قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الوضوء بالثلج.
أخبرنا علي بن حجر أخبرنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة سكت هنيهة، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما تقول في سكوتك بين التكبير والقراءة؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) ].
أورد النسائي باب: الوضوء بالثلج، وأورد بعده ترجمة: باب: الوضوء بماء الثلج، والمقصود من هذا: بيان أن الثلج طاهر مطهر، وماؤه إذا ذاب فهو أيضاً طهور مطهر، وأنه تحصل الطهارة به ويتوضأ به.
وهنا قال: الوضوء بالثلج؛ ومعنى هذا: أن الإنسان إذا استعمل الثلج في الوضوء سواء كان الثلج جامداً ,أو غير جامد, كالذي يسقط ويركب بعضه على بعض, فيكون مثل القطن، والناس يخوضون فيه ويمشون في هذا الثلج الذي بعضه فوق بعض؛ فإنه تحصل الطهارة بالثلج، فلو أن إنساناً استعمل قطعة من الثلج وأجراها على جسده وذابت وهو يتوضأ بها فإن الوضوء بذلك صحيح؛ لأنه وضوء من ماء.
وأورد فيه حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا كبر في صلاته - في الصلاة الجهرية- سكت هنيهة, ثم بدأ في القراءة، فسأله أبو هريرة رضي الله عنه قائلاً: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما تقول بين التكبير والقراءة؟) يعني: بين تكبيرة الإحرام والقراءة؛ لأنه يسكت بينهما، فسأله ما الذي يقوله في ذلك، وهذا يدلنا على ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من السؤال عن أمور الدين، وأنهم قاموا بنقل الشريعة والبحث عما يحتاج الناس إليه, حيث سأل أبو هريرة هذا السؤال لرسول الله عليه الصلاة والسلام, فأخبره عليه الصلاة والسلام بأنه يقول هذا الدعاء: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) .
فهذا دعاء من أدعية الاستفتاح، ومن أدعية الاستفتاح: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض). ومنها: (سبحانك اللهم وبحمدك..)، فهذه أنواع من الاستفتاحات، وكلها حق، وكل ما ثبت منها فهو حق لا تعارض بينها، وإذا أخذ بهذا أو بهذا أو بهذا فكله حق، فالأخذ بأي واحد منه حق، والاختلاف فيه اختلاف تنوع، وكون الواحد يختار هذه الصيغة وهذا يختار هذه الصيغة, فلا يقال: إنهم مختلفون اختلاف تضاد؛ لأن هذا ثابت وهذا ثابت، فأي واحد منها يحصل به المقصود، فالخلاف فيه خلاف تنوع، ليس خلاف تضاد، خلاف التضاد: هو الذي فيه نفي وإثبات في شيء واحد, مثل: أكل لحم الإبل هل ينقض الوضوء أو لا ينقض؟ فأحدهم يقول: ينقض, والآخر: يقول: لا ينقض، فهذا خلاف تضاد، وأيضاً واحد يقول: إنه لا تصلح الصلاة لمن أكل لحم إبل حتى يتوضأ، والآخر يقول: لا ينقض الوضوء بل يصلي ولا يتوضأ، فهذا اختلاف تضاد.
واختلاف التضاد هو الذي يسوغ فيه الاجتهاد، فللمجتهد المصيب أجران, وللمجتهد المخطئ أجر واحد، أما اختلاف التنوع فكله حق؛ لأن كله ثابت عن رسول الله، فهو أنواع، فهذا اختار هذا, وهذا اختار هذا، لكن ليس اختلاف تضاد، والتضاد نفي وإثبات، وتحليل وتحريم، هل ينقض الوضوء أو لا ينقض الوضوء؟ فهذا اختلاف التضاد، أما اختلاف التنوع فهو مثل: اختلاف أنواع التشهد، فهذا ثابت، وهذا ثابت، وهذا ثابت، فإن أتيت بهذا فأنت محق، وإن أتيت بهذا فأنت محق، وإن أتيت بهذا فأنت محق، ومثله ألفاظ الأذان,كل هذا مما ثبتت فيه السنة من أي لفظ صح وثبت, فإن الأخذ بأي واحد منها حق.
والرسول صلى الله عليه وسلم أجاب بهذا الجواب، والمقصود منه ما جاء في آخره: (اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) فإذاً: هذا يدل على أن الثلج طهور يطهر به، والمقصود من ذلك: أن الذنوب ينقى منها ويطهر منها, ويتخلص منها, كما يحصل التطهير الحسي، والتطهير المحسوس بالماء والثلج والبرد، يحصل التنقية بها، قيل: وإنما نص على البرد والثلج وهي باردة؛ لأن الذنوب تؤدي إلى النار، والنار فيها الحرارة , وفيها الإحراق، فناسب أن يأتي ذكر التطهير بالثلج والبرد وهما باردان.
والمقصود من إيراد النسائي للحديث: هو الإشارة إلى أن التطهير الشرعي الحسي يكون بالثلج, ويكون بالبرد, ويكون بالماء، وأنه يحصل به التطهير، وأن الثلج مثل الماء السائل يحصل به التطهير وإن كان جامداً، وإن كان أيضاً غير جامد, ولكنه ليس ذائباً.
قوله: [أخبرنا
علي بن حجر].
هو: علي بن حجر بن إياس السعدي المروزي الذي سبق أن مر ذكره كثيراً، وهو من رجال البخاري , ومسلم , والترمذي, والنسائي .
[أخبرنا جرير].
هو: ابن عبد الحميد الذي مر ذكره مراراً، هو الذي روى عنه علي بن حجر السعدي ، وكذلك فإنه نسب في الذين روى عنهم علي بن حجر ، وهو ثقة, وهو من رجال الجماعة, وخرج حديثه أصحاب الكتب.
[عن عمارة بن القعقاع].
هو: عمارة بن القعقاع الضبي ثقة, خرج حديثه الجماعة، وهو من رجال الكتب الستة، وهو الذي يروي عن أبي زرعة ، وقد روى عنه هنا, وروى عنه في صحيح البخاري حديث: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن..) من رواية عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة وهو آخر حديث في صحيح البخاري بهذا الإسناد.
[عن أبي زرعة].
هو: ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي حفيد جرير بن عبد الله صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام ورضي الله تعالى عن جرير , وسبق أن مر بنا ذكره فيما مضى في رواية عمه إبراهيم بن جرير عنه في حديث مضى، يروي فيه إبراهيم بن جرير عن ابن أخيه أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وأبو زرعة هذا معروف بكنيته، وهو من التابعين الذين رووا عن الصحابة، وقد ذكرت فيما مضى أنه يوافقه في هذه الكنية بعض المحدثين الذين اشتهروا برواية الحديث من المتقدمين والمتأخرين: أبو زرعة الرازي , وأبو زرعة الدمشقي، أبو زرعة الرازي هو: عبيد الله بن عبد الكريم توفي سنة مائتين وأربع وستين بعد وفاة الإمام مسلم بثلاث سنوات، وقد روى عنه مسلم في صحيحه حديثاً واحداً في الدعاء، أظنه: (اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء).
وأبو زرعة الدمشقي هو: عبد الرحمن بن عمرو النصري الدمشقي ، اسمه واسم أبيه مثل الأوزاعي ، والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو وأبو زرعة الدمشقي هو: عبد الرحمن بن عمرو ، وهما من أئمة أهل الشام إلا أن الأوزاعي متقدم في القرن الثاني، والدمشقي متأخر في القرن الثالث، وكانت وفاته سنة مائتين وإحدى وعشرين, ولم يخرج له إلا أبو داود في سننه, وأما الرازي فقد خرج له مسلم وبعض أصحاب السنن كما ذكرت ذلك فيما مضى.
ومن المتأخرين الذين اشتهروا بـأبي زرعة : ابن العراقي أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين الأثري أبو زرعة ، ويقال له: ولي الدين ، ولأبيه: زين الدين ، وكنيته أبو زرعة الذي هو أحمد بن الحسين ، وهو مشهور بذلك، ومشهور بهذه الكنية، وهو متأخر؛ لأنه في القرن التاسع، وفاته سنة ثمانمائة وست وعشرين، فهؤلاء يوافقون أبا زرعة ابن عمرو بن جرير في هذه الكنية.
وأما صحابي الحديث فهو الصحابي الذي تكرر في الأحاديث، وذكرنا في الدرس الماضي أن له في الكتب خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً.