قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب حد الغسل.
أخبرنا محمد بن سلمة والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع واللفظ له عن ابن القاسم حدثني مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال لـعبد الله بن زيد بن عاصم، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جد عمرو بن يحيى: (هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ قال عبد الله بن زيد: نعم. فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين مرتين، ثم تمضمض واستنشق ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه) ].
هنا أورد يقول النسائي رحمه الله: باب حد الغسل.
يعني: الغسل لليدين، والنسائي رحمه الله ذكر أبواباً عديدة تتعلق بصفة الوضوء، فهو يترجم للوجه بعدة أبواب، ولليدين بعدة أبواب، وللمسح بعدة أبواب، وللرجلين بعدة أبواب، وفي كل باب يورد حديثاً من أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام, المشتملة على تلك الترجمة التي ذكرها، وإن كان الحديث يشتمل عليها وعلى غيرها؛ لأن من عادتهم أحياناً أنهم يذكرون الترجمة، ثم يأتون بحديث يشملها ويشمل غيرها، وقد مضى في الأبواب السابقة ذكر صفة الوضوء عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم، منهم: ابن عمر، وابن عباس، والمغيرة بن شعبة، وأمير المؤمنين عثمان، وعلي رضي الله تعالى عنهم، وبعد ذلك ذكر ثلاثة أحاديث عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله تعالى عنه، وأول هذه الأبواب، باب حد الغسل، أي: لليدين.
وقد ذكر فيه: أن يحيى بن عمارة المازني سأل عبد الله بن زيد، وكان صهره، أي زوج ابنته: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، ثم دعا بوضوء، أي: طلب أن يحضر له ماء يتوضأ به، والوَضوء بفتح الواو: الماء الذي يستعمل، وأما الوُضوء بضم الواو, فالمراد بها: الفعل الذي هو الوضوء.
وعبد الله بن زيد بن عاصم دعا بوضوء؛ أي: طلب أن يحضر له ماء، فلما أُحضر له الماء أفرغ على يديه مرتين، وفي هذه الرواية مرتين مرتين، وفي الباب الذي بعده مرتين، والرواية الثانية هي الأقرب, وهي الأوضح؛ لأن اليدين لا تغسل عند ابتداء غسلهما كل واحدة منهما على حدة؛ بحيث إذا فرغ من الأولى انتقل إلى غسل الثانية، وإنما الغسل يكون لهما جميعاً في آن واحد، ولهذا فالرواية في الباب الذي بعده: (غسل يديه مرتين)، يعني: أنه أخذ ماءً ثم غسل يديه، ثم أخذ ماءً مرة أخرى فغسل يديه، فغسلت مرتين، فهي المناسبة والمطابقة لما جاء في غسل اليدين.
أما قوله هنا: (مرتين مرتين)، فهذا يشعر بأنه إما غسلهما أربع مرات، وإما أن يكون غسل كل واحدة من يديه مرتين، وهذا لا يتأتى؛ لأن غسل اليدين أي: الكفين قبل البدء بالوضوء، إنما يكون لهما جميعاً.
قال: (ثم تمضمض واستنشق ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين مرتين، يعني: اليد اليمنى مرتين، واليد اليسرى مرتين)، ثم قال: (ثم مسح برأسه مرة واحدة، بدأ بمقدم رأسه حتى انتهى إلى قفاه، ثم رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه)، وفي الرواية الأخرى: (غسل رجليه مرتين).
فهذا الحديث يدل على أن الغسل يمكن أن يفاوت بين الأعضاء، فيمكن أن يكون بعضه مرتين وبعضه ثلاثاً؛ لأنه جاء في هذا الحديث: أنه غسل يديه مرتين، وغسل وجهه ثلاثاً، فإذاً: هذا يدل على أن الأعضاء لا يلزم أن يسوى بينها في الغسل، بأن تكون كلها ثلاثاً ثلاثاً، أو اثنتين اثنتين، أو مرة مرة، وإنما يجوز أن يكون بعضها مرتين، وبعضها يكون ثلاثاً، وبعضها مرة واحدة، وقد ذكر في الأبواب السابقة حصول الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، وحصول الوضوء مرتين مرتين، وأنه لا حرج، فكل ذلك سائغ وجائز, ولا بأس به، وهذا الحديث الذي معنا يدل على التفاوت فيما بينها.
والترجمة وهي باب حد الغسل، المقصود منها حد غسل اليدين، وأنه إلى المرفقين، والترجمة التي قبلها عدد الغسلات؛ يعني: غسلات اليدين، وهنا حد الغسل، يعني: غايته ومنتهاه، وأن نهايته إلى المرفقين، والغاية داخلة في المغيا، فالغاية التي هي المرفقان، داخلة في المغيا الذي هو المغسول، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء عنه في الغسل أنه كان يشرع في العضد؛ أي: أنه يدخل فيها بغسل أوائلها، ولكنه لا يتوغل فيطيل فيها، والمحصل أنه: يتجاوز المرفقين، فتكون المرفقان مغسولتين، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: (من استطاع أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل) ثم إنه لم يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيما يتعلق في غسل اليدين إلا أنه أشرع في العضد، كما ذكر.
إذاً: فحد الغسل بالنسبة لليدين أن تغسل المرفقان مع اليدين.
قوله: [أخبرنا
محمد بن سلمة].
هو محمد بن سلمة المرادي المصري، وهو ثقة، وحديثه عند مسلم، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه .
[والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع واللفظ له ].
هو أيضاً مصري، وهو ثقة، وكان قاضياً في مصر، وكان بينه وبين النسائي كما عرفنا ذلك فيما مضى شيء، وكان منعه من أن يأخذ عنه، فكان النسائي يأتي ويختفي من وراء الستار، ويسمع القارئ الذي يقرأ على الحارث بن مسكين، ثم إنه لا يقول: أخبرني؛ لأن الحارث بن مسكين منعه من أن يتحمل عنه، وما أراد إخباره وتحديثه.
ولكن يقول: أخبرني محمد بن سلمة والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع واللفظ له.
وكثيراً عندما يأتي ذكر الحارث بن مسكين مقروناً مع غيره، فإن النسائي يجعل اللفظ الذي يختاره ويثبته للمتن هو من لفظ الحارث بن مسكين؛ لأن الشيخين للنسائي قد يتفق المتن عندهما وقد يختلف.
والحارث بن مسكين ثقة، وخرج حديثه أبو داود، والنسائي، وقد مر في مواضع أن النسائي يزيد فيقول: أخبرني الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، وهذا يحمل على أنه قد أذن له، وأنه يميز بين، ما رواه في حال الإذن، وما رواه في حال المنع، بأن يقول في حال الإذن: أخبرني، وفي حال المنع يقول: قراءة عليه وأنا أسمع، ولا يقول: أخبرني.
[ عن ابن القاسم].
هو عبد الرحمن بن القاسم، ثقة، يروي عن الإمام مالك، وروى عنه مسائل الفقه والحديث، وهو من أشهر أصحاب مالك، وقد جاء في سنن النسائي عدة أحاديث يرويها ابن القاسم عن مالك، وابن القاسم هو عبد الرحمن، وهو أيضاً مصري، وحديثه أخرجه البخاري، وأخرجه النسائي، وأبو داود في المراسيل، ولم يخرج له في كتاب السنن شيئاً .
[ حدثني مالك].
هومالك بن أنس إمام دار الهجرة، وأحد أصحاب المذاهب الأربعة المعروفة والمتبوعة المشهورة، وهو من الذين جمعوا بين الفقه والحديث، وما أكثر ما يأتي ذكره في الكتب الستة، بل إن البخاري -كما ذكرت فيما مضى- يعتبر الإسناد الذي فيه مالك عن نافع عن ابن عمر أنه أصح الأسانيد، يعني: أن رجاله في القمة، وأنهم مبرزون.
وحديث الإمام مالك في الكتب الستة.
[ عن عمرو بن يحيى المازني].
وعمرو بن يحيى المازني يأتي ذكره لأول مرة، وهو عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني، وهو ثقة، وخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[ عن أبيه].
هو يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني، وهو ثقة، وحديثه في الكتب الستة، وهو الذي سأل عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني رضي الله تعالى عنه عن كيفية وضوء النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ قال عبد الله بن زيد بن عاصم: نعم، ثم إنه دعا بوضوء، وتوضأ وأراه الكيفية التي رأى رسول الله عليه الصلاة والسلام يتوضأها.
وفي الإسناد يقول: إن عبد الله بن زيد بن عاصم كان من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وكان جد عمرو بن يحيى المازني، وذلك أن أباه يحيى زوج ابنة عبد الله بن زيد بن عاصم ، فيكون جد عمرو بن يحيى لأمه، ولهذا قال: وكان جد عمرو بن يحيى؛ يعني: أن يحيى بن عمارة المازني له صلة به من حيث القرابة بالنسب، ومن حيث المصاهرة؛ لأنه جد ابنه عمرو بن يحيى؛ ولأن أم عمرو بن يحيى هي بنت عبد الله بن زيد بن عاصم، والتي تزوجها يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري.
[عبد الله بن زيد بن عاصم ].
هو من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم لا يحتاجون إلى أن يذكروا بشيء أكثر من أن يقال عن الواحد منهم: إنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا شرف ومنقبة ومكرمة، ولذلك أكرم الله عز وجل بها أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي هو خير البشر اختار الله له أصحاباً جعلهم في زمانه، وأوجدهم في زمانه، فكان لهم الشرف برؤيته وبسماع حديثه، وبتلقي السنن منه، وأن يكونوا الواسطة بين رسول الله عليه الصلاة والسلام وبين الناس، فهذا شرف لم يلحقهم به أحد، فهم خير هذه الأمة التي هي خير الأمم، وكل حق وهدى وصل إلى الناس إنما وصل عن طريقهم، ومن لم يأخذ منهم ولم يتلقى الهدى من طريقهم، فإنه قد ظفر بالخذلان وبالحرمان، وأصيب بالبعد عن الحق والهدى؛ لأن الحق والهدى إنما يعرف عن طريق أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم هم الواسطة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الناس.
فما عرف الناس الكتاب والسنة إلا عن طريق الصحابة، ما عرف الناس الحق والهدى الذي أخرج الله تعالى به الناس من الظلمات إلى النور إلا عن طريق الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ولهذا قال: (وكان من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام)، يعني: أنه لا يحتاج إلى أن يذكر بشيء وراء ذلك؛ لأن هذا هو الفخر والفضل والنبل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله سبحانه وتعالى ذو الفضل العظيم، فأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام شرفهم الله بصحبته، ومتع أبصارهم في هذه الحياة الدنيا بالنظر إلى طلعته، وشنف أسماعهم بسماع صوته عليه الصلاة والسلام، ولم يحصل ذلك لأحد سواهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فلهم أجورهم، ومثل أجور كل من استفاد خيراً وعلماً وهدى بسببهم إلى يوم القيامة، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.