إسلام ويب

شرح سنن النسائي - المقدمة - ترجمة الإمام النسائيللشيخ : عبد المحسن العباد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، اللهم! صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فنبدأ مستعينين بالله عز وجل، متوكلين عليه، سائلين منه العون والتوفيق والتسديد، بشرح (الأربعين النووية) لـأبي زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله تعالى.

    وهذه الأحاديث الأربعون أحاديث عظيمة، وهي من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد أُعطي النبي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، حيث يأتي بالكلام القليل في المبنى ولكنه يكون واسع المعنى، فالكلمات قليلة، ولكن المعاني واسعة، فهي قواعد كلية، وقواعد عامة اشتملت عليها الأحاديث التي اختارها الإمام النووي رحمه الله تعالى.

    ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم شيء في حفظ أربعين حديثاً، وما جاء في ذلك فهو حديث ضعيف، وقد ذكر الإمام النووي نفسه في مقدمته للأربعين أنه لم يثبت الحديث في ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكنه قال إن حديث: (نضر الله امراءً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)، وكذلك أيضاً: (ليبلغ الشاهد الغائب) يدعوان لذلك. وإن جمع شيء من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والاشتغال به، ولفت الأنظار إليه فيه قيام بحفظ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس الاعتماد في ذلك على الحديث الضعيف المروي في ذلك.

    الكلام عن الكتب الستة

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه، أرسله الله تعالى بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فدل أمته على كل خير، وحذرها من كل شر.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فنحمد الله عز وجل الذي وفقنا في الأعوام الماضية لدراسة كتابين عظيمين, هما: كتاب الإمام البخاري، وكتاب الإمام مسلم، وهما أصح كتب الحديث وأفضلها والمقدم فيها. وبعد ذلك نبدأ -بحمد الله- متوكلين على الله، وسائلين منه العون والتوفيق، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لتحصيل العلم النافع والعمل به.

    نبدأ بعد ذلك بكتاب عظيم من كتب السنة؛ من كتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كتاب الإمام النسائي ؛ السنن الصغرى, الذي يقال له: المجتبى، أو المجتنى.

    وقبل أن نبدأ بدراسة الكتاب نتكلم ببعض الكلام عن المؤلف الإمام النسائي، وعن كتابه السنن، الذي هو أحد الكتب الستة المشهورة المعروفة, التي هي من كتب الأصول.

    ومن المعلوم أن العلماء ذكروا أن الكتب الأصول التي هي مقدمة على غيرها، والتي هي مشتملة على أكثر الأحكام، ومستوعبة لكثير من الأحاديث، هي الكتب الستة: الصحيحين, وسنن أبي داود, وسنن النسائي, وجامع الترمذي, وسنن ابن ماجه، فهذه ستة كتب يقال لها: الكتب الأصول، والسادس منها وهو: ابن ماجه مختلف في عده؛ لأن للعلماء في السادس منها ثلاثة أقوال:

    أحد هذه الأقوال: أن السادس هو سنن ابن ماجه.

    والثاني: أن السادس هو الموطأ.

    والثالث: أن السادس هو سنن الدارمي.

    لكن الذي اشتهر عند كثير من العلماء, والذي عول عليه كثير منهم أن السادس هو: ابن ماجه؛ لكثرة الأحاديث الزائدة فيه على الكتب الخمسة، وقد أفردها البوصيري في كتاب سماه: (مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه)، جمع الأحاديث الزائدة في هذا الكتاب على الكتب الخمسة وتكلم عليها، وهو كتاب مشهور معروف, والبوصيري هو في زمن الإمام الحافظ ابن حجر في القرن التاسع الهجري.

    الإمام النسائي اسمه ونسبته

    نتكلم هنا على بعض الأمور المتعلقة بالإمام النسائي رحمة الله عليه.

    فالإمام النسائي كنيته: أبو عبد الرحمن، واسمه: أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار الخراساني.

    النسائي نسبة إلى وطن، ولكن الأولى: نسبة عامة, والثانية: نسبة خاصة، فخراسان إقليم واسع، وينسب إليها: خراساني؛ نسبة إلى ذلك الإقليم الواسع، والنسائي نسبة إلى بلدة من ذلك الإقليم يقال لها: نساء، فهو ينسب نسبة عامة, ونسبة خاصة، نسبة إلى الإقليم ونسبة إلى البلدة التي هي من ذلك الإقليم، ولكن الذي اشتهر هو نسبته إلى بلدته؛ وهي: نساء، بل إن شهرته صارت بالإضافة إليها؛ لأن أصحاب الكتب الستة منهم من اشتهر باسمه كالإمام مسلم، ومنهم من اشتهر بنسبته إلى بلده كـالبخاري، والنسائي، والترمذي، ومنهم من اشتهر بكنيته كـأبي داود، ومنهم من اشتهر بنسبه أو بنسبته وهو ابن ماجه.

    و النسائي -كما ذكرت- نسبته إلى بلدته التي هي قرية أو بلدة من بلاد خراسان.

    ومن المعلوم أن العلماء عندما يترجمون للشخص يذكرون النسبة العامة والنسبة الخاصة أحياناً، كما ذكروا بالنسبة للنسائي، حيث قالوا: الخراساني النسائي، وأحياناً إذا انتقل الإنسان من بلد إلى بلد, وكان ينسب إلى بلد ثم تحول منها إلى بلد آخر, فإنه ينسب إلى الاثنتين، ولكن بـ(ثم) فيقال: فلان كذا ثم كذا، البصري ثم المدني، أو الكوفي ثم الدمشقي، أو البغدادي ثم الواسطي، يذكرون البلدين الأول والأخير, ويأتون بـ(ثم) لتبين المتقدم من المتأخر، ولتبين النسبة المتقدمة على المتأخرة.

    أما إذا كانت النسبة إلى عام وإلى خاص فإنهم لا يأتون بـ(ثم)، وإنما يكتفون بأن يقولوا: الخراساني النسائي، نسبة إلى الأعم ثم نسبة إلى الأخص؛ لأنه ليست هناك مهلة ولا تفاوت، بخلاف الانتقال من بلد إلى بلد؛ فإن البلد الأول ينسب إليه على أنه المنسوب إليه أولاً، والبلد الثاني ينسب إليه آخراً، فيؤتى بـ(ثُم) التي تبين البلد المتقدم أو النسبة إلى البلد المتقدم عن البلد المتأخر.

    حال الإمام النسائي في طلب الحديث

    الإمام النسائي رحمة الله عليه نشأ في بلده, وأخذ الحديث عن أهل بلده، ثم رحل إلى البلاد المختلفة، وهذه طريقة المحدثين، وطريقة العلماء السابقين, أنهم يعنون بحديث أهل بلدهم ويتلقون عن الشيوخ في بلدهم الذي هم فيه، ثم ينتقلون إلى البلاد الأخرى ليأخذوا عن الشيوخ الآخرين، وفيهم من يروي الحديث بإسناد نازل؛ لأنه لم يتمكن من الرحلة، فيروي عن شيوخ من أهل بلده -الذين رحلوا وأخذوا- ما أخذوه عن غيرهم، فإذا رحل هو فإنه يحصل الإسناد العالي, ويحصل منه أحياناً التحديث بالإسناد العالي، وغالباً ما يحدث بالإسناد النازل في أول الأمر؛ حيث لم يرحل ولم يلتق بالشيوخ الذين هم أعلى من الشيوخ الذين لقيهم في بلده، فإذا رحل إلى بلدان أخرى والتقى بشيوخ أخذ عنهم شيوخه، فإنه في هذه الحالة يأتي بالإسناد العالي, ويحرص عليه.

    ومن المعلوم: أن الإسناد العالي أفضل من الإسناد النازل إذا كان الرجال ثقات وحفاظاً، أما إذا كان الإسناد العالي في رجاله شيء من الضعف, والإسناد النازل رجاله أقوى ورجاله مقدمون في الحفظ والإتقان والثقة والعدالة؛ فإن الإسناد النازل يكون عند ذلك أفضل من الإسناد العالي, كما ذكر ذلك العلماء.

    فالإمام النسائي رحمة الله عليه أخذ عن مشايخ بلده في خراسان, ثم انتقل بعد ذلك إلى العراق, وإلى الشام, وإلى الحجاز, وإلى مصر, وجلس في آخر حياته في مصر وعاش فيها مدة طويلة، وأخذ عنه العلماء والمحدثون فيها، وكان ينتقل في البلد, وأخذ الحديث عن عدد كبير من الشيوخ في بلده وغير بلده.

    ومن المعلوم: أن الرحلة عند أهل الحديث لها أهمية كبرى, ولها شأن عظيم، ويرون أن الإنسان الذي لم يرحل عن بلده, ولم يحصل إلا حديث بلده, أنه لم يحصل شيئاً يذكر، والذي يحصل إنما يكون بالتعب والنصب والكد, وقطع المسافات, وإنهاك النفس وإتعابها في سبيل الوصول إلى الحديث، وكما قال بعض العلماء وهو يحيى بن أبي كثير: لا يستطاع العلم براحة الجسم.

    فكانوا يتحملون المشاق, ويتجشمون الصعوبات, ويلقون المتاعب في سبيل الحصول على الأحاديث, والرحلة إلى الشيوخ للتلقي عنهم، ومنهم من يرحل من أجل حديث واحد, يذكر له أنه عند شيخ في بلد ناءٍ, فيسافر إلى ذلك البلد النائي؛ من أجل أن يظفر به، ومن أجل أن يحصل عليه، هذا كان شأنهم، وهذا كان ديدنهم رحمة الله تعالى عليهم.

    مولد النسائي ووفاته ومشاركته أصحاب الكتب الخمسة من مشايخهم

    الإمام النسائي رحمه الله عاش في القرن الثالث الهجري، وكل حياته في القرن الثالث الهجري، وعُمِّر طويلاً حيث بلغ عمره ثمانية وثمانين سنة، أي: أنه قارب التسعين، وكانت ولادته -على ما ذكر عنه على سبيل التقريب- في سنة مائتين وخمس عشرة، ووفاته سنة ثلاث بعد الثلاثمائة، أي: في أول القرن الرابع بعد مضي ثلاث سنوات منه، فهو معمر, وقد عاش هذه المدة الطويلة, ولقي الشيوخ الكبار، وأخذ عن المشايخ الذين أخذ عنهم أصحاب الكتب الخمسة الآخرون, وإن كانوا أقدم منه إلا أنه كما ذكرت عمر؛ لأنه ولد في أوائل القرن الثالث, وتوفي في أول القرن الرابع الهجري.

    وهو آخر أصحاب الكتب الستة وفاة؛ فأولهم البخاري ؛ لأنه توفي سن مائتين وستة وخمسين، وبعده الإمام مسلم حيث توفي سنة مائتين وإحدى وستين، يعني: بعد البخاري بخمس سنوات، ثم بعده ابن ماجه حيث توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين، ثم أبو داود حيث توفي سنة خمس وسبعين ومائتين، ثم الترمذي حيث توفي سنة تسع وسبعين ومائتين، ثم النسائي وهو آخرهم حيث توفي سنة ثلاث بعد الثلاثمائة.

    فإذاً: هو آخر أصحاب الكتب الستة وفاة، وهو أيضاً متقدم؛ لأنه ليس بينه وبين مسلم في الولادة إلا عشر سنوات أو إحدى عشرة سنة؛ لأن مسلماً ولد سنة مائتين وست, والنسائي ولد سنة مائتين وخمسة عشر، فهو مقارب له بالولادة, ولكنه عاش بعده اثنتين وأربعين سنة، فلهذا صار إسناده عالياً، ولقي الشيوخ الكبار، وأخذ عنه الشيوخ، مثل الطبراني الذي عمره مائة سنة, وقد توفي سنة ثلاثمائة وستين، أي: بعد وفاة النسائي بسبع وخمسين سنة، فهذا معمر, وهذا معمر، وهكذا يكون العلو؛ حيث يلتقي الشخص بالشخص ثم يعمر بعده، ويكون شيخه لقي المشايخ في سن مبكر، وبين ولادة هذا ووفاة هذا مدة طويلة.

    فإذاً: الإمام النسائي رحمة الله عليه عاش في القرن الثالث الهجري، وهو أزهى عصور السنة من حيث التأليف؛ لأنه ألفت فيه الكتب الستة، وألف فيه غيرها من الكتب الكثيرة من المسانيد وغيرها، ومسند الإمام أحمد يعتبر أوسع كتاب، حيث تبلغ أحاديثه أربعين ألفاً كما ذكر ذلك بعض العلماء، وهو في القرن الثالث؛ لأن وفاته سنة إحدى وأربعين ومائتين.

    إذاً: الإمام النسائي رحمة الله عليه عاش في هذا القرن، وهو آخر أصحاب الكتب الستة وفاة، فقد عُمِّر حتى بلغ ثمانية وثمانين سنة تقريباً، وقد أخذ عن بعض شيوخ الإمام البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب الكتب وشاركهم, مثل: شيخه قتيبة بن سعيد الذي أكثر عنه، وهو أيضاً شيخ لأصحاب الكتب الآخرين، فهو شيخ للبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه .

    وأخذ أيضاً عن: محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار فإن هؤلاء من صغار شيوخ البخاري، ومسلم ، والذين كانت وفاتهم قبل وفاة البخاري بأربع سنوات، وأخذ عنهم النسائي كما أخذ عنهم أصحاب الكتب الأخرى، فهو شارك أصحاب الكتب الأخرى الخمسة في مشايخهم, وذلك -كما ذكرت- أنه وإن تأخرت وفاته فإن ولادته متقدمة؛ لأنه كان في أوائل القرن الثالث الهجري, ووفاته في أول القرن الرابع الهجري.

    أشهر تلامذة النسائي الذين تلقوا عنه

    النسائي أخذ عنه التلاميذ الذين كانوا في زمنه وتلقوا عنه في بلده وغير بلده، وممن اشتهر بالأخذ عنه: ابن السني ، وكذلك أبو جعفر العقيلي, وأبو جعفر الطحاوي, وغيرهم كثير، والطبراني أخذ عنه وهو من أصحاب الإسناد العالي؛ لأنه ولد سنة مائتين وستين, وتوفي سنة ثلاثمائة وستين, وعاش مائة سنة، وأدرك من حياة النسائي ثلاثاً وأربعين سنة، وعاش بعده سبعاً وخمسين سنة، فأخذ عنه وعُمِّر بعده، فصار الإسناد من طريقه من الأسانيد العالية، ولهذا يقال عن الطبراني : إنه عالي الإسناد بالإطلاق؛ لأنه عُمِّر وأخذ عن المعمرين كـالنسائي وغيره.

    مكانة النسائي ومنزلته عند العلماء

    يعتبر النسائي رحمة الله عليه من الحفاظ، ومن أئمة المسلمين، والذي وصفه بعض العلماء بالإمامة، وأنه من أئمة المسلمين، ووصفوه بأنه أحد الحفاظ، وأنه أحد الأعلام، وأنه إمام في الجرح والتعديل، وأنه ممن يقبل قوله في الجرح والتعديل، وأثنى عليه العلماء ثناءً عظيماً، بل إن من العلماء من قال: إن شرطه أقوى من شرط مسلم وشرط البخاري ؛ من حيث إنه تجنب الرواية عن أشخاص, أو لين أشخاصاً روى عنهم البخاري، ومسلم ، لكن كما هو معلوم أن البخاري، ومسلم التزما الصحة وهو لم يلتزم الصحة، لكن هذا يدل على إتقانه، وعلى تحريه، وعلى أنه متمكن في علم الحديث، وعلى أنه ينتقي، فهو يدل على علو منزلته، وعلى فضله، وعلى نبله، وإن كان ما في البخاري ومسلم مقدم على ما عنده كما معروف عند العلماء، لكن مثل هذه العبارة التي جاءت عن بعض العلماء: أن له شرطاً أشد من شرط البخاري، ومسلم تدل على قيمته وعلى علو منزلته, وإن كان هذا لا يسلم به مطلقاً، وإنما قد يسلم به في الجملة، وذلك من جهة أن بعض الأشخاص الذين لينهم النسائي ولم يرو عنهم روى عنهم البخاري، ومسلم ، إلا أن هذا لا يقدح في البخاري ومسلم، أو في رجال البخاري ومسلم ، لكن يدل على قيمة منزلة النسائي وقيمة كتابه وقيمة سننه، وأنه كتاب عظيم، وأنه له شأناً كبيراً.

    تأليف النسائي كتاب الخصائص في فضائل علي بن أبي طالب

    الإمام النسائي رحمة الله عليه -كما قلت- عاش في مصر, وفي آخر الأمر ارتحل منها إلى الشام وجاء إلى دمشق، وحصل له فيها محنة كما ذكر ذلك بعض العلماء، وألف فيها كتاب (الخصائص), أي: خصائص علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجاء عنه أن سبب تأليفه إياه: أنه وجد أن أهل الشام عندهم حب شديد لبني أمية، ولم يجد عندهم ذكراً كبيراً لـعلي رضي الله عنه وأرضاه، فألف هذا الكتاب ليبين لهم فضل ذلك الإمام، وليبين الأحاديث التي وردت في فضله رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فأراد بذلك الخير، وأراد بذلك بيان فضل أهل الفضل, وميزة أهل التقدم؛ وهو الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فألف ذلك الكتاب.

    ثم ألف كتاب (فضائل الصحابة)، وبدأ بفضائل أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله تعالى عن الجميع، ولكنه ألف كتاب (الخصائص) في دمشق ليبين فضل ذلك الإمام العظيم الذي شُغل كثير من الناس في تلك البلاد بغيره؛ وهم بنو أمية، وفي مقدمتهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فألف هذا الكتاب يريد الخير.

    موقف النسائي من معاوية رضي الله عنه

    سئل النسائي عن معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فجاء عنه ما يدل على الثناء عليه, وما يدل على فضله، وجاء عنه عبارة فيها شيء من الحط من شأنه، وأوذي بسببها إن صح ذلك النقل، وأنه أوذي بسبب ما أجاب به لما سئل عن معاوية، وأنه طلب منه أن يؤلف في فضائل معاوية فقال: وأي فضائل له؟ أي: ما هي الفضائل التي لـمعاوية فيؤلف فيها؟ وذكر حديث: (لا أشبع الله بطنه) وهو حديث في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    وإن صحت عنه هذه الرواية فقد جاءت عنه أيضاً رواية أخرى تدل على فضل معاوية ، وتدل على أنه واحد من الصحابة، وأن القدح في الصحابة قدح في الدين.

    بل إن هذا الحديث -أي: حديث: (لا أشبع الله بطنه)- يدل على فضل معاوية كما ذكر ذلك بعض العلماء.

    والإمام مسلم رحمه الله لما أورد هذا الحديث أورده بعدما أورد الأحاديث التي فيها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اللهم ما دعوت على إنسان, ولم يكن أهلاً لتلك الدعوة, أن يجعلها الله تعالى له طهراً وزكاءً وفضلاً).

    فلما أورد الإمام مسلم رحمه الله تلك الأحاديث, عقبها بهذا الحديث ليبين أن معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه لا تضيره هذه الدعوة، وإنما هي تنقلب دعاءً له, وتنقلب ثناءً عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنني اشترطت على ربي أنني ما دعوت على إنسان ليس بأهل لتلك الدعوة أن يجعل الله تعالى له ذلك طهراً ونقاءً).

    والحديث الذي قبل هذا الحديث هو في قصة أم سليم مع اليتيمة التي كانت عندها، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف البنت أنها صغيرة, ثم أتت إليه وقال لها: (من أنتِ) وأخبرته: بأنها يتيمة أم سليم ، فقال: (كبرت لا كبرت سنك) فلما أورد مسلم هذا الحديث, أورد بعده حديث: (لا أشبع الله بطنه) وهو حديث ابن عباس في قصة معاوية .

    ثم إن معاوية رضي الله عنه كان من كتبة الوحي، وهذا من فضائله، وهو مؤتمن ائتمنه الرسول صلى الله عليه وسلم على كتابة وحي رب العالمين، فهذا من فضائله وهذا من نبله رضي الله عنه وأرضاه.

    إذاً: هذه الكلمة لا تضر معاوية رضي الله عنه وإنما تنقلب مدحاً عليه، وما جاء عن النسائي جاء عنه ما يقابل تلك الكلمة، ولعله قالها ليلفت الأنظار إلى عدم الغلو في الأشخاص، وأن أهل الشام لما صار له منزلة عندهم؛ ولأنهم نشأوا لا يعرفون إلا هو, وقد مكث أربعين سنة في دمشق. عشرين سنة أميراً، وعشرين سنة خليفة، فنشأوا وعاشوا لا يعرفون إلا معاوية بن أبي سفيان؛ فأراد أن يأتي بهذه الكلمة حتى يقلل من الإطراء, أو من التجاوز الذي حصل من بعضهم.

    ثم أيضاً ذلك الحديث الذي ذكره عن معاوية هو في الحقيقة ثناء عليه، ولا يعتبر قدحاً فيه؛ لأن مسلماً رحمه الله لم يورده إلا في موطن, وأورده لبيان أن هذا مما ينفع معاوية ولا يضره، ومن قبيل ما هو منقبة لـمعاوية وليس مثلبة له رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    ومن المعلوم أن الصحابة جميعاً يجب أن تمتلئ القلوب من محبتهم، وأن تنطق الألسنة بذكرهم والثناء عليهم، وألا يذكروا إلا بالجميل.

    مدى صحة نسبة الإمام النسائي للتشيع وأنها سبب وفاته

    وقد نسب النسائي إلى التشيع، وقيل عنه: إن عنده تشيعاً، ولعل هذا بسبب هذه الكلمة التي سمعت منه في حق معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    ثم إن التشيع في بعض سلف هذه الأمة لا يؤثِّر؛ لأنه أحياناً يكون من قبيل تقديم شخص على شخص في الفضل على حسب ما يراه، كما يجري عند تفضيل عثمان وعلي رضي الله عنهما ، فإن المشهور عن العلماء تقديم عثمان على علي في الفضل، وبعض العلماء يقدم علياً على عثمان في الفضل، أما التقديم عليه في الخلافة فلا يقدم عليه, ولا يقدمه سلف هذه الأمة عليه، وقد قال بعض العلماء: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار.

    وتقديمه عليه بالخلافة هو اعتراض على ما أجمع عليه سلف هذه الأمة، وأما التقديم بالفضل فهذا هو الذي لا يبدع من قال به، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في آخر العقيدة الواسطية، فإنه قال: تقديم علي على عثمان في الفضل لا يبدع قائله، وإنما الذي يبدع تقديمه عليه بالخلافة، هذا هو الذي يبدع من قال به، أي: من قال: إن علياً أولى من عثمان بالخلافة فهو مبتدع؛ لأنه قال قولاً يخالف ما أجمع عليه الصحابة وما اتفق عليه سلف الأمة.

    وأما من ناحية الفضل فإن هذا لا يؤثِّر؛ لأنه قد يقدم المفضول مع وجود الفاضل في الولاية، أي: أن الولاية قد يقدم فيها المفضول مع وجود الأفضل، وهذا لا يؤثر ولا يقدح في الفاضل كون غيره يقدم عليه.

    وبعض العلماء نسب إلى التشيع بسبب تقديمه علياً على عثمان، ومن هؤلاء الذين وصفوا بهذا: ابن أبي حاتم صاحب الجرح والتعديل، وكذلك الأعمش، وابن جرير، وعبد الرزاق ، وجماعة جاء عنهم تقديم علي على عثمان في الفضل، وهذا لا يقدح، والتشيع الذي سببه هذا لا يؤثر.

    وبعض ما ينسب إلى بعض الأئمة الفضلاء والعلماء المحدثين الثقات المتقنين من التشيع هذا من أسبابه، أي: تقديم علي على عثمان في الفضل، رضي الله تعالى عن الجميع، وهذا لا يؤثر، ولا يعتبر صاحبه مغموزاً ولا مقدوحاً به؛ لأن جماعة من العلماء على هذا المنوال، ولا يؤثر هذا على فضلهم وعلى نبلهم، وهذه مسألة خلافية، وإن كان المعروف والمشهور عن العلماء هو تقديم عثمان على علي في الفضل، كما أنه مقدم في الخلافة، والذين قالوا بخلاف ذلك قلة، لكن قولهم لا يقدح فيهم ولا يحط من شأنهم، ولا يؤثر على نبلهم وعلى فضلهم، فهم جهابذة وحفاظ ومتقنون وعُمَد في الجرح والتعديل, ومع ذلك جاء عنهم هذا القول فنسبوا إلى التشيع بسببه، وذلك لا يقدح فيهم ولا يؤثر.

    والذي جاء عن النسائي من كونه تكلم بهذه الكلمة في معاوية ، فقد بين فضله في موضع آخر، وكونه ألف خصائص علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، لا يؤثر فيه ولا أن ننسبه إلى التشيع؛ لأن هذا لا يدل على قدح فيه، ولا يدل على غمز فيه، وإنما هذا شأنه شأن غيره ممن نسبوا إلى التشيع, ونسبتهم إلى التشيع لا تؤثر فيهم.

    وقيل: إن وفاته كانت بسبب إيذائه الذي حصل له في دمشق، وأنه لما قال ما قال في حق معاوية ضرب, وأنه أوذي, وأنه مرض على إثر ذلك, وأنه انتقل بعد ذلك إلى الرملة، وقيل: إلى مكة ومات بها, وأنه توفي بسبب ذلك.

    وقيل: إنه توفي بسبب الإيذاء الذي حصل له من بعض الناس الذين آلمهم ولم يعجبهم ما قاله في معاوية، إن صح هذا الكلام عن الإمام النسائي رحمة الله عليه.

    وكانت وفاته في أوائل سنة ثلاث بعد الثلاثمائة؛ أي: في أول القرن الرابع الهجري.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088570837

    عدد مرات الحفظ

    777391556