شرح حديث ابن عباس في الأمر بإسباغ الوضوء
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في الأمر بإسباغ الوضوء
شرح حديث: (أسبغوا الوضوء)
تراجم رجال إسناد حديث: (أسبغوا الوضوء)
شرح حديث أبي هريرة في فضل إسباغ الوضوء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الفضل في ذلك.
أخبرنا قتيبة عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)].
لما ذكر النسائي في الباب الذي قبل هذا الأمر بإسباغ الوضوء، وأورد تحته بعض الأحاديث الدالة على ما ترجم له؛ عقبه بهذه الترجمة، وهي قوله: [الفضل في ذلك] يعني: الفضل في إسباغ الوضوء، وما يدل على فضل إسباغ الوضوء، وعلى ما فيه من الفضيلة، وما فيه من الأجر والثواب. هذا هو المقصود بالترجمة.
وأورد حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) فإن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين أن إسباغ الوضوء على المكاره، وما أضيف إليه من كثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة بين أن الله تعالى يمحو به الخطايا ويرفع به الدرجات.
وبين بعد ذلك أيضاً في قوله: (فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) فدل على الفضل من جهتين: من جهة أنه ذكر أولاً: أن هذا مما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، ثم ختم ذلك بقوله: (فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
ثم إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟) هذا الكلام الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم تمهيداً لما يريد أن يبينه لأصحابه، هذا من كمال نصحه، وكمال بيانه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أحياناً يحصل منه أن يشير قبل ذكر ما يريد أن يذكره بما يلفت النظر إليه، وبما يحفز الهمم إليه، ولما يجعل النفوس تتطلع إليه، ألا أخبركم بكذا وكذا؟ فيذكر شيئاً من الفضائل في عمل من الأعمال، تجعل السامع يشرئب، ويترقب، وينتظر، ويستعد، ويتهيأ لمعرفة هذا الذي يكون بهذا الوصف، وبهذا الشأن، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما قال أولاً: إسباغ الوضوء، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فيه كذا وكذا، وإنما أتى بشيء فيه استفهام، وهذا من بيانه عليه الصلاة والسلام، ويأتي على صيغ مختلفة، من ذلك ما يأتي في بعض الأحاديث: ثلاث من وجدت فيه فله كذا وكذا، وذلك مثل قوله: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) فهنا ذكر وصف هذا العدد في شيء يجعل النفوس تترقب إليه.
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، فهو تمهيد مشتمل على أوصاف، تجعل السامع يتشوف، ويستعد، ويتهيأ لاستيعاب ما يلقى عليه، وما يبين له، وهذا من كمال نصحه، وكمال بيانه عليه الصلاة والسلام.
قوله: (ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟) ففيه تخليص من ذنوب، ورفعة درجات، تخلية وتحلية، فالتخلية هي: تجاوز، ومحو، ومغفرة الذنوب، والتحلية وهي: رفعة درجات.
ففيه حط خطايا، ومحو خطايا، ورفعة درجات، والمحو يمكن أن يكون من صحف الملائكة الذين يكتبون السيئات؛ لأنهم يكتبون الحسنات والسيئات، وليست القضية هي مجرد محو، وإنما مع المحو علو، وسمو، ورفعة درجة، وعلو مكانة، ورفعة الدرجات إنما هي في الجنة؛ لأن الجنة درجات، كما أن النار دركات بعضها أسفل من بعض، فالجنة درجات بعضها فوق بعض، فيرفع الله تعالى له الدرجات في الدنيا والآخرة، بأن يكون له مكانة في النفوس، ومحبة في النفوس، وفي الآخرة رفعة درجات في الجنة، وعلو درجات في الجنة عند الله سبحانه وتعالى.
ثم بين ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله: (إسباغ الوضوء على المكاره)، وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث في هذه الترجمة، وهي: فضل إسباغ الوضوء، وهذا الفضل للإسباغ ولغيره معه الذي هو: كثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، هذه الأمور الثلاثة يرفع الله تعالى بها الدرجات، ويحط بها الخطايا، ووصفت بأنها الرباط ثلاث مرات.
وقوله: (إسباغ الوضوء على المكاره) يعني: ما كان فيه مشقة، وكون الإنسان يتوضأ، ويسبغ الوضوء، وفي ذلك مشقة عليه، بأن يكون مثلاً الماء فيه برودة، فتجده يصبر على المشقة، وعلى ما تكرهه النفوس، وما يشق على النفوس؛ لما فيه من رفعة الدرجات عند الله عز وجل.
وليس معنى هذا أن الإنسان يلازم الإقدام على ذلك الشيء، الذي هو استعمال الماء البارد، وإن حصل له الضرر من ورائه؛ فإن الإنسان لا يجلب لنفسه الضرر، ولكن المقصود من ذلك: الشيء الذي لا يترتب عليه مضرة على الإنسان من مرض أو هلاك، وإنما فيه مشقة تتحملها النفوس، وتصبر عليها في سبيل الله وابتغاء وجه الله عز وجل، وابتغاء الرفعة، وعلو الدرجة عند الله سبحانه وتعالى. هذا هو المقصود بإسباغ الوضوء على المكاره.
ثم أيضاً: يصبر على الوضوء، ويقدمه على غيره من أمور الدنيا، فالوضوء، والصلاة، وما طولب به الإنسان من العبادات، فإنه يقدمها، ولا يجعل الدنيا تنافسها، أو تحول دونها، أو تعوق دونها، أو تشغله عنها، بل أمور الآخرة هي المقدمة، وهي التي فيها الشغل عن الدنيا؛ لأن الدنيا والاشتغال بها كل ذلك متاع في الحياة الفانية، والحياة المنتهية، وأما الطاعات والمحافظة عليها فهي الزاد في الحياة الباقية والحياة الدائمة، كما قال الله عز وجل:
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
[البقرة:197]، فالإنسان يصبر على الطاعات وإن شقت على النفوس؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، كما قال ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام، والنار حفت بالشهوات.
ومن الأشياء التي فيها مشقة، والنفوس لا تميل إليها، مثل: الذهاب إلى المسجد في شدة الرمضاء، وفي شدة الحر، وفي شدة البرد، وما إلى ذلك من الأشياء التي فيها مشقة على النفوس، ولكنها تستسهل وتخف على النفوس؛ لأن فيها محافظة على طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره)، يعني: أنها تحتاج إلى ابتغاء وجه الله عز وجل، وصبر على طاعة الله؛ لأن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن معاصي الله، وصبر على أقدار الله، والطاعات يصبر عليها وإن شقت على النفوس، والمعاصي يصبر عنها، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وحفت النار بالشهوات) فيحتاج الإنسان إلى أن يصبر عنها، وإن اشتهتها النفوس، ومالت إليها النفوس، إلا أنها تميل إلى شيء فيه لذة ساعة، ولكن يعقبها شقاوة، ويعقبها حسرة، ويعقبها ندامة، فلا يقدم الإنسان على لذة عاجلة تورث خيبة، وخساراً، وهلاكاً، ودماراً في الدنيا والآخرة، والعياذ بالله.
فضل كثرة الخطا إلى المسجد
فضل انتظار الصلاة بعد الصلاة
ثم قال: (
وانتظار الصلاة بعد الصلاة) هذا يحتمل أن يكون المراد به: كونه يبقى في المسجد بأن يصلي صلاة، ثم يجلس في المسجد ينتظر الصلاة الثانية، ويمكن أيضاً أن يكون المراد به: وإن ذهب من المسجد إلى بيته إلا أن قلبه متعلق بالمسجد، بمعنى: أنه إذا ذهب من المسجد يفكر متى يرجع إليه، وقلبه متعلق بالمسجد، فهو لا يرجع منه إلا وهو يفكر في الذهاب إليه، ويتطلع إلى الرجوع إليه.
وهذا هو ما جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) يعني: لا يذهب منه إلا وهو مشدود إليه، ومدفوع إليه، يتحرى ويترقب الوقت الذي به يرجع إلى المسجد.
إذاً يمكن أن يدخل تحته من يصلي الصلاة، ثم يجلس يقرأ القرآن حتى تأتي الصلاة الأخرى، لا سيما في الأوقات المقاربة، مثل: ما بين العصر والمغرب، والمغرب والعشاء؛ فإن هذه أوقات متقاربة، يمكن أن يكون فيها الجلوس في المسجد، وذكر الله عز وجل، وقراءة القرآن، أو يكون المعنى: أنه يرجع، ولكنه إذا رجع يكون قلبه متعلقاً بالمسجد يفكر متى يرجع إليه.
إذاً: هذه الأعمال الثلاثة التي هي: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة) مما يحط الله بها الخطايا، ويرفع بها الدرجات.
ثم أيضاً وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا هو الرباط: (فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، والرباط: هو المرابطة على الشيء والملازمة له، وهو يطلق على الرباط في سبيل الله، وهو سد الثغور، والمداخل التي يدخل منها الكفار، والأعداء إلى بلاد المسلمين، الأعداء الذين يتحينون الفرص للانقضاض على المسلمين، والإساءة إليهم؛ فإن البقاء في الثغور، والمنافذ، والمداخل التي في طريق الكفار، ويمكن أن يهجم منها العدو؛ هذا من الرباط في سبيل الله؛ لأن فيه ملازمة في الجهاد في سبيل الله؛ لأن كونه يجاهد في سبيل الله، ملازم في المكان الذي يأتي منها الأعداء فهو يحول دونهم، ويصدهم عن أن يدخلوا إلى المسلمين، وأن يفتكوا بهم، ويؤذوهم.
فمثله هذا الذي جاء في هذا الحديث، من كون الإنسان يلازم المساجد، ويحرص عليها، ويتعلق قلبه بها، وينتظر الصلاة بعد الصلاة، بمعنى: أنه يجلس في المسجد ينتظر الصلاة التي بعدها، وكذلك إذا خرج هو متعلق قلبه بها، وكذلك أيضاً يذهب إليها، وإن كان مكانه بعيداً ذاهباً آيباً، كل ذلك فيه مشقة عليه، وكل ذلك يكتبه الله عز وجل له، ويحط عنه به الخطايا، ويرفع به الدرجات، وكذلك إسباغه الوضوء على المكاره في الشيء الذي يكون عليه مشقة، وعليه تعب، فإنه يصبر ويحتسب لكن بشرط: أن لا يلحق ذلك به ضرراً: من مرض يحبسه عن الطاعة، أو هلاك، أو موت يترتب على إضراره بنفسه، إذا لم يحصل ذلك، وإنما إن حصل مجرد المشقة، فإن الطريق إلى الجنة شاق، ويحتاج إلى صبر واحتساب، ليس كما يقال: مفروشاً بالورود والرياحين، وإنما فيه العناء والمشقة، فيه التكاليف والتكاليف شاقة، ولكن من يوفقه الله عز وجل يصبر، ويحتسب، وإن شقت التكاليف عليه؛ لأنه يعلم أن العاقبة حميدة، ويعلم أن النتيجة طيبة.
إذاً قوله: (فذلكم الرباط) يعني: هذا هو الذي فيه الملازمة والثبوت على هذا العمل الذي يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، وهو يشبه الرباط في سبيل الله.
تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في فضل إسباغ الوضوء
قوله: [أخبرنا
قتيبة].
قتيبة، ما أكثر ما يأتي ذكره في الأسانيد، بل هو أول شخص روى عنه النسائي في سننه حديثاً، وأول شيوخه في كتابه السنن وهو: قتيبة بن سعيد، وكثيراً ما يأتي ذكره في الأسانيد قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو من الثقات، الأثبات، وممن خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن مالك].
هو: مالك بن أنس إمام دار الهجرة، صاحب المذهب المالكي، أحد المذاهب الأربعة، الذي صار له أصحاب عنوا بجمعه، والتأليف فيه، وتنظيمه، وترتيبه، وبقيت أقواله ومذهبه لعناية أصحابه بفقهه، وإلا فإن غير الأئمة الأربعة في زمانهم وقبل زمانهم من كان مجتهداً، وله كلام في مسائل الفقه، لكنه ما لقي مثل ما لقي هؤلاء الأربعة، من وجود أصحاب لهم، وأتباع لهم يعنون بجمع فقههم.
فهذا الرجل الذي هو الإمام مالك رحمة الله عليه محدث، فقيه، وكتابه الموطأ مشتمل على حديث، وعلى فقه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة، بل إن أصح الأسانيد عند البخاري السلسلة التي فيها مالك: مالك عن نافع عن ابن عمر.
[عن العلاء بن عبد الرحمن].
هو العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الجهني الحرقي مولاهم، وهو صدوق، خرج حديثه البخاري في جزء القراءة، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة، والحرقة هم من جهينة.
[عن أبيه].
أبوه هو عبد الرحمن بن يعقوب الجهني الحرقي مولاهم، وهو ثقة، والذين خرجوا له مثل الذين خرجوا لابنه: البخاري في جزء القراءة، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة، فقد خرجوا للاثنين على حد سواء: عبد الرحمن بن يعقوب، وابنه العلاء بن عبد الرحمن.
[عن أبي هريرة].
هو أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وهو الصحابي الجليل، أكثر الصحابة على الإطلاق حديثاً، وهو أحد السبعة المكثرين من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثرهم، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.