الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده تعالى وأشكره، ألف بين قلوب المؤمنين، وجعلهم إخوة متحابين متراحمين على الخير متعاونين، لألسنتهم وجوارحهم حافظين، وعن الغيبة مبتعدين، وعن أعراض إخوانهم مدافعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، وإمام المتقين، وسيد ولد آدم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الطيبين وعلى صحابته أجمعين، ومن اقتفى أثرهم ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله ربكم، وترجموا التقوى إلى سلوك عملي في أمور حياتكم، يحملكم ذلك على حب الخير وإشاعته ودرء الشر وإقصائه.
عباد الله! من أهم ما يميز المجتمع الإسلامي أنه مجتمع مودة وتراحم، وتكافل وتلاحم، يقوم على أسس التعامل المشترك والتقدير المشاع بين أفراده، لا مكان فيه للأثرة الممقوتة، ولا للأنانية المقبوحة، قلوب أفراده مفعمة بالحب لإخوانهم، وألسنتهم تلهج بذكر محاسنهم وفضائلهم، حذرة من الوقوع في أعرضهم، والنيل من كرامتهم، كما وصفهم الله عز وجل بقوله:
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
[الفتح:29]، وقوله:
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
[المائدة:54].
لقد أحاط الإسلام المجتمع المسلم بسياج منيع من داخله يحول دون تصدع بنيانه، وتزعزع أركانه، فأقام الحصانات الكافية، الحائلة دون معاول الهدم والتخريب أن تتسلل إليه، وطالب القرآن والسنة المسلمين أن يرعوا حق الإيمان والأخوة، وأن يصلحوا ذات بينهم، وأن يحفظوا ألسنتهم من الوقوع في أعراض المؤمنين.
عباد الله! هناك مرض عضال، وداء خطير منتشر بين الناس، قل أن تسلم منه المجالس، ويندر أن ينفك منه مجتمع من المجتمعات، بل إنه يضرب أطنابه في كثير من مجالسنا إلا من رحم الله، ومع عظيم خطره على الإيمان والأخلاق، وكبير أثره على الأفراد والأسر والمجتمعات، نجد أن كثيراً من الناس رجالاً ونساء واقعين فيه، إنه داء الغيبة، ويا لها من خصلة ذميمة، تنمو عن ضعف الإيمان وحرارة اللسان، صاحبها يمثل ضعف الخلق وقلة الوازع.
الغيبة مصيبة على المجتمع، تفعل في القلوب والأرواح أفعالاً عجيبة، تؤثر على الأسر والمجتمعات آثاراً خطيرة، وتفعل بها فعل النار في الهشيم، تفرق بين الإخوة، وتباعد بين الأحبة، وتفسد العلاقات بين الزملاء، وتعكر المودة بين الأصدقاء، كم فرقت بين المرء وزوجه، وبين الابن وأبيه، وبين الأخ وأخيه، كم مزقت من أسر، وكم أذكت من أحقاد وأورثت من ضغائن، وأوغرت من صدور.
لقد جاء القرآن والسنة بتحريم الغيبة تحريماً قاطعاً، بل نقل
القرطبي رحمه الله تعالى الإجماع على أن الغيبة من الكبائر، قورنت بالقتل والربا والزنا وسائر الكبائر، قال
ابن حجر رحمه الله تعالى: الغيبة هي الداء العضال، والسم الذي في الألسن أحلى من الزلال، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (
كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)، فقرنها النبي صلى الله عليه وسلم بقتل النفس وسرقة المال وغصبه.
قال الحسن البصري رحمه الله: والله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكلة في جسده، وقال الله عز وجل:
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ
[الحجرات:12].
فتأمل رحمك الله هذا الأسلوب البليغ في النهي المقرون بالمثال الذي يزيد الأمر شدة وتغليظاً، والعمل قبيحاً،
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ
، فإن أكل لحم الإنسان من أعظم ما يستقذر به النفس ولو كان كافراً، فكيف إذا كان أخاً في الدين؟ فإن الكراهة أعظم، بل فكيف إذا كان ميتاً وجيفة! فسبحان الله! سبحان الله! ما أعظم خطر الغيبة! ويا سبحان الله! ما أكثر تساهل الناس بها اليوم حتى لكأنها مائدة مجامعهم! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فسر النبي صلى الله عليه وسلم الغيبة بقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أتدرون ما الغيبة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)، رواه مسلم ، فكل ما يكرهه المسلم في خلقه أو خلقه أو في علمه أو في مركبه، فهذا داخل في الغيبة.
الأدلة من السنة على عظم خطر الغيبة
تحذير السلف من الغيبة
قال
ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن العجب أن الإنسان يهول عليه الاحتراز عن كثير من المحرمات، ويحرم عليه التحفظ من حركة لسانه حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يزل بالواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب.
وقال الحسن رحمه الله: إذا رأيت الرجل يشتغل بعيوب غيره ويترك عيوب نفسه فاعلم أنه قد مكر به.
وقال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل، لقد أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الأدب الرفيع، حيث قال: (لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر)، رواه أبو داود.
أين هذا من حال المفتونين بتتبع الزلات وتعقب الهفوات، يمتطون صهوة سوء الظن بإخوانهم، ورب كلمة تموت في حينها ولا تبارك مكانها، ورب كلمة صارت شرارة تعقبها نار ملتهبة تقضي على الأخضر واليابس.
ومنهج السلف رحمهم الله التناصح المحبوب لا التفاضح المذموم، قال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس فإنه داء.
وقال بعض السلف: الغيبة أشد من الزنا، قيل: وكيف؟ قال: الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه، وصاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه.
وقال قتادة رحمه الله تعالى: ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من البول، وثلث من النميمة.
واغتاب رجل آخر عند بعض السلف فنهره، فقال: يا هذا! إياك والولوغ ولوغ الكلاب.
عظم غيبة العلماء والأمراء
عباد الله! من أشد الغيبة خطراً وأعظمها ضرراً الوقوع في أعراض من له منصب ديني أو دنيوي، فالعلماء وأهل الدعوة والإصلاح لحومهم مسمومة، وغيبتهم مذمومة، ومن ابتلي بالوقوع فيهم والسلب لهم ابتلاه الله قبل موته بموت القلب والعياذ بالله كما قال ذلك الحافظ
ابن عساكر رحمه الله تعالى.
الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، قوله الحق ووعده الصدق وأمره الإحسان، نحمده تعالى ونشكره بالعمل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في العبادة والتدبير والرزق، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلى كافة الخلق، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! واحرصوا على اجتماع القلوب، وراقبوا ربكم علام الغيوب، ابتعدوا عن مجالس الغيبة، فشؤمها يعم المتكلم والسامع، ولا تغتروا بكثرة المغتابين، لقد أدركنا جميعاً خطورة الغيبة وشناعتها، وأنها تحصل بأدنى شيءٍ يذكر على المسلم وهو يكرهه، خلقاً أو خلقاً أو نحو ذلك.
كما تبينت حكمة الإسلام في تحريمها، حفاظاً على أعراض المسلمين، وتأكيداً لحرماتهم وصيانة للمجتمع من معاول الهدم والتخريب.
وإذا بحثنا عن الأسباب والبواعث لهذا المرض الخطير، وجدناها لا تعدو: ضعف الإيمان وقلة الوازع وعدم الخوف من الله، إضافة إلى التشفي والغيظ والانسياق وراء رغبات النفس الأمارة بالسوء، والعمل على وضعها فوق منزلتها، والحط من أقدار الآخرين، فالذي يغتاب الناس يقول بلسان حاله: أنا الكامل والناس مخطئون، وأنا المحق والناس مبطلون، وكفى بذلك ضعة ودناءة، أضف إلى ذلك تمكن الحسد والشحناء والضغائن، والاسترسال مع الآخرين مجاملة دون حسيب ولا رقيب.
عباد الله! والعلاج لهذا المرض الخطير التوبة إلى الله؛ بالكف عن هذا الذنب العظيم، وكثرة الاستغفار ومجانبة مجالس الغيبة، والبعد عن أهل السوء والباطل، والدعاء لمن اغتبته، وذكره بالخير والتحلل منه إن أمكن ذلك، فإن كان إخباره سيولد ضغينة وحقداً، فعليك أن تكثر من الدعاء له، وأن تذكره بالخير، وأن تبدي محاسنه في المكان الذي اغتبته فيه.
وأيضاً: علينا أن نحافظ على كفارة المجلس وختامة بالاستغفار، وأطر النفس على الحق، وطلب المعاذير للمسلمين والبعد عن الشائعات والظنون السيئة، وتذكر الموت والدار الآخرة.
يروى أن معروف الكرخي رحمه الله كان إذا اغتاب عنده أحد قال: يا هذا! اذكر الكفن والقطن والحنوط إذا وضع عليك، ويا لفوز وسعادة من اغتابهم الناس؛ لاستفادتهم من حسناتهم.
يروى أنه لما بلغ الحسن البصري رحمه الله أن رجلاً اغتابه أرسل إليه طبقاً من رطب، وقال: بلغني أنك أهديت إلي حسناتك؛ أي: بغيبتك لي، فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني فإني لا أقدر على مكافأتك على التمام.
اتقوا الله عباد الله! وتوبوا إلى ربكم من جميع الذنوب والمعاصي تسعدوا وتفلحوا في دنياكم وأخراكم، رزقنا الله التوبة النصوح والأوبة الصادقة بمنه وكرمه.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة المبشرين، وعن بقية صحابة نبيك أجمعين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، وجعل اللهم الدائرة عليهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر المسلمين عليهم، اللهم وحد كلمة المسلمين، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، اللهم احقن دماءهم، واحفظ أموالهم وأعراضهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واقض الدين عن المدينين، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم اجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم ورفعة لدرجاتهم، اللهم ارحم موتى المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، واخصص من ذلك الأقربين من الوالدين والإخوة والأخوات والأعمام والعمات يا أرحم الراحمين، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله إنا إلى الله راغبون، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.