول مراتب التوبة أن يشعر الإنسان بأنه فعل سيئاً وترك حسناً، وذلك الحسن إما مأمورٌ به أمر إيجابٍ أو أمر استحباب، أو ترك حسناً، وذلك الحسن مأمورٌ به أمر إيجابٍ أو أمر استحباب، فلم يشعر بذلك؛ لأنه ممن يفعل البدع، ويظنها أنها من شرع الله، فلا يمكن أن يتوب.

    ولذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يفعل المعاصي ويشعر بكراهيته لها أنه في حظيرة الإيمان وما خرج، وفي هذا إشارةٌ إلى أن المبتدع ليس كذلك؛ لأنه لا يشعر بقبح ما يفعله عندما يدخل في دين الله جل وعلا ما ليس منه، فيفعل المعاصي ولا يشعر بأنه عاصٍ فيها، وإذا وصل الإنسان إلى درجة أنه إذا فعل السيئ أو ترك الحسن ما يشعر بذلك؛ فليبك على نفسه، وليعلم أنه ممن التقم الشيطان قلبه، ولذلك ثبت في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير والأوسط، قال الحاكم : والحديث صحيحٌ على شرط الشيخين، وأقره الذهبي ، عن أبي أمامة ، وثبت الحديث أيضاً في سنن الترمذي عن عمر بسندٍ حسن، ورواه الطبراني في الأوسط عن علي ، ورواه الحاكم أيضاً وأحمد والبزار والطبراني عن أبي موسى رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)، ما دام يشعر بتلذذٍ إذا فعل الطاعة، وبكدرٍ إذا فعل المعصية، فقلبه مغمورٌ بالإيمان، وما خرج عن حظيرة الإسلام.

    وأما المبتدع صاحب الشبهات فيفعل المعاصي ولا يشعر بأنه يعصي الرحمن، ولذلك كانت البدعة أشنع من الكبيرة، وكان المبتدع أخبث عند الله جل وعلا من صاحب الكبيرة، والبدعة هي مقرونةٌ بالكفر والشرك، وكان الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله كثيراً ما يردد هذا القول: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة، فتولد عنهما خسارة الدنيا والآخرة. البدعة الحقيقة الكافرة تصاحبها دائماً هذه البدع الفاجرة الجائرة والشبهات، ويترتب على هذا خسارة الدنيا والآخرة.

    علاقة مرض الشبهات بأول ذنب عصي الله به

    مرض الشبهات هو أول مرضٍ وجد في ملك الله جل وعلا، أول معصيةٍ وقعت معصية إبليس، وهي عن طريق الشبهات عندما أمره ربنا جل وعلا أن يسجد لآدم: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، دخل من باب الشبهات للاعتراض على أوامر رب الأرض والسموات، وأن معدن النار أفضل من معدن الطين، فكيف يسجد إذاً لهذا المخلوق؟! فأول معصيةٍ وقعت في ملك الله وفي خلق الله عن طريق الشبهات، وهي معصية إبليس، وهي معصية الكبر التي تنشأ عن الاعتقاد الباطل، وهذا الكلام من إبليس كما قال أئمتنا عليهم رحمة الله: مردودٌ من جهاتٍ كثيرةٍ: أبرزها: أن هذا القياس فاسد الاعتبار لا ينظر في مضمونه؛ لأنه صادم النص، وإذا صادم القياس النص فهو فاسد الاعتبار، وإذا أعطى الإنسان رأياً يخالف به نصاً شرعياً من آياتٍ أو حديث فيسلك مسلك اللعين إبليس، ولذلك قال الشعبي وغيره: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، فهو قياسٌ فاسد.

    الأمر الثاني: مع أنه قياسٌ فاسدٌ، فهو قياسٌ باطلٌ أيضاً، فلا يسلم أن جوهر النار أفضل من جوهر الطين، فجوهر الطين أفضل من جوهر النار، وإذا أردت أن تعرف مقدار كلٍ من النار والطين فانظر لوصف كل واحدٍ منهما، أما الطين فمنه يخرج أقوات الآدميين، ومنه تكون الحدائق والبساتين، وتضع فيه بذرة فيعطيك شجرة، وأما النار فطبيعتها الطياشة والتفريق، وكيف يكون معدن الطين كمعدن النار!

    الأمر الثالث: سلمنا أن معدن النار أفضل من معدن الطين، فهل يقتضي هذا كون الفرع الذي خلق من النار أفضل من الفرع الذي خلق من الطين؟! لا ثم لا.

    إذا افتخرت بآباءٍ لهم نسبٌ قلنا صدقت ولكن بئسما ولدوا

    فأنت وإن كنت من معدن النار، وهو أفضل من معدن الطين، فلا يلزم أن تكون أفضل من آدم الذي خلق من معدنٍ أقل من معدنك، والإنسان يتفاضل بكسبه لا بما ليس في وسعه، سواءٌ خلق من معدنٍ فاضلٍ أو من معدنٍ مفضول، والناس يتفاضلون عند الله جل وعلا بالعمل الصالح.

    ومن أخبار بني إسرائيل، وهو من الملح والطرائف: أن إبليس عليه لعنة الله أراد أن يتوب بعد أن غضب الله عليه ولعنه وطرده، وقال: يا رب! تب علي، ومرض الشبهات مستحكمٌ فيه لا يمكن أن يزول عنه، فقال الله: أتوب عليك، ولكن بشرطٍ واحد -وهو العليم بحاله، وأن لعنته ستصاحبه إلى يوم القيامة- قال: وما هو؟ قال: تذهب إلى قبر آدم فتسجد له، قال: يا رب! ما سجدت له حياً أأسجد له ميتاً؟! فمرض الشبهات لا يزول عنه بحال من الأحوال، أنت ينبغي أن تعظم الآمر، فإذا أمرك فقل سمعاً وطاعةً، وهذا هو الحق، ولكن من ابتلي بالشبهات فهذا هو حاله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088575575

    عدد مرات الحفظ

    777418218