الهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهداية توفيق وإلهام، والأولى: يملكها كل داعٍ لهذا الدين، والثانية: لا يملكها إلا الله عز وجل، حتى النبي صلى الله عليه وسلم لا يهتدي على يديه إلا من أراد الله.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أكرم الخلق عند الله
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: [ باب قول الله تعالى:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
[القصص:56].
وفي الصحيح عن ابن المسيب ، عن أبيه قال: ( لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل ، فقال له: يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب . وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله عز وجل:
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى
[التوبة:113]. وأنزل الله في أبي طالب :
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
[القصص:56] )].
قال رحمه الله تعالى: (باب قول الله تعالى:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
[القصص:56]).
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن هذا الباب فيه رد على عباد القبور والأضرحة والذين يتعلقون بغير الله عز وجل؛ إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الناس عند الله عز وجل وأعظمهم جاهاً لا يملك لغيره نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله، فإذا كان هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى، بل من باب أولى هؤلاء الأموات أنهم لا يملكون ضراً ولا نفعاً، فإذا كانوا لا يملكون ضراً ولا نفعاً أدى ذلك أو فهم من ذلك أن دعاءهم والاستغاثة بهم وصرف شيء من أنواع العبادة لهم جهل وضلال، فيجب صرف العبادة والاستغاثة والدعاء لمن يملك ذلك، وهو الله عز وجل.
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهر: فيه الرد على هؤلاء القبوريين؛ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لغيره نفعاً ولا ضراً، فغيره من باب أولى، بل من باب أولى هؤلاء الأضرحة، فكيف يعبدون من دون الله عز وجل؟!
ومناسبة هذا الباب لما قبله: أن الباب الذي قبله الشفاعة، فإذا كان لا يملك أحد الشفاعة إلا بإذن الله عز وجل -وتقدم لنا شروط الشفاعة- كذلك لا يمكن أن يهديه إلا بإذن الله، فإذا كان لا يملك الشفاعة ولا يملك الهداية فتصرف العبادة لمن يملك الهداية ويملك أن يأذن بالشفاعة، أما غيره فإنه لا يملك شيئاً ولا ينفع ولا يضر، فكيف يعبد من دون الله عز وجل؟!
فمناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة، الباب الذي قبله ذكر فيه الشفاعة، وهذا الباب ذكر فيه الهداية.
قال رحمه الله تعالى: [باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين].
مناسبة هذا الباب في كتاب التوحيد: أن المؤلف رحمه الله تعالى ذكر سبباً من أسباب الوقوع في الشرك -يعني في هذا الباب- وسيذكر المؤلف رحمه الله أسباب الوقوع في الشرك.
كذلك من أسباب الوقوع في الشرك: التصوير، وسيذكره المؤلف رحمه الله: (التصوير وتعظيم الصور)، هذا سبب من أسباب الوقوع في الشرك، وسيذكره المؤلف رحمه الله، وسيعقد المؤلف رحمه الله باباً في التصوير، وسيأتينا إن شاء الله متى يكون التصوير شركاً. هذا سيأتي إن شاء الله.
كذلك من أسباب الوقوع في الشرك هو الغلو في القبور، بالبناء عليها ورفعها وتشييدها وتزويقها وتلوينها ونحو ذلك، الغلو في القبور هذا سبب من أسباب الشرك؛ ولهذا الإسلام جاء عدلاً فيما يتعلق بالقبور، لا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا جفاء، نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبور وأن يجلس عليها، يعني: لا تجلس على القبر؛ هذا من الجفاء، ولا تبن على القبر؛ هذا من الغلو، وفي حديث أبي الهياج أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال له: ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدعن صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ). فالصور والغلو في القبور هذا من أسباب الوقوع في الشرك.
أيضاً من أسباب الوقوع في الشرك ما ترجم له المؤلف رحمه الله تعالى وهو: الغلو في الصالحين.
وقوله: (باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم) بنو آدم يشمل الرجال والنساء، (وتركهم دينهم) يعني: إعراضهم عن دينهم ووقوعهم في الشرك سبب ذلك هو الغلو في الصالحين، والغلو: هو مجاوزة الحد والإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد وتعدي ما أمر الله عز وجل به.
والصالحون: جمع صالح، تقدم لنا أن الصالح هو من قام بحق الله وحق عباد الله، فهذا هو الصالح، فالغلو في الصالحين بالإفراط في تعظيمهم بالقول والاعتقاد وتعدي ما أمر الله عز وجل به، فهذا سبب من أسباب تشريكهم بالله عز وجل، وسيأتينا أن المؤلف رحمه الله أورد حديث ابن عمر : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ). فإطراء النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة في مديحه هذا ينقله من مرتبة العبودية.
والله أعلم.