عباد الله! تقدم الحديث في الخطبة السابقة عن عداوة الشيطان وكيده وإضلاله، وسنتحدث في هذه الخطبة عن شيء من وسائله وطرائقه ومداخله على الإنسان.
عباد الله! للشيطان وسائل متعددة في إغواء الإنسان، فمن ذلك: تزيين الباطل وإظهاره بصورة حسنة، قال الله عز وجل عن الشيطان أنه قال: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن مكائده أنه يسحر العقل دائماً حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فيزين له الفعل الذي يضره حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء، وينفر من الفعل الذي هو أنفع الأشياء حتى يخيل إليه أنه يضره، فلا إله إلا الله! كم فتن بهذا السحر من إنسان! وكم حال به بين القلب وبين الإسلام! وكم زين الباطل وأبرزه في صورة مستحسنه، وشنع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة!
وقد ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها، فسموا الخمر بأم الأفراح، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى، ولا يزال الشيطان يوحي إلى أوليائه تسمية الأمور المحرمة بغير مسمياتها، ففي وقتنا الحاضر يسمى الربا بالفائدة، ويسمى التبرج الفاضح بحرية المرأة، ويسمون الاختلاط المستهتر بالتقدم، ويسمون المغنية الفاسقة بالفنانة والشهيرة.
والحازم الموفق من يكتشف خطوات الشيطان، ويغلق منافذه من أول الطريق، والشيطان في إغوائه يظهر بمظهر الناصح الأمين للإنسان، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]، فدلاهما بغرور، ولهذا حذرنا الله عز وجل من فتنته: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف:27].
وإذا شعر الشيطان أن الإنسان سيفوت عليه، وينتصر عليه، عمد إلى شياطين الإنس يستنجد بهم، ويستعينهم ليعينوه، قال الله عز وجل: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].
قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعصية عياناً.
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرءاً لم يحيى بالعلم ميت فليس له حتى النشور نشور
إن الغضب مادة الشيطان تجرئه على فعل القبيح وتجاوز الحدود، وكم حصل بسببه من سفك للدماء، وتفريق للأسر، وإتلاف للأموال، ولو سكن غضبه لانتقد تصرفه، ولما أقدم على ما أقدم عليه.
إنه حالة ضعف، تحكم الإنسان فيها عواطفه، وتخف سيطرة عقله، ويغيب حلمه، وكم أوقع الشيطان الغضبان في حبائل من السوء، وأنواع من الشر، ما كان له أن يقع فيها لو كان هادئ الطبع مستعيناً بالله من الشيطان ونزغاته.
وإذا كان الغضب داء ومدخلاً للشيطان، فدواؤه تسكينه بالاستعاذة بالله من الشيطان، كما جاء في القرآن، وفي صحيح السنة: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب أحدهما واحمر وجهه وانتفخت أوداجه، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، رواه البخاري ومسلم.
قال العلماء: على الغضبان أن يغير حالته التي هو فيها، فإن كان واقفاً جلس، وإن كان جالساً اضطجع، وقد جاء في حديث أبي ذر وإن كان في إسناده شيء: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع), والواقع شاهد بذلك.
وأيضاً عليه أن يتوضأ، فالغضب جمرة يطفؤها ماء الوضوء بإذن الله عز وجل.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: الدنيا دار مذلة، عمرانها إلى الخراب صائر، وسكانها إلى القبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار، فافزع إلى الله وارض برزق الله، ولا تتسلف من دار فنائك إلى دار بقائك، فإن عيشك ظل زائل، وجدار مائل، فأكثر من عملك وأقصر من أملك. انتهى رحمه الله، وفي الطبراني مرفوعاً وإن كان في إسناده ضعف: (من أشرب حب الدنيا التاط منها بثلاث: شقاء لا ينفد عناه، وحرص لا يبلغ غناه، وأمل لا يبلغ منتهاه)، فالدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلب الدنيا طلبته الآخرة حتى يدركه الموت، ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه.
اللهم! إنا نعوذ بك من نزغات الشياطين، ونعوذ بك أن يحضرون.
اللهم! صل وسلم وبارك على نبينا محمد.
ومن مداخل الشيطان على الإنسان الكبر، وهو بطر الحق وغمط الناس كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم، وأين المتكبرون من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) رواه مسلم؟
وقال النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه: إن للشيطان مصالي وفخوخاً، وإن من مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله، والفخر بإعطاء الله، والكبر على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله، وأنى للإنسان أن يتكبر وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وحشوه فيما بين ذلك بول وعذرة. انتهى كلامه رحمه الله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ذكر الله عز وجل هوى في القرآن إلا ذمه. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق.
وقال بعض العلماء: ركب الله الملائكة من عقل بلا شهوة، وركب البهائم من شهوة بلا عقل، وركب ابن آدم من كليهما، فمن غلب عقله على شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته على عقله فهو شر من البهائم.
وقال بعض الحكماء: العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع.
ويروى أن إبليس قال: أهلكت العباد بالذنوب فأهلكوني بالاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون فلا يستغفرون.
إذا أردت السلامة من كيد الشيطان فلا تأمن من مكر الله، ولا تسرف على نفسك بالمعاصي، ولا تقنط من رحمة الله، وتب إليه واستغفره، وأحسن الظن بالله عز وجل، فإذا فعلت شيئاً من العبادات فأحسن الظن بالله أن الله يقبل منك ويثيبك، وإذا فعلت شيئاً من المعاصي فأحسن الظن بالله عز وجل أن الله يعاقبك إذا لم تتب، وفي الحديث القدسي أن الله عز وجل قال: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي وحسنه.
وأول من أحدث هذه البدعة العبيديون بعد القرون المفضلة في منتصف القرن الرابع الهجري، تشبهاً بالنصارى، ومع أن هذا الاحتفال بدعة لم يكن عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته، ولا من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فإنه يتضمن كثيراً من المنكرات التي تصل إلى الشرك بالله عز وجل، كالمبالغة في مديح النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه وهو غائب، وفي حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله فقولوا: عبد الله ورسوله)، فإطراؤه عليه الصلاة والسلام والمبالغة في مديحه هذا ينقله من مرتبة العبودية إلى مرتبة الألوهية، وهذه خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، مع ما يوجد أيضاً من المنكرات الأخرى، كالضرب بالدفوف، واختلاط الرجال بالنساء، والإسراف في المآكل والمشارب وغير ذلك، فحري بالمسلم أن يكون يقظاً على عقيدته، وأن ينكر مثل هذه الأشياء، وأن يأنفها ويكرهها.
اللهم جنبنا الأهواء المضلة، والأدواء المهلكة، واسلك بنا طريق سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فأنت السلام ومنك السلام، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل اللهم الدائرة عليهم، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة رسولك وعبادك الصالحين يا قوي يا عزيز، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك وسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واقض الدين عن المدينين، اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم عجل لهم بالشفاء العاجل، اللهم اجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، ورفعة لدرجاتهم, ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر