يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
عباد الله! تكلمنا فيما سبق عن عداوة الشيطان ومكايده ومداخله على الإنسان ووسائله في الإضلال، وبقي علينا أن نعلم كيف نتحصن منه، وكيف جاءت الشريعة بالتحصين منه.
عباد الله! لقد اشتمل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أنواع من التحصينات، التي تشرع للمسلم لكي يتحصن بها من هذا العدو المتربص.
فمن ذلك: إخلاص العبادة لله، فالشيطان نفسه يعترف ألا سبيل له على المخلصين: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39-40].
والمخلص: هو الذي يعمل ولا يحب أن يحمده الناس، وقيل: هو الذي يراقب الله عز وجل في عمله، وقيل: هو من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته، والإخلاص دوام المراقبة ونسيان الحظوظ كلها، وهو شرط في قبول العمل، روى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وابتغي به وجهه).
ولا بد مع الإخلاص من علم يعبد المرء به ربه على بصيرة، وبه يعلم منافذ الشيطان ووساوسه فيبطلها، وبه يعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيتبعها، ولذا فعالم عامل ناصح لنفسه، أشد على الشيطان من مائة جاهل أو يزيدون.
ومن ذلك: العبادات المشروعة كلها وسائل لصد الشيطان، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) رواه أبو داود بإسناد حسن.
وإذا كانت الصلاة المفروضة مع الجماعة طاردةً للشيطان، فصلاة النفل في البيت سبيل لنفرة الشيطان، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً)، قال النووي رحمه الله: حث على النافلة في البيت؛ لكونها أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك، وتنزل فيه الرحمة والملائكة، ولينفر الشيطان.
وليس يخفى أن الوضوء والأذان والصلاة كلها وسائل منفرة للشيطان.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه. انتهى كلامه.
ولهذا أمر المسلم بالاستعاذة بالله من الشيطان في أكثر من موضع عند الإحساس بنزغه، فيشرع عند تلاوة القرآن، وعند افتتاح الصلاة، وعند إتيان الرجل أهله، وعند دخول الخلاء، وعند الغضب -وإن كان في إسناده شيء- وعند نباح الكلاب.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أمر سبحانه بالاستعاذة عند طلب العبد الخير لئلا يعوقه الشيطان عنه، وعندما يعرض عليه من الشر ليدفعه عنه عند إرادة العبد الحسنات.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته)، فأمر بالاستعاذة عندما يطلب الشيطان أن يوقعه في شر أو يمنعه من خير.
عباد الله! ومن أراد هذه الأوراد وجدها مجموعة معتنى بها، اعتنى بها العلماء رحمهم الله تعالى، وحرروها وبينوا صحيحها من فاسدها، لكن مع الأسف مع انتشار هذه الأوراد المختصرة في المساجد والبيوت وعلى الحيطان، فقلة من الناس هم الذين يهتمون بهذه الأوراد ويحفظونها ويرددونها آناء الليل وأطراف النهار، على الرغم من أهميتها وعظيم أجرها، وحاجة الإنسان إليها.
فمن هذه الأوراد على سبيل المثال، ما خرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل أكثر منه).
ومن ذلك قول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، ثلاثاً، فإن من قال ذلك لم يضره شيء.
ومن ذلك: آية الكرسي، ومن ذلك: المعوذات وسورة الإخلاص.
إن الشياطين تنفر من المكان الذي يتلى فيه القرآن، ولذا جاء الحث على تلاوة القرآن عموماً، وعلى تلاوة سور مخصوصة منه، طاردة للشيطان، كسورة البقرة، فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: من سنن البيوت قراءة سورة البقرة في كل شهر مرة، ومن ذلك المعوذات، وآية الكرسي، والآيتان الأخيرتان من سورة البقرة صباحاً ومساء، فطيبوا أفواهكم بتلاوة كتاب الله، وحصنوا بيوتكم من الشياطين، بالإكثار من تلاوته، وعطروا مجالسكم كما هو هدي السلف الصالح.
اللهم إنا نعوذ بك من نزغات الشياطين، ونعوذ بك أن يحضرون.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله! وهنا جارحتان تكلم العلماء عن أثرهما، وعن مدخل الشيطان من خلالهما، ينبغي للمسلم أن يحفظهما فحفظهما من وسائل التحصن من الشيطان، قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن اللسان والعينين: وأكثر المعاصي إنما يولدها فضول الكلام والنظر، وهما أوسع مداخل الشيطان، فإن جارحتيهما لا يملان ولا يسأمان، وجنايتهما متسعة الأطراف، كثيرة الشعب، عظيمة الآفات.
فحري بمن رام الحفظ من الشيطان، أن ينظف بيته من هذه المحرمات.
وكم هي العوائد السيئة والعادات المستوردة، حين يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما في حديث عائشة يعجبه التيامن في شأنه كله، فليكن لكم فيه أسوة حسنة.
قال العلماء: يعض على شفته السفلى عند مجيء التثاؤب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأما التثاؤب فإنه من الشيطان فليرده ما استطاع، فإذا قال: هاه، ضحك منه الشيطان) رواه البخاري. وفي الصحيحين: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل).
عباد الله! وإذا كان رديء الكلام مدخل للشيطان، ففي الكلام الحسن وقاية من نزغاته، قال الله عز وجل: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53].
فحري بك أخي المسلم! أن تتصف بكل خلق كريم، فذلك سرور وتوفيق ومغنم في الدنيا والآخرة.
عباد الله! هذا ما تيسر ذكره من وسائل وأعمال تحصن المسلم من كيد الشيطان، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2].
ولا يكفي التحسر والتلاوم على نزغات الشيطان بأنه مسلط على الناس، وبأن النفس ضعيفة، وبأن الله غفور رحيم، لا بد من فعل الأسباب وتلمس الوسائل التي يحمي بها المرء نفسه وأهله من كيد الشيطان، ولا بد مع ذلك كله من سد جميع مداخله التي يدخل منها، والتي سبق أن بيناها.
اللهم اصرف عنا كيد الشيطان، اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك، وأعنا على أنفسنا، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين، أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعن بقية العشرة المبشرين، وعن بقية صحابة نبيك أجمعين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم أنج المسلمين من كيدهم وظلمهم وطغيانهم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر