قال رحمه الله تعالى: (وفي الصحيح) أي: في صحيح
البخاري عن
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
إذا قضى الله الأمر ). يعني: تكلم الله بالأمر.
( في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً ) من الخضوع، وروي بضم أوله وسكون ثانية: (خُضْعاناً) أي: خاضعين. ( لقوله كأنه سلسلة على صفوان ) (لقوله) يعني: لقول الله عز وجل. (كأنه) أي: الصوت المسموع (صفوان) الصفوان: هو الحجر الأملس.
( ينفذهم ذلك ). أي: يخلص هذا القول ويمضي في الملائكة.
( ويبلغ منهم كل مبلغ، حتى إذا فزع عن قلوبهم ). يعني: أزيل الفزع والغشية عن قلوب الملائكة، أزيلت هذه الغشية التي أصابتهم بعد سماعهم لكلام الله عز وجل لما أوحى إلى جبريل.
( قالوا ) يعني: قال بعضهم لبعض: ( ماذا قال ربكم؟ ). استبشاراً. ( قالوا: الحق ). قال الله القول الحق، وقول الله الحق: الصدق في الأخبار، والعدل في الأوامر.
( وهو العلي الكبير ). تقدم علو الله عز وجل، له علو الذات، علو القهر، علو القدر.
( الكبير ) الذي لا أعظم ولا أكبر منه سبحانه وتعالى.
قال: ( فيسمعها ) يعني: هذه الكلمة التي أوحى الله بها إلى جبريل عليه السلام.
( مسترق السمع ) يعني: المختطف لكلام الملائكة من الشياطين.
( وصفه سفيان ) سفيان بن عيينة رحمه الله من كبار الأئمة، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة للهجرة، إمام ثقة من أهل الحديث.
وقوله: ( وصفه سفيان ) يعني: وصف ركوب الشياطين بعضهم فوق بعض حتى يصلوا إلى حيث يسمعون تحدث الملائكة بالأمر الذي يقضيه الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى أعطى هؤلاء الشياطين هذه القوة على أن يصلوا إلى أن يستمعوا إلى الملائكة وهم يتحدثون بالكلمة التي أوحى الله عز وجل بها إلى جبريل عليه السلام.
قال: ( وصفه سفيان بكفه فحرفها ) يعني: أمالها.
( وبدد بين أصابعه ) يعني: فرقها، حرفها: أمالها، وبدد بين أصابعه: فرقها.
قال: ( فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ). الشياطين يتراكبون ثم يلقيها إلى من تحته.
قال: ( حتى يلقيها على لسان الساحر ) الساحر الذي يتعاطى السحر، وسيأتينا باب مستقل في السحر ومباحث السحر، والسحر: هو عبارة عن قراءات ورقى وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى التأثير على بدن المسحور وعقله وإرادته. وهل السحر كفر أو ليس كفراً؟
ينقسم إلى قسمين، كما جاء عن الشافعي رحمه الله أنه يقال لنا: صف لنا سحرك. فما كان بواسطة الشياطين فهذا كفر، وما كان عن طريق الأدوية والعقاقير فهذا كبيرة من كبائر الذنوب.
وعلى كل حال -كما سيأتينا إن شاء الله- عقوبة الساحر القتل في كل حال؛ لعظيم فساده؛ ولأن هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، سيأتينا ما يتعلق بإتيان السحرة وأقسامهم ومتى يكون شركاً أكبر ومتى يكون كفراً أصغر.. إلى آخره.
قال: ( على لسان الساحر أو الكاهن ) الكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار.
( فربما أدركه الشهاب ) يعني: أدرك المستمع الشهاب، والشهاب: هو الذي يرمى به قبل إلقائها، والشهاب هذا ليس الكوكب، الكوكب شيء عظيم، والشهاب جزء من الكوكب، وإلا فإن الشهاب يعني: النجم، وهذا شيء عظيم.
قال: ( قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه ) ألقاها لمن بعده قبل أن يدركه الشهاب.
قال: ( فيكذب معها مائة كذبة ) هذا ليس على سبيل الحصر، وإنما هو على سبيل التمثيل، يعني: أنه يكذب معها كذبات كثيرة.
قال: ( فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ ) يعني: الكاهن الآن يكذب هذه الكذبات ويصدق الكاهن بكلمة واحدة، بسبب كلمة واحدة يصدق، وكلمات كثيرة مع أنه كذب فيها لا يكذب، وهذا يدل على ضعف الإيمان.
قال: ( قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة ) يعني: يصدق الساحر أو الكاهن بتلك الكلمة ( التي سمعت من السماء ).
وجه الشاهد من هذا الحديث كما تقدم في الآية، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر حال الملائكة حينما يسمعون كلام الله عز وجل حينما يوحي إلى جبريل بالأمر من عنده سبحانه وتعالى فتصيبهم الغشية، فإذا كان هذا في حال الملائكة وغيرهم لا يدانيهم ولا يساويهم في الصفات ولا في القوة، ففي هذا إبطال عبادة الملائكة لما يصيبهم من الفزع والخوف والخشية من الله سبحانه وتعالى، وإبطال من دونه من باب أولى، يعني: إبطال عبادة من دونهم من باب أولى، كالقبور والأضرحة ونحو ذلك.
وهذا الاستراق كان قبل البعثة، أما بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يتمكن الشياطين من استراق الوحي، وإنما هذا كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد البعثة انقطع ذلك؛ لئلا يختلط الوحي بكذب الدجلة السحرة والكهنة.