يقول تعالى للعرب: أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أي: نعرض عنكم، ونوليكم صفحتنا ووجهنا وعنقنا معرضين عنكم، وهذه لغة للعرب وليس من الضروري أن يكون هناك عنق أو وجه.
أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أي: أنعرض عنكم، أنترك ذكركم، أنترك تنزيل القرآن عليكم، يقال: أعرض زيد عن فلان صفحاً أي: تركه وأعرض عنه فولاه صفحته، ولا يخص بذلك العنق، ولكن معناه: أنه أعرض ونأى بجانبه وابتعد عنه.
ومعنى الآية كما يقول قتادة : أنهمل نزول القرآن ونرفع عنكم الدعوة إلى الله وإلى اتباع أنبيائه؟ لا نفعل هذا؛ لأن الله خلق الخلق ليعبدوه، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
وقال قتادة : من رحمة الله بالبشر أنه لم يترك إرسال الأنبياء ولا إنزال كتاب الله عليهم مراعاة لمن أعرض ولمن ارتد، فلو فعل ذلك لما وصلت هذه الرسالات لمن جاء بعدهم.
فالصحابة المكرمون قد كانوا أبرياء، وكانوا من أبناء الكافرين، والله تعالى أمهل هؤلاء الكافرين ثلاثة وعشرين عاماً، فآمن منهم من آمن وكفر من كفر، ثم أخرج من أصلابهم دعاة إلى الله صالحين، فهو لم يعرض عنهم، ولم يترك إرسال الرسل، ولا إنزال الكتب، فذلك من رحمة الله بعباده، وقديماً قال ربنا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، ما كان محمد صلى الله عليه وسلم إلا رحمة لجميع العوالم إنساً وجناً، مسلماً وكافراً، فالكافر أمهله لعله يرجع إلى الله ويقول: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، ولعله يلد مؤمناً صالحاً ينشر دين الله ويدعو إلى عبادة الله وإلى توحيده جل جلاله؛ وذلك من رحمة الله بهم، وذلك من الرحمة التي أرسل بها نبينا عليه الصلاة والسلام.
ولقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما أنا إلا رحمة مهداة) أهداه الله إلينا، فنحن نشكره على هذه الهدية بكل جوارحنا وخلايا جسومنا.
أَفَنَضْرِبُ أتريدون نتيجة لإعراضكم وكفركم يا كفار مكة أن يدع الله كتابه، ويوقف رسالته، ولا يرسل نبياً إلى الناس لتعليمهم ودعوتهم.
أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [الزخرف:5]أي: لأنكم كنتم قوماً مسرفين كافرين، أي: لا نفعل. وقرئ: (إن كنتم) أي: لا نفعل ذلك لأنكم كنتم قوماً مسرفين كافرين.
يسلي الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ويعزيه ويقول له: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ [الزخرف:6].
كم: هنا للتكثير، أي: أرسلنا الكثير من أنبيائنا إلى من سبق من الأولين من الشعوب والأمم الذين خلقهم الله قبلنا، ممن قص لنا قصصهم من قوم نوح وعاد وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم فرعون، وبني إسرائيل من قوم يوسف إلى قوم موسى وهارون، وقد ذكر الله لنا من أنبيائه أسماء خمسة وعشرين، ثم قال لنبينا: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78]، أي: ذكرنا لك قصص الأنبياء ممن سمينا لك، والبعض أشرنا إليهم إشارة فلم نذكر قصتهم.
وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (كم أنبياء الله؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر نبياً)، قال صلى الله عليه وسلم: (إنا منا كثير)، وقد قال لنا ربنا: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]، أي: ما من أمة من الأمم ولا طائفة من الطوائف إلا وأرسل الله لها نبياً رسولاً يعلمها توحيده وعبادته.
أي: ما من نبي أرسل لهؤلاء إلا كذبوه وهزئوا منه ومن رسالته وأعرض أكثرهم، وما آمن إلا ثلة من الأولين وقليل من الآخرين.
وفي هذه الآية تسلية لنبينا من تكذيب من كذبه، سواء كانوا من العرب الذين أدركهم ودعاهم إلى عبادة الله وحده وإلى الإيمان بنبيه وعبده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو من كادوا لدين الإسلام وعملوا على حربه وقتال أهله.
فكم أرسل الله من الأنبياء في الأولين من الأمم التي سبقتنا؟
وما من نبي أو رسول أرسله الله إلى هؤلاء إلا استهزءوا به وضحكوا من رسالته.
أي: يا محمد! لست وحدك الذي كذبت من هؤلاء، فالذين استهزءوا بشريعتك وبكتابك وبرسالتك قد سبق أن فعلوا ذلك بالأنبياء السابقين، ولكن الله لم يخلقهم بلا جزاء ولا عقاب.
فهؤلاء الذين كذبوا أنبياءهم وافتروا على رسلهم واستهزءوا بهم، كانوا أعظم سلطاناً وأشد قوة وبطشاً من العرب والعجم الموجودين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أهلكهم الله وبطش بهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين، وقصصاً للقاصين وللسامعين، بسبب كفرهم وجزاء كفرهم وجزاء طغيانهم، فقد كانوا أشد من العرب بطشاً، وأكثر قوة، وأعظم حضارة، وأكثر جمعاً وبنياناً وتسلطاً ولم يعجزوا الله فأدبهم وعاقبهم، فالله هو القادر على كل شيء جل جلاله.
وقد مضى مثلهم ونعتهم وجزاؤهم وصفاتهم في كتاب الله، فإنه قص علينا كيف عاقب قوم نوح بالغرق وقوم هود بالريح العقيم وقوم صالح بالصيحة وقوم فرعون بالغرق وقوم لوط بأن جعل الأرض عاليها سافلها، وعاقب اليهود بالذل والهوان إلى يوم القيامة؟ وكذلك ما فعل بأولئك تأديباً لهم لكفرهم بالله واستهزائهم برسل الله وبالله الواحد الأحد الذي لا يزال يعاقب الكافرين المستهزئين، وما من عقوبة إلا مقابل ذنب.
وقوله تعالى: وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ ، أي: مضى وصفهم، ومضى الكلام عليهم، ونحن في أواسط الجزء الخامس والعشرين من كتاب الله، قد مضى لنا كل هذا مفصلاً مبيناً مكرراً، وفي كل ما نقرؤه حكمة جديدة وعبرة مفيدة.
أي: إن قومك عجيبون، فإن سألتهم: من الذي خلق السماوات والأرض؟ أجابوك بأن الذي خلقهن هو العزيز في جلاله ومقامه، العليم بكل شيء، القادر على كل شيء، ومع اعترافهم بهذا وأن الله هو العزيز العليم، تجدهم مع ذلك يشركون بالله، ويتخذون له أنداداً وأوثاناً وأصناماً، وينكرون القيامة والحياة الثانية، وينكرون قدرة الله على ذلك، وينكرون الوحدانية، ويقولون: إن الله احتاج -جل عن ذلك وعز- لمن يعينه وهي أحجار صماء وأخشاب لا حراك بها ولا وجود لقدرتها، فالأصنام خلق من خلق الله وهي أعجز من أن تنفع أنفسها أو تضرها، ولن ينفعوا غيرهم أو يضروهم، ولكن العقول إذا صغرت وإذا سخفت ضاع معها الدين والفهم والوعي والإدراك.
وقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي: سألت هؤلاء الذين أنكروا رسالتك من سكان مكة والجزيرة، وقلت لهم: مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ أي: لقالوا مؤكدين ذلك بلام القسم ونون التوكيد الثقيلة: خلق ذلك العزيز العليم، الذي عز في مقامه وفي قدرته، العليم بكل شيء، وهم مع ذلك أنكروا القيامة والحياة الثانية، وأنكروا أن الله هو الواحد في خلقه وفي أمره، وفي كل شيء جل جلاله.
أي: مهدها وذللها لنستطيع المشي عليها والمقام فيها والنوم على أرضها، وثبتها بالجبال الرواسي، كما ثبت السفينة وهي على الماء بالرواسي ولولاها لتحركت السفينة واضطربت، فالله هو الذي مهد الأرض وجعلها فراشاً ممهداً موطأً مذللاً للإنسان يبيت حيث شاء منها والأرض لا تنقلب به ولا تميد به، وجعل لنا فيها طرقاً في الجبال والوهاد والصحاري والبحار لعلنا نهتدي إلى مقاصدنا من تجارة وسياحة وتنقل لعلم ولمعرفة من إقليم لإقليم، ومن قارة لقارة.
فالله الخالق هو الذي هيأ وذلل الأرض ليتبوأ منها الإنسان حيث يشاء بغير أن تميد به أو تتدحرج به، وذلك بالراسيات الجبال، فالذي فعل ذلك هو الذي خلق ذلك وهو الذي قدر ذلك.
فالله هو الذي أنزل لنا ماء بقدر، أي: مقدر ومعد ومهيأ بمقدار لا يزيد عليه، ولو لم يفعل ذلك لكان ماء جارفاً ولجرى علينا كما جرى على قوم نوح، حيث نزل من السماء ونبع من الأرض فأغرق الخلق فلا ينقذهم جبل ولا ينقذهم شيء، ولكن الله رحمة منه بالعباد أنزل من السماء ماء لمصالحنا ولشرابنا ولبنائنا، فالشراب لنا ولحيواناتنا ولما نحتاج إليه، فأنزله بقدر مقدر وبشيء محدود، ونزل ذلك بعلمه وبقدرته، فالله جل جلاله هو الذي قدر هذه العيون وقدر السحاب والضباب الذي زجت به السماء من ركن إلى ركن، وإذا بالماء المصفى من مياه البحار التي هي أكثر الخليقة وجوداً -فالبحار والأنهار تكاد تزيد على ثلاثة أرباع اليابسة- ينزل من السحاب بقدرة الله قطرة قطرة، فيسقي الأشجار والزرع والغرس وغير ذلك.
قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]، فلو لم يجعل ذلك مقدراً لغرقنا كما غرق قوم نوح.
وقوله تعالى: فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ، أي: أنشرنا بهذا الماء بلاداً وأرضاً ميتة، فالأرض اليابسة التي لا نبت عليها ولا قطرة ماء ولا نسمة حياة نراها ميتة، وإذا بالغيث ينزله الله عليها وإذا بنا نراها تربو وتحمل من كل فاكهة زوجان، ومن كل زهرة زوجان، ومن كل ثمرة زوجان، وإذا بما قد كان ميتاً نراه قد حيي برؤية العين وإدراك البصر.
وقوله تعالى: كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ أي: أتنكرون هذا وأنتم ترونه وتعيشون في غفلة فكذلك الخروج؟
أتنكرون هذه الأرض اليابسة كما في فصل الخريف حيث تيبس الأوراق وتجف المياه، وتغور العيون والآبار، وإذا بالأمطار تنزل ويغيثها الله فتحيا من جديد.
وكذلك يوم القيامة حيث يكون الأموات جثثاً هامدة لا تتحرك، فالله تعالى يغيث هذه الأرواح بعودتها إليكم، وإذا أنتم قيام تنتشرون في أرض المحشر في أرض الشام، وتقفون بين يدي الله أذلاء في يوم كألف سنة مما تعدون، في يوم يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، فلو استفدتم من ضرب الأمثال والشبه، ولو اعتبرتم بما سيكون في الأرض لآمنتم بالبعث وبالنشور بالحس وبالواقع، دون علم ودون رسالة، ولكنكم مع ذلك قوم تكفرون وتجحدون وتنكرون مع نزول الوحي وإرسال الرسل ونزول الكتب.
قوله: فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ أي: كما كان في الأرض الميتة التي لا نبت فيها ولا ماء فيها نجدها بعد أن نزلها الغيث تحيا؛ كذلك تحيون أنتم وتخرجون من القبور.
الأزواج: الأصناف، فالله الذي خلق الجن والملائكة والبشر والطير والهوام والدواب، وخلق كل شيء في الكون، فالكل عبد له، هو الخالق وهو الرازق، وهو المحيي وهو المميت.
وقوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ، (من الفلك) أي: من السفن، فالله جعل لكم مراكب في البحر تقطعون بها القارات والأقاليم والمشارق والمغارب، وخلق لكم الأنعام، وهي الإبل والبغال والحمير والخيل لتتخذوا من ظهورها مراكب لتكون لكم صلة وصل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، هذه المياه الهائجة المائجة التي كأنها الجبال أنتم تنتقلون بواسطتها فيحفظ الله حياتكم إلى أن تبلغوا إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، من الذي هداكم ووفقكم لذلك، وجعل لكم من السفن والأنعام الشيء الذي تركبونه؟ فأنتم تركبون ظهور هذه الأنعام إبلاً وخيلاً وبغالاً وحميراً وتركبون أنواع السفن.
وفي الجو كذلك هذه الطائرات هي مراكب جوية خلقها الله لركوبها للانتقال بها بين قارات الأرض في المشارق والمغارب، للتجارة وللدارسة وللسياحة في الأرض ولأي مصلحة يراها الإنسان، وإشارة لهذا في كتاب الله الكريم قال تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].
يقول ابن عباس : ما عطف (يخلق ما لا تعلمون) على أنواع المراكب إلا وكان ذلك المخلوق من جنسها، ونحن نقول: الخيل والبغال والحمير والقطارات والسيارات والسفن والبوارج والطائرات والصواريخ كلها مما يخلق ما لا تعلمون، ولله خلق جديد في كل عصر وزمان ومكان، بل إن الحضارات البائدة لم تصل إليها الحضارة المعاصرة؛ فقد مضى ما مضى من الحضارات وكانت أعظم مما نعيش فيه، وهكذا من ضرب في الأرض ورأى آثار الأولين في خرائبهم وفي آثارهم وفي رممهم وما تركوه، ورأى هذا رأي العين أيقن بأنهم كانوا أكثر منا قوة وإعماراً للأرض.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر