الحمد لله الذي أمر بالصدق جميع المؤمنين، ورفع ذكر الصادقين بين العالمين وأهان الكاذبين، ووضع ذكرهم في الأسفلين، أحمده سبحانه، يجزي الصادقين بصدقهم من رحمته وفضله، ويجازي الكاذبين فيعاقبهم إن شاء بحكمته وعدله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إلوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعه في هديه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون! وكونوا مع الصادقين، اصدقوا مع الله، واصدقوا مع عباد الله، ( فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقًا )، صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وعفة النفس، والقناعة بالمقسوم، من صفات المؤمنين، والكذب والخيانة والطمع من علامات المنافقين،
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
[البقرة:204]، قد اشترى الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، والعاجل بالآجل، خرج من المخاطبين بقوله:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ
[التوبة:119].
أثر الصدق على المجتمع
عباد الله! إن كثرة الكذب وقلة الصدق آفة إذا استشرت في مجتمع ما قوضت أركانه، وهدمت أساس استقراره، وبدلت اطمئنان أفراده قلقًا، وسعادتهم شقاءً؛ لأن الحياة في مجتمع يمارس أفراده الكذب، حياة تعيسة؛ بعدم انعدام الثقة بين أفراده، كل خبر يسمعه لا يطمئن إلى صدق مخبره فيه حتى يتأكد بنفسه، وكل سؤال يسأله لا يرتاح إلى صدق مجيبه حتى يبلغه، لا يطمئن في التعامل مع أهله وجيرانه، ولا في بيعه وشرائه، ولا في مكتبه وعمله؛ لأنه لا يثق بصدق الناس في أخبارهم وتعاملهم، فهل يمكن للمسلم في مثل هذا الجو أن يحيا حياة مثمرة، فضلًا عن أن تكون حياة سعيدة هادئة.
إن تقدم المجتمع ورفاهيته، وسلامته واطمئنان أفراده، مرهون بشيوع الصدق بين أفراده، وانتشار الثقة بينهم، واضمحلال الكذب إلى أقصى حد ممكن، في عباداتهم وتعاملاتهم، وفي سائر شئون حياتهم.
لقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدق؛ لأنه مقدمة الأخلاق، والداعي إليها، وهو علامة على رفعة المتصف به، فبالصدق يصل العبد إلى منازل الأبرار، وبه تحصل النجاة من جميع الشرور، كما أن البركة مقرونة بالصدق، فقد ثبت في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما ).
أثر الصدق على الفرد
أهمية الصدق في الأعمال والوظائف والمهن
فالعلماء الذين ورثوا الأنبياء في رسالتهم، وفي تبليغ الدين الذي جعله الله أمانة في أعناقهم، يجب أن يكونوا قدوة صالحة في صدقهم في أقوالهم وأفعالهم، وأن يعملوا بما يحمل لهم من العلم، وينقلونه من الدين، كما قال تعالى:
وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ 
[آل عمران:79].
والتاجر الذي يعرض السلعة يؤمل فيها الربح المبارك، يجب عليه أن يتحرى الصدق في قوله وعمله، فلا يغش ولا يدلس، ولا ينفق سلعته بالكذب والأيمان الفاجرة، فإن ذلك يمحق الله به الكسب، ويذهب به بركة الربح.
والمحترف بأي حرفة، والصانع في أي صناعة، والعامل في أي عمل يجب أن يكون الصدق في قوله وعمله، فلا يزعم زعمًا لا يصدقه الواقع، وتكذبه الحقيقة، ولا يغش ويدلس في عمله، وأن يعف المطعم، يجب أن يكون الصدق رائده.
والموظف المؤتمن على مصالح المسلمين، مهما ارتفعت وظيفته، واتسع نفوذه، وتشعبت مسئولياته، يجب عليه أن يتحرى الصدق فيما يكتبه من تقارير وأحكام، فلا يقرر غير الواقع، ولا يلبس أو يحابي أو يجامل أناساً على حساب الآخرين، ولا يقدمه ويؤخره، وإلا كان غاشًا للناس، كاذبًا في معاملاته، مسئولًا أمام الله عز وجل: ( ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ).
وكذا من ينقل أي خبر من الأخبار، يجب عليه أن يتحرى الصدق فيما ينقله ويرويه، فلا ينقل كذبًا، ولا ينشر باطلًا، فإن الكذب حين يذاع والباطل حين ينصر، يعظم بين الناس خطره، ويتفاقم ضرره، ولذلك يضاعف له العذاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل الذي رواه البخاري وغيره: ( رأيت الليلة رجلين أتياني )، وجاء في الحديث: ( إن الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب كذبة فتحمل عنه، حتى تبلغ الآفاق ).
والمعلم: يجب عليه أنه يكون صادقًا في تعليمه، قائمًا بوظيفته، ناصحًا لطلابه، عدلًا في تعامله معهم.
وعلى كل واحد من الزوجين أن يكون صادقًا مع الآخر، قائمًا بشئونه، محسنًا للخلق معه، فلا ينكره حقه، ولا يتنكر لبذله، آمرًا له بالمعروف، ناهيًا له عن المنكر، متعاونين على أمر الدين والدنيا، وحينئذ تكون السعادة والمودة والألفة بينهما.
وعلى الأب أن يكون صادقًا مع أولاده، غير غاش لهم، مقويًا لإيمانهم، ومربياً لهم التربية الصحيحة، غارسًا لفضائل الأخلاق في نفوسهم، محافظًا على دينهم وأخلاقهم، وإلا كان كاذبًا لهم.
وبهذا نفهم: أن الصدق في الإسلام دائرته واسعة، وليس في مجال محدد ضيق، أخبر الله عز وجل عن خليله إبراهيم عليه السلام، أنه دعا بقوله:
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ
[الشعراء:84]، وبشر الله عز وجل عباده بقوله:
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ
[يونس:2]، وقال تعالى:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ
[القمر:54-55]، فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق، وحقيقة هذه كلها: هو الحق الثابت المتصل بالله والموصل إلى الله، وهو ما كان بالله ولله من الأقوال والأفعال.
صور مشرقة من صدق السلف
الحمد لله وعد الصادقين بالمغفرة والأجر الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن خير الهدي في كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ عنهم شذ في النار.
عباد الله! إلى جانب الفضائل والمحامد التي يغرسها الإسلام في النفوس، كوسيلة للصلاح والإصلاح، إلى جانبها نقائص ورذائل حاربها الإسلام؛ لأنها مزلة للأقدام، وعوامل لهبوط الأخلاق، وفي طليعتها الكذب، فهو من أقبح النقائص، وأرذل الرذائل، وهو من صفات المنافقين، قال الله عز وجل:
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ
[النحل:105]، وقرن الله تعالى الكذب بعبادة الأوثان، فقال تعالى:
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ
[الحج:30].
فهل بعد ذلك سبيل إلى أن يتخذ المؤمن الكذب مطية لسلوكه، أو منهجًا لحياته ورغباته، أو حبلًا يتسلق به إلى مآربه، لذلك نرى الإسلام قد حارب الكذب بكل صنوفه وأشكاله، حربًا شعواء، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ( أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: نعم، قيل له: أيكون بخيلًا؟ قال: نعم، قيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: لا ) رواه مالك .
فما أجدر من اعتاد الكذب أن يناصح من بقية المجتمع، ويرشد وينبه إلى أن الكذب من خصال الشيطان، ومن صفات المنافقين والكافرين، قال الله عز وجل عن الشيطان:
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ
[الأعراف:12]، فكذب في ذلك، فقال الله عز وجل:
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ
[الحجر:34-35]، وكذب اليهود والنصارى في قولهم:
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ
[المائدة:18]، فكذبهم الله ورد عليهم:
بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ
[المائدة:18].
والكذب دائرته واسعة، فقد يكون في الأقوال فيخبر بغير الصدق، وقد يكون في العبادات، فيرائي في عبادته ويسمع، وقد يكون في المعاملات، فيكذب في بيعه وشرائه، وقد يكون في الصناعات فلا يتقن صنعته.
درجات الكذب ومراتبه
خطورة الكذب في وسائل الإعلام
وإن لنا يا عباد الله! في أعقاب الزمن من أمثال ذلك أشكالًا وألوانًا، تمثلها نفوس ضعيفة، وأقلام مأجورة، حين يقلب أهلها الحق باطلًا، والحسنات إلى سيئات، وحين يختلق من الأكاذيب المضللة، والتي تحيل تبعًا للأهواء والأغراض، لا يعنيها تقرير الواقع، ولا الإدلاء بشهادة الحق، ولا الاستجابة لأمر الله حين يقول سبحانه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا 
[المائدة:8].
ومن صور ذلك: ما يوجد اليوم في بعض وسائل الإعلام، والقنوات الفضائية، وبعض وسائل الاتصال كالهواتف النقالة، التي يعمد أصحابها إلى الكذب، فينتشر ذلك ويبلغ الآفاق بين الناس، فهذا من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب عليها عقوبة خاصة، ففي حديث جابر بن سمرة السالف ذكره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني الليلة ملكان )، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم تمام رؤياه لصحابته، ومما جاء في ذلك: ( وأما الرجل الذي كان مستلقيًا على قفاه يشرشر أنفه إلى قفاه، ويشرشر شدقه إلى قفاه، فذلك الرجل يكذب الكذبة حتى تبلغ الآفاق ).
فاتقوا الله عباد الله! واتقوا الكذب على القضاة، وعلى كتاب العدل، فهناك من يشهد بالزور، أو يشهد شهادة غير محققة، فاتقوا الله عباد الله، وصونوا أقوالكم وأعمالكم عن الكذب، وتحلوا بالصدق في جميع شئون حياتكم تكونوا من الصادقين.
صلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( من صلى علي صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا )، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض الله على صحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل اللهم الدائرة عليهم، اللهم انصر المسلمين عليهم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ألف بين قلوب المسلمين، اللهم أصلح ذات بينهم، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم أصلح ذات بينهم، اللهم احقن دمائهم، اللهم احفظ أموالهم، اللهم آمن روعهم، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك، وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم حاسبنا حسابًا يسيرًا، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناء عليك، اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم اغفر لنا مغفرة من عندك، وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.