قال: عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: (
اقتتلت امرأتان من هذيل -يعني: تضاربتا فيما بينهما- فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة ) كما تقدم فيما يتعلق بما تسقطه المرأة، وأن هذا ينقسم إلى أربعة أقسام سبق بيانها.
قال: ( وقضى بدية المرأة على عاقلتها ) يعني: على عصبتها، والعاقلة هم عصبة الشخص، وسموا بذلك لأنهم يعقلون القاتل، أي: يمنعونه.
قال: ( وورثها ولدها ومن معهم، فقام حمل بن النابغة الهذلي فقال: يا رسول الله! كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل ).
الاستهلال هو رفع الصوت بالبكاء، والمراد هنا أن حياته غير معلومة، لا تعلم حياته باستهلال أو بأكل أو شرب أو نطق ونحو ذلك.
( فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هو من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع ).
هذا حمل بن النابغة رضي الله عنه لما أراد أن يرد هذا الحكم الشرعي شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالكهان، والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، فشبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالكهان؛ لأنه أتى بشيء منكر أراد به أكل مال الغير، مثله بالكاهن يخبر ويكذب ويفتري، كل ذلك أكلاً لأموال الغير بالباطل.
هذا الحديث فيه مسائل، ومنها: ما يتعلق بدية الجنين، وذكرنا الأقسام في ذلك.
ومن مسائله: إثبات قسم من أقسام القتل، أو شبه العمد، وهذه المسألة موضع خلاف، يعني: أقسام القتل اثنان يتفق عليها العلماء رحمهم الله: العمد والخطأ لكن يختلفون في شبه العمد، فالمشهور عند العلماء من الشافعية والحنفية أنهم يثبتون شبه العمد، وعند الظاهرية والمالكية أنهم لا يثبتون شبه العمد، ويقولون: القتل ينقسم إلى قسمين: خطأ وعمد؛ لأن هذا هو الذي ورد في القرآن، لكن الصواب أنه كما في حديث أبي هريرة وحديث عبد الله بن عمرو ووارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم إثبات قسم شبه العمد.
فالصواب إذاً: أن الأقسام ثلاثة: خطأ، وعمد، وشبه العمد.
فقتل العمد هو: أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به.
وقتل الخطأ: أن يفعل ما له فعله، فيقتل آدمياً معصوماً.
وقتل شبه العمد: أن يقصد جناية لا تقتل غالباً مثل هذه القصة، ضربتها بالحجر والحجر لا يقتل غالباً، أو فسطاط كما في الحديث الآخر، يعني: العمود الدقيق، وهو لا يقتل في الغالب، لكنها قصدت الجناية، فهذا شبه العمد، والحنفية هم أوسع الناس فيما يتعلق بتقسيمات القتل، فهم يقولون: القتل خطأ، وعمد، وشبه عمد، وما جرى مجرى الخطأ، وفي قول لهم أيضاً يضيفون قسماً خامساً، خطأ وعمد، وشبه عمد، وما جرى مجرى الخطأ، والقتل بالتسبب.
وفي الحديث أيضاً: إنكار المنكر، كما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على حمل بن النابغة رضي الله تعالى عنه ما قاله؛ لأنه أراد أن يرد به حكماً شرعياً.
والسجع هل هو مذموم أو ليس مذموماً؟
السجع ورد في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فنقول: السجع ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يقصد به أمر منكر وباطل كما في هذا الحديث، فإذا قصد به الإعانة على الباطل، أو يكون متكلفاً، فهذا مذموم.
القسم الثاني: ألا يكون متكلفاً، أو يقصد منه أمر محمود، أو لا يقصد منه أمر باطل، فنقول: هذا جائز؛ لأن هذا جاء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه المشابهة بين السجع المذموم والكهانة أن الكهان يروجون أقوالهم بالأكاذيب ليأكلوا أموال الناس بالباطل، وأيضاً الذين يسجعون سجعاً مذموماً يروجون كلامهم بهذا السجع المذموم، ويروجون باطلهم ويأكلون أموال الناس.
وفي هذا الحديث أيضاً: أن الدية في قتل شبه العمد وفي الخطأ تحمله العاقلة، القاتل لا يتحمل الدية إلا في قتل العمد فقط، أما في قتل الخطأ وقتل شبه العمد فالذي يتحمل الدية هي عاقلة القاتل، وسيأتينا إن شاء الله الكلام حول العاقلة بإذن الله والله أعلم.