إسلام ويب

موقف المكلف من أعمال الدنيا والآخرة [1]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الحياة الدنيا دار فانية والحياة الأخرى دار باقية، والدنيا دار الهم والغم والتعب، والآخرة دار النعيم والفرح والسرور، والدنيا حقيرة قليلة مهينة، لا تساوي عند الله جناح بعوضة، والآخرة دار عظيمة ذات منزلة رفيعة ومكانة عالية عند الله، والدنيا فيها لذائذ ومتاع لكنها ليست خالصة للمؤمنين، بل إن الكفار أيضاً يتمتعون في الدنيا، بعكس الآخرة فإن متاعها ولذائذها خالصة للمؤمنين، لأجل ذلك كان على المؤمنين العاقل الحصيف أن يهتم بآخرته ويعمل لها، ويترك الدنيا ومتاعها، ويجعلها مطية إلى الآخرة.
    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، سبحانك ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا, إنك أنت العليم الحكيم.

    أما بعد:

    يا معشر الإخوة الكرام! إن الموضوع الذي سنتدارسه في هذه الليلة المباركة بإذن الرحمن هو حول موقف المكلف من أعمال الدنيا ومن أعمال الآخرة. فهذا الموضوع جميع دعوات الرسل الكرام عليهم صلوات الله وسلامه دارت عليه، ولذلك كل مكلف بحاجة إليه، والذي دعانا للكلام على هذا الموضوع أمران اثنان: ‏

    العاقل يتزود لكل دار بما يناسبها

    الأول: لا يخفى على أحد من المسلمين أن الدور التي يمر بها سائر الخلق أجمعين لا تخرج عن دور ثلاث: الحياة الدنيا، وهي الدار الأولى التي تبتدئ من تكوين الإنسان في بطن أمه وهو في ظلمات ثلاث حتى يفارق هذه الحياة الدنيا.

    الدار الثانية: هي دار البرزخ، وهي المرحلة التي تكون بعد خروجه من الدنيا حتى يوم القيامة.

    والدار الثالثة: هي الدار الآخرة، وهي آخر الدور.

    وقد قرر علماؤنا الكرام في كتب التوحيد أن الأحكام في الحياة الدنيا تنصب على ظاهر البدن، البدن هو الذي ينعم، وهو الذي يعذب، وتشعر الروح بالنعيم والعذاب الذي يصب على هذا البدن. فالروح هي الأصل والبدن تبع. وأما الدار الثالثة وهي أكمل الدور على الإطلاق الحياة الآخرة فكل من البدن والروح هناك يشعران بالعذاب والنعيم شعوراً أصلياً دون تبعية واحد منهما للآخر, ولذلك كانت الدار الآخرة هي أكمل الدور على الإطلاق.

    إخوتي الكرام! إذا كان الإنسان سيمر بهذه الدور الثلاثة فإذا كان عاقلاً ينبغي أن يتزود لكل دار بما يناسبها. أما الحياة الدنيا فستتركك رغم أنفك وإن لم تشأ تركها, لذلك إذا كنت عاقلاً اتركها قبل أن تتركك.

    وأما الدار الثانية -وهي البرزخ- فاعمره يا عبد الله! قبل أن تسكنه وقبل أن تنتقل إليه، وأما الدار الثالثة -وهي الدار الآخرة التي يتولى فيها رب العالمين الفصل بين مخلوقاته أجمعين- فأرض الله في هذه الحياة الدنيا قبل أن تلقاه، إذا كنت عاقلاً اترك الدنيا قبل أن تتركك، وعمر قبرك قبل أن تسكنه، وأرض الله جل وعلا قبل أن تلقاه.

    إخوتي الكرام! وهذا الأمر -أعني الإعداد لكل دار كما ذكرت- وهو ما دلت عليه شريعة الله المطهرة، وهو ما تقتضيه العقول الصريحة الصحيحة السليمة السديدة، لكن من ألقى نظرة إلى حياة الناس رأى ما يفطر الأكباد ويشيب الولدان, فالحياة التي سيتركونها والحياة التي ستتركهم انهمكوا فيها واستغرقوا فيها، وأعدوا العدة لها، وكأنها هي الدار الأولى والدار الآخرة، والدار التي سينتقلون إليها ليست على بالهم، ولذلك يقولون في حال انتقالهم: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100], فيقال لهم: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

    إقبال الناس على الدنيا وتركهم للآخرة

    إخوتي الكرام! وكما قلت: إن النسبة الغالبة من الناس يسلكون هذا المسلك المنحرف، فينهمكون في الحياة الدنيا, ويعرضون عن الحياة الآخرة، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، وبين لنا أن هذه النكبة ستزداد جداً في آخر الزمان، ففي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الأوسط بسند صحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وأصل الحديث في صحيح مسلم وسنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال النعمان بن بشير : صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة فسمعناه يقول: ( إن بين يدي الساعة فتناً يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً, يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل ). قال الحسن البصري عليه رحمة الله: لقد رأيناهم والله صوراً ولا عقول، أجساماً ولا أحلام, فراش نار وذبان طمع, يغدو أحدهم بدرهمين، ويروح بدرهمين, يبيع دينه بثمن العنز.

    إخوتي الكرام! وهذا الأمر كما فشا في العامة في الناس فشا فيمن يعدون من الخاصة، فقد ركنوا إلى الحياة الدنيا، وأعرضوا عن الحياة الآخرة. وقد أخبرني بعض الإخوة الطيبين من أهل هذه البلاد من قريب: أن بعض طلبة العلم الصالحين كان يحضر رسالة في التخصص في الماجستير في بلاد انجلترا -في بلاد الإنجليز- وكنت أشرت في محاضرة قريبة إلى خطر الخروج إلى تلك البلاد لطلب العلم، يقول لي هذا الأخ نقلاً عن ذاك الذي كان يعد الرسالة في حياة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: بعد أن انتهى الطالب من إعداد الرسالة وعرضها على المشرف القسيس النصراني الصليبي الملعون قال: هذه الرسالة من أولها إلى آخرها مرفوضة، ولا يمكن أن تأخذ الرسالة إلا إذا قلت في عمر بن عبد العزيز ما نقوله، ماذا تقولون يا إخوان القردة والخنازير في عمر بن عبد العزيز؟! فقال له: عمر بن عبد العزيز عندنا لا يخرج عن رجلين، وأمره يدور بين حالتين لا ثالث لهما، إذا لم تقيد هذا فاحمل رسالتك وانصرف إلى بلادك.

    الأمر الأول: عمر بن عبد العزيز أبله مغفل، لا يعرف قيمة الحياة الدنيا, حول الخلافة الأموية -على زعمهم- إلى شعارات كهنوتية .. إلى عبادة .. إلى خشية .. إلى إنابة .. إلى رجوع إلى الله جل وعلا. فاكتب هذا، أنه ساذج مغفل، لا يدرك الأمور الدنيوية، وليس هو بصيراً بما يتعلق بأحوال الناس.

    والأمر الثاني: هو مخادع خبيث ماكر يريد الشهرة بهذا الأمر الذي أحدثه في الخلافة الأموية. فإذا كتبت هذين الرأيين فالرسالة تجاب وتقبل، وتمنح الدرجة. فالرجل صار بين أمرين الآن: إما أن يغضب الله، وإما أن يغضب الإنجليز، تصوروا إخوتي الكرام! آثر غضب الله على غضب الإنجليز، وهو رجل من الصالحين، فقيد هذا في رسالته عن عمر بن عبد العزيز , لكن ناقل قال لي: إنه احتفظ برسالته ولا يريد أن ينشرها، فقلت له: نسأل الله أن يفرج عنا كروبنا، وأن يصلح أحوالنا. إذا تلبس الصالحون فينا بهذه الدرجة من الركون إلى الدنيا والخلود إليها، فماذا ينتظر من العامة؟! الخلود إلى الدنيا لأجل درجة علمية أو لأجل وظيفة شهرية أو غير ذلك صار هذا هو المعبود الأول فينا يا عباد الله! فاتقوا الله في أنفسكم، وأسأل الله أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد.

    إقبال العلماء والدعاة على الدنيا وزينتها

    روى أبو نعيم في كتابه الحلية في ترجمة الرجل الصالح أبي حازم سلمة بن دينار ، وهو ثقة عابد، وفوق الثقة من رجال الكتب الستة، يقول هذا الرجل الصالح: خيار الأمراء من يزورون العلماء ويحبونهم، وخيار العلماء من يزورون الأمراء ويحبونهم، وكان الأمراء في العصر الأول إذا أرسلوا إلى العلماء وإلى طلبة العلم لم يأتوهم، فإذا سألوهم لم يرخصوا لهم، فإذا أعطوهم لم يقبلوا منهم، فكان في ذلك صلاح للأمراء والعلماء، فلما رأى ناس ذلك -سبحان الله! علماء تتذلل لهم الأمراء!- قالوا: نطلب العلم لنأتي إلى الأمراء، فطلبوا العلم وذهبوا إلى الأمراء, فسألوهم فرخصوا لهم، فأعطوهم فأخذوا منهم، فتجرأ الأمراء على العلماء، وتجرأ العلماء على الأمراء، ففي ذلك هلاك الصنفين.

    إن الذي يصل به الحال إلى أن يكتب هذين الأمرين الخبيثين عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ماذا ينتظر منه؟ وكيف ستكون أحوال الأمة بعد ذلك؟

    إخوتي الكرام! قرر علماؤنا أن العالم إذا ترخص وانهمك في المباح انهمكت العامة في المكروه، وإذا توسع في المكروه توسعت الأمة في الحرام، وإذا وقع العالم في الحرام وقعت الأمة في الكفر. العالم سفينة، طالب العلم سفينة هلاكه هلاك العالم. ومما يفطر الأكباد أن بعضاً ممن يعدون من الدعاة نصحهم بعض الإخوة الطيبين، ونقل لي هذا عنه علم رب العالمين، فقال له: اتق الله في نفسك، فعندك شغالة، وأنت كنت تحذر من هذا، وتنصح الناس وتمنعهم عن ذلك، هلا بلغك ما يقول فلان عن الشغالات وعن حكمها؟ فقال هذا الحاكم وليس الداعية قال: إن الشغالة الحرام إذا استعملناها في الحرام، أي: إذا فعلنا بها الفاحشة، وأما ما عدا ذلك فلا حرج ولا غضاضة في ذلك. فإذا كان هؤلاء المعدون في صنف الدعاة فعلى الأمة السلام.

    عباد الله! لا بد من طلبة علم ينظرون إلى الدنيا كما نظر إليها الله أنها لا تسوى جناح بعوضة، وينظرون بعد ذلك إلى الآخرة إلى أنها الكل في الكل. عمر بن عبد العزيز يقول عنه الإمام الشافعي وسفيان الثوري كما روى هذا ابن أبي حاتم في مناقب الإمام الشافعي قال هذان الرجلان الشافعي والثوري : الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز، وسائرهم بعد ذلك مبتزون, أي: مغتصبون لسلطان الأمة. عمر بن عبد العزيز ينظر إليه على أنه إما مغفل ساذج صبي سفيه، وإما مخادع ماكر! وطالب علم صالح يقيد هذا. أين الاتباع لخاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه القائل: ( والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ).

    إخوتي الكرام! ويخبرني بعض إخواننا الصالحين عن طالب علم آثر الدنيا على الدين، وبدأ يكتب الحجب، ويستعمل السحر والشعوذة مع النساء والرجال، فلما خوطب في ذلك، قال له: لا تكثر من الكلام، فكلنا نعرف الحلال والحرام، وأنا على يقين -يقول له- بأن السحر من كبائر الآثام، قال: إذاً كيف تزاوله؟ قال له: لكننا نريد الفلوس، ثم قال له بالحرف الواحد: هات جنيهاً وخذ زوجتي!! سبحان ربي العظيم! سبحان ربي العظيم! وصل به الانحطاط إلى هذا الحد! جعلنا الدنيا المعبود الأول، وجعلنا أهواءنا الغاية الأولى.

    رحمة الله على الإمام الشبلي عندما يخاطب الوزير علي بن عيسى حينما كان وزيراً للخليفة المقتدر ، والقصة في الحلية في ترجمة أبي بكر الشبلي , عندما مرض وزاره الوزير علي بن عيسى فقال له الشبلي : كيف ربك؟ قال: ربي في السماء, يفعل ما يشاء، يقضي ويمضي، قال: لا أسألك عن ربك الذي لم تعبده، إنما أسألك عن ربك الذي تعبده، قال: من الرب الذي أعبده؟ قال: الخليفة، الخليفة الذي جعلته نداً لله، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] من أجل دريهمات، ومن أجل عرض من الدنيا قليل. ما أسألك عن الرب الذي لم تعبده، هذا معروف, الله في السماء يفعل ما يشاء، إنما كيف حال هذا الرب الذي جعلته نداً لله.

    إخوتي الكرام! ونحن طلبة العلم إذا لم نقتد بهذا المسلك ولم نجعل الدنيا في اعتبارنا كأنها لا تسوى جناح بعوضة أو أقل فلا خير فينا ولا خير في الأمة. هذا الأمر الأول الذي دعاني للحديث عن هذا الموضوع، موقف المكلف من عمل الدنيا وعمل الآخرة.

    إخوتي الكرام! وهذا الأمر -أعني الوصول إلى الدنيا والإعراض عن الآخرة- عدا عن كونه خروجاً عن المهمة الأصلية التي خلقنا من أجلها، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. يعتبر هذا الأمر -أعني إيثار الدنيا على الآخرة- حماقة ما بعدها حماقة، وجنوناً ليس بعده جنون، ووالله إن جنون الذين فقدوا عقولهم ووضعوا في المستشفيات أقل من جنون العقلاء الذين يؤثرون الدنيا على الآخرة، ورحمة الله على الإمام سفيان الثوري عندما كان كثيراً ما ينشد:

    باعوا جديداً جميلاً باقياً أبداً بدارسٍ خلقٍ يا بئس ما اتجروا

    وقد عاتب الله جل وعلا خير هذه الأمة وأفضلها وهم الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم عتاباً شديداً، ولولا ما أتبعه بالعفو والمغفرة لتفطرت قلوبهم؛ لأنهم ركنوا إلى الدنيا عن طريق اجتهاد خاطئ، لا عن طريق قصد، فعاتبهم الله جل وعلا عتاباً تتفطر منه الأكباد، يقول جل وعلا في سورة آل عمران: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152]، في موقعة أحد تقتلونهم قتلاً ذريعاً؛ لأن الله كتب النصر لرسوله وللمؤمنين. حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]. سبحان ربي العظيم! يقال هذا لخير هذه الأمة: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152]، النصر بعد أن صار لكم صار عليكم. وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]. فلولا هذا العفو لاستأصلكم الكفار عن بكرة أبيكم، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152].

    وهذه الآية نزلت في الرماة، كما ثبت هذا في تفسير ابن جرير عن ابن عباس والضحاك رضي الله عنهم أجمعين، عندما وضعهم النبي صلى الله عليه وسلم على الجبل وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال لهم: ( لا تبرحوا مكانكم ولو تخطفنا الطير ). فلما تم النصر للمؤمنين فقتلوا من قتلوا من المشركين، قال الذين هم على الجبل: تم النصر فلننزل لنجمع الغنائم، فنهاهم أميرهم عن النزول وعن مفارقة المكان، فأبوا إلا النزول, فلما نزلوا جاء جيش المشركين بعد ذلك من وراء الجبل وارتقوه ورشقوا المسلمين بنبالٍ كالمطر: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153], إلى آخر الآيات.

    ثبت في معجم الطبراني الأوسط وشعب الإيمان لـلبيهقي وتفسير ابن جرير بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل قول الله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]. وهم إنما فعلوا هذا تقرباً وابتهاجاً في جمع الغنائم التي أحلها الله للمجاهدين, فعاتبهم ربنا أبلغ عتابٍ وأعظمه، ولولا أنه أتبعه بالعفو، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152] لتفطرت قلوبهم.

    هذا هو السبب الأول.

    عدم شعور كثير من المسلمين بخطورة الإقبال على الدنيا والانهماك فيها

    السبب الثاني: أنه مع هذه الحالة التي نغوص فيها في الانهماك في الدنيا والركون إليها، والإعراض عن الآخرة والبعد عنها، لا نشعر بدائنا ولا بدوائنا ولا بحالنا، ولا بهذه المصائب العظيمة التي تفطر القلوب.

    يطغى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

    وإذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده

    قال الحسن البصري عليه رحمة الله: والله لقد عبد بنو إسرائيل الأصنام بعد عبادتهم للرحمن بحبهم للدنيا. وهكذا نحن انحرفنا عن عبادة الله بسبب حبنا للدنيا.

    إخوتي الكرام! ومع هذه الحالة يزيدنا الله في النعم ويغدق علينا الخيرات من كل مكان، ويستدرجنا من حيث لا نعلم، ولا ندري متى ستقع بنا عقوبة الله. ربنا لا تعاقبنا بما فعل السفهاء منا، وعافنا واعف عنا يا أرحم الراحمين!

    روى الإمام أحمد في المسند والطبراني في المعجم الأوسط وابن أبي حاتم في تفسيره وهكذا ابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان بسند ضعيف له شواهد كثيرة، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيت الله يعطي الرجل ما يحب وهو مقيم على معصيته فاعلم أن ذلك استدراج, ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44] ). روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن قتادة قال: ترك القوم أمر الله، فما أخذ الله قوماً إلا في حالة سكرتهم في الحياة الدنيا، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]. وروى أيضاً عن الإمام الحسن البصري عليه رحمة الله أنه قال: من وسع له في الدنيا فلم ير أنه قد مكر به إلا كان قد نقص عقله، ومن قدر عليه في الدنيا فلم ير أنه خير له، أي: واختير له ما هو الأنسب والأصلح, فلا عقل له، ثم تلا قول الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]. فقال الحسن البصري: أتم الله عليهم نعمه ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.

    وهذه الآية كقول الله جل وعلا في سورة الجن على أحد التفسيرين: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن:16-17]. وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ أي: على طريقة الضلال والكفر والزيغ والانحراف عن شرع الله؛ لفتحنا عليهم النعم من كل جانب، كما قال جل وعلا: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44].

    والتفسير الثاني يقابل هذا تماماً: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الحقة المستقيمة وهي الإسلام؛ لأنعمنا عليهم، كما قال جل وعلا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]. ولا تعارض بين التفسيرين مع تقابلهما، فأهل القرية والناس إذا استقاموا يغدق الله عليهم النعم إكراماً لهم؛ ليشكروا الله جل وعلا، فسيزدادوا درجات, وأهل القرية إذا أشروا وبطروا وكفروا أغدق الله عليهم النعم؛ ليزدادوا طغياناً، وليقطع الله لهم كل عذر، ويزيل لهم كل شبهة، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

    إخوتي الكرام! فهذا الأمر -كما قلت- يغوص فيه أكثر الناس، والأمر كما قال مالك بن دينار عليه رحمة العزيز الغفار: اصطلحنا في حب الدنيا، والقوم عندما يفتضحون يصطلحون. اصطلحنا في حب الدنيا، فلا يأمر بعضنا بعضاً، ولا ينهى بعضنا بعضاً، ولن يدعنا الله على هذه الحالة, ليت شعري أي عقوبة ستنزل علينا؟! وهذا الموضوع الذي سنتدارسه الآن ما أعلم أحداً من الخلق أكثر تخويفاً وتشويقاً فيه مني، والويل لي إن لم يعف ربي عني.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088601852

    عدد مرات الحفظ

    777586986