الطاعون رجز وعذاب أرسله الله على بعض الأمم التي كانت قبلنا بسبب ذنوبهم، وبقي منه شيء، وقد يقع البلاء العام منه بسبب الذنوب، ومن الهدي النبوي أنه إذا وقع في أرض ولسنا فيها لا نقدم عليها، وإذا وقع ونحن فيها لا نخرج منها فراراً منه.
اختلف العلماء رحمهم الله في تفسير الطاعون، فذهب بعض العلماء إلى أن الطاعون هو الوباء العام الذي يُبتلى به الناس.
وقال بعض العلماء بأن الطاعون: هو عبارة عن قروح تظهر في بدن الإنسان في الآباط والمرافق والأصابع ونحو ذلك، وتسبب هذه القروح ألماً وتلوناً باخضرار واسوداد ونحو ذلك حتى تأتي على الإنسان.
وفي هذا أيضاً: أن الطاعون رجز أو عذاب أُرسل على من قبلنا، وأنه كان موجوداً فيمن قبلنا، ابتلاهم الله عز وجل بهذا البلاء بسبب الذنوب والمعاصي، وكذلك هو موجود في هذه الأمة بسبب الذنوب والمعاصي، فإذا حصلت هذه الذنوب والمعاصي فإن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده بهذا الوباء.
هذا الحديث فيه شؤم عظم الذنوب، وأن الذنوب من شؤمها أنه يقع بسببها الوباء العام الذي يعم الناس، وفيه أيضاً أن من شؤم الذنوب أن بسببها تقع الأمراض المهلكة التي تؤدي إلى هلاك الإنسان؛ لأن الطاعون هذا من الأمراض المخوفة التي يُخشي على الإنسان منها الهلاك.
وفيه: أن الطاعون أُرسل على من قبلنا بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وأيضاً أُرسل في هذه الأمة بسبب ذنوبها ومعاصيها.
وفيه أيضاً: أن الإنسان إذا سمعه بأرض فإنه لا يقدم عليه كما سيأتينا إن شاء الله، وإذا وقع في أرض وهو فيها فإنه لا يخرج منها، هكذا جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله: (فراراً منه): أنه لا يخرج من البلد التي وقع فيها الطاعون إذا كان على سبيل الفرار، أما إن خرج لغير الفرار، كأن خرج لحاجة من الحاجات ومصلحة من المصالح، فإن هذا جائز ولا بأس به، وإنما يُنهى عن الخروج إذا كان فراراً.
(سرب) هذه: بلد في الشام، العلماء يقولون: بطرف الشام مما يلي الحجاز.
(فلقيه أمراء الأجناد). والمقصود بذلك بأمراء فلسطين والأردن ودمشق وحمص الذين بعثهم عمر رضي الله عنه أمراء على هذه البلاد.
قال: [أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس : فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم فاستشارهم].
قال العلماء: المراد بالمهاجرين الأولين: هم الذين صلوا إلى القبلتين، يعني: القبلة كانت أولاً لبيت المقدس ثم نُسخ ذلك إلى الكعبة.
[فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية أصحاب الناس وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تُقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني.
ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم له فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني.
ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح].
مشيخة قريش المراد بهم: من أسلموا متأخراً من كبار قريش.
[قال: فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه].
قول عمر رضي الله عنه: (إني مصبح على ظهر)، يعني: أني راكب ظهر دابتي وراجع إلى المدينة.
أبو عبيدة رضي الله عنه يقول لـعمر : أفراراً من قدر الله، يعني تفر من قدر الله، لأن عمر رضي الله عنه كان قاصداً الشام، فقال أبو عبيدة : أفراراً من قدر الله؟ قال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة !
يعني: لا ينبغي لك أن تقولها وأنت من أنت من المنزلة في الفضل والعلم والصحبة المتقدمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
[فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، وكان عمر يكره خلافه].
قال: [نعم. نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان -له جانبان- إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رأيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رأيت الجدباء رعيتها بقدر الله؟
من مسائل هذا الحديث: أنه ينبغي للإمام الأعظم أن يخرج إلى بعض بلاده وأن يزور البلاد التي يحكمها، لكي يقف على أحوال الناس وأحوال من ولاهم على هؤلاء الرعية، وينظر في مصالح الناس وما يحتاجون وما يشتكون منه آخره، كما أراد عمر رضي الله عنه.
وفي هذا أيضاً: مشورة عمر رضي الله عنه، فإن عمر رضي الله عنه شاور الناس فيما يتعلق بهذا الوباء.
وفيه أيضاً: أن الناس يتفاوتون في العلم، عمر من هو في منزلته وصحبته لرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك خفيت عليه هذه السنة التي تتعلق بسنة الطاعون، وأنه إذا وقع في بلد وأنت فيها فلا تخرج منه فراراً، وإن كنت خارج البلد لا تقدم عليه، نعم عمر رضي الله عنه خفي عليه شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أن الإنسان وإن بلغ ما بلغ من العلم فإن هذا إذا نقصه شيء من العلم أو شيء من السنة لا يضيره، ولهذا الخضر رحمه الله قال لموسى عليه الصلاة والسلام: يا موسى إنك على علم علمك الله إياه لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمني الله إياه لا تعلمه أنت. وموسى عليه الصلاة والسلام من أولي العزم من الرسل.
فدل ذلك على أن الإنسان مهما بلغ من العلم والفضل أنه سيخفاه شيء من العلم وشيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا أيضاً: إنزال الناس منازلهم، فـعمر رضي الله عنه دعا أولاً بالمهاجرين الأولين واستشارهم، ثم بعد ذلك دعا الأنصار، ثم مشيخة قريش من مهاجرة الفتح إلى آخره، فقدم أهل الفضل لفضلهم، قدم المهاجرين الأولين ثم الأنصار ثم مشيخة قريش من مهاجرة الفتح ممن تأخر إسلامه.
وفي هذا أيضاً: أن المسائل الاجتهادية أن الناس يختلفون فيها، وإلا فإن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع فضلهم اختلفوا، فبعضهم قالوا: نرى أنك قدمت يا عمر فنرى أن تتخلف عنه، وبعضهم قالوا: معك بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فالناس يتفاوتون في المدارك والأفهام ونحو ذلك.
وفي هذا أيضاً: فضيلة مشيخة قريش، حيث إنهم لم يختلف منهم رجلان في أن عمر يرجع ولا يُقدم على هذا الوباء، فهم وافقوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة.
وفي ذلك أيضاً كما سلف: أن كون الإنسان يكون أكثر ديناً وأكثر فضلاً لا يلزم من ذلك أن يكون أكثر فهما وعلماً، وإلا فإن المهاجرين الأولين والأنصار هم أفضل من مشيخة قريش ممن تأخر إسلامهم، ومع ذلك اختلفوا والأنصار اختلفوا، وهؤلاء لم يختلفوا، ويظهر والله أعلم أيضاً أن التجربة والخبرة لها أثر، هؤلاء لكبر سنهم وما لهم من التجربة والخبرة والدراية والمعرفة لمثل هذه الأشياء أصابوا.
وفي هذا أيضاً: فضيلة عمر رضي الله عنه، حيث إن عمر رضي الله عنه لما اختلف عليه المهاجرون الأولون لم يأخذ بكلامهم، واختلف عليه الأنصار فلم يأخذ بكلامهم، واتفق مشيخة قريش على الرجوع فأخذ بكلامهم، فكونهم اتفقوا يدل على أن الصواب معهم، وهذا نأخذ منه أيضاً أنه كلما حصل اتفاق نعرف أنه أقرب إلى الصواب كلما حصل الاختلاف والشقاق نعرف البعد عن الصواب.
وفي هذا أيضاً: فضيلة أبي عبيدة رضي الله عنه، فإن عمر رضي الله عنه كان يكره خلاف أبي عبيدة رضي الله عنه؛ ولهذا لما قال أبو عبيدة : أفراراً من قدر الله؟ قال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! فعتب عليه عمر رضي الله عنه.
وفي هذا أيضاً: أن عدم القدوم على الطاعون ليس فراراً من قضاء الله وقدره، بل هو كما قال عمر : نفر من قدر الله إلى قدر الله. نعم السلامة من قدر الله والوباء أيضاً من قدر الله، فنحن نفر من قدر الله على قدر الله.
وفي هذا أيضاً: ضرب المثال، كما فعل عمر رضي الله عنه، وضرب المثال أيضاً حتى ولو كان للشخص الكبير وذي الفضل كـأبي عبيدة رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه قرب له الحكم بضرب المثال.
وفي هذا أيضاً: فضيلة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، حيث إنه حفظ هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حكم القدوم على الطاعون أو الفرار منه
ما يتعلق بالقدوم أن السنة بالنسبة للطاعون أنه إذا وقع في بلد فإن الإنسان لا يقدم عليه، وإذا وقع في بلد هو فيها فإنه لا يخرج منها فراراً منه.
ذكرنا أن الخروج إما أن يكون فراراً فلا يجوز، وإما أن يكون لحاجة لا لقصد الفرار فإن هذا جائز ولا بأس به.
أما الخروج من البلد الذي وقع فيها الطاعون فإن كان لغير الفرار، بل لحاجة من الحاجات ونحو ذلك، فهذا حكمه جائز؛ لكن إذا كان ذلك فراراً فهل هذا جائز أو ليس جائزاً؟ للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:
الرأي الأول: أنه ليس جائزاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن ذلك، ولأنه ورد عن عائشة أن الفرار من البلد التي وقع فيها الطاعون كالفرار وقت الزحف أو حين الزحف، والفرار وقت الزحف حكمه محرم من كبائر الذنوب.
والرأي الثاني: قالوا بأن هذا جائز، لكن يُحمل النهي على الكراهة لورود ذلك عن أبي موسى رضي الله عنه وعمرو بن العاص .
ويظهر والله أعلم أن ما ذهب إليه أهل الرأي الأول من أنه لا يجوز أقرب لظاهر النهي؛ ولأن الطاعون شهادة، وكون الإنسان يفر منه هذا زهد في هذا الفضل العظيم.
وفي هذا أيضاً: أن الإنسان إذا وافق الحق والصواب ينبغي له أن يحمد الله وأن يشكره، فإن عمر رضي الله عنه لما سمع ما نقله عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من سنة النبي وأنها موافقة لما سار عليه، حمد الله ثم انصرف.
قال: [وحدثناه إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد قال ابن رافع : حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر بهذا الإسناد نحو حديث مالك ، وزاد في حديث معمر قال: وقال له أيضاً: أرأيت أنه لو رأي الجدبة وترك الخصبة أكنت معجزه -يعني: تنسبه إلى العجز- قال: نعم قال: فسر إذاً].
يعني: لو أنه ترك الأرض الخصبة ورأى الأرض الجدبة هل تنسبه يا أبا عبيدة إلى العجز؟ قال: نعم، قال: سر إذاً.
[قال: فسار حتى أتي المدينة فقال: هذا المحل، أو قال: هذا المنزل إن شاء الله].
وفي هذا أيضاً: أدب المناظرة وأدب المجادلة، وانظر إلى عمر رضي الله عنه لما أنكر عليه أبو عبيدة رضي الله عنه كيف ناظره عمر ! وكيف أدبه عمر ! مع أنه هو الخليفة، قال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! يعني: يشير إلى ما عليه من الفضل والعلم إلى آخره، وأنه لا ينبغي لك أن تقول مثل هذا، ولم يشدد عليه في الإنكار.
وأيضاً: من آداب المناظرة والمجادلة ما يتعلق بضرب المثال وحسن الإقناع، وقال: هل تنسبه إلى العجز لو أنه رعى الأرض المجدبة وترك المخصبة؟ قال: نعم، قال: سر إذاً.