إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن من الأهداف والمقاصد التي جاءت بها شريعتنا السمحة بناء الفرد وإقامة المجتمع الصالح، الذي تصل بين أفراده جسور المحبة والصفاء، وتنشأ بين أبنائه علاقات الأخوة والتعاون، القائمة على أسس التعاون المشترك والحب المتبادل، فلا مكان فيهم للأنانية، ولا الأثرة ولا الفردية، قلوب الأفراد مفعمة بالحب لإخوانهم، وألسنتهم سرت بذكر محاسنهم وفضيلتهم، سليمة من الوقوع في أعراضهم، لا يحملون حقداً، ولا ينشرون كذباً.
لقد طالب الإسلام أهله أن يرعوا حق الإيمان والأخوة، وأن يصلحوا ذات بينهم إن كانوا مؤمنين، وأن يقفوا سداً منيعاً أمام الأمراض الاجتماعية، التي تأتي على بنيان المجتمع من القواعد، وتحوله إلى مجتمع صراع، لقد دعا الإسلام إلى الحفاظ على سلامة المجتمع، وضمان أمنه واستقراره، وإنه لا يزال المجتمع بخير ما عرف فيه أفراده حقوق بعضهم تجاه بعض، وسادت بينهم الأخلاق الفاضلة التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن منهج السلف رحمهم الله تعالى: الستر والتناصح، لا النم والتفاضح، يقول
عمر رضي الله عنه: لا تظن بكلمة خرجت من فيّ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً، إن من الشجاعة أن تواجه أخاك بما فيه، وإن من الجبن أن تظهر له المحبة، وتقول له: أنت أنت فإذا تواريت قلبت له ظهر المجن، فأبديت عيوبه، وقلت: فيه وفيه، وتلك ليست من مسالك المؤمنين.
وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه )، خرجاه في الصحيحين.
وإن تعجب فعجب شأن من يسلم عقله لهؤلاء النمامين، والذين ينقلون الشائعات، فيصدقهم في كل ما يقولون دون تثبت، قال الغزالي رحمه الله تعالى: من حملت إليه النميمة، وقيل له: إن فلاناً قال فيك كذا وكذا، أو فعل في حقك كذا وكذا، أو هو يدبر إفساد أمرك، فعليه بستة أمور:
الأول: أن لا يصدقه؛ لأن النمام فاسق، والفاسق مردود الشهادة.
الثاني: أن ينهاه عن ذلك.
الثالث: أن يبغضه في الله تعالى.
الرابع: أن لا يظن بأخيه الغائب السوء.
الخامس: أن لا يحمله ما حكي له على التجسس والبحث، وتتبع العورات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضح ولو في جوف رحله ).
السادس: ألا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، ولا يحكي نميمته.
جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله فذكر له عن رجل شيئاً، فقال عمر رضي الله عنه: يا هذا! إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية:
إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا
[الحجرات:6]، وإن كنت صادقاً، فأنت من أهل هذه الآية:
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ
[القلم:11]، وإن شئت عفونا عنك فلا تعود إليه، فقال: العفو يا أمير المؤمنين! ولا أعود إليه أبداً.
إننا لنشكو إلى الله تفشي هذه الظاهرة في صفوف كثير من المسلمين اليوم، ألا فلنتق الله عباد الله، ولنحذر من هذه المسالك المشينة، لتتق الله النساء، فإن سوق النميمة ونقل الأقوال من غير تثبت في صفوفهن رائجة، وليتق الله أصحاب الاستشارات، وحملة الأقلام والتقريرات فلا يتحاملوا على البرآء الغافلين، ولا يسيئوا الظن بالمسلمين، ولاسيما أهل الخير والفضل، وليتق الله طلبة العلم فلا يحملهم الخلاف فيما فيه سعة، ولا الانتصار لوجهات النظر على الوقيعة في إخوانهم وسوء الظن بهم.
وليتق الله أرباب هذه البضاعة الخاسرة، فيفكوا عن هذا المسلك الذي حرمه الله ورسوله، وليتوبوا إلى ربهم قبل أن يفجعهم الأجل ولات ساعة مندم.
اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا، واهدنا سبل السلام، اللهم اكفنا شر كل حاسد ونمام، إنك خير مسؤول وأكرم مأمول، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.