شرح حديث عائشة في صور نزول الوحي على النبي
الصور التي ينزل بها الوحي
ولما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن كيفية مجيء الوحي إليه؟ قال: [ أحياناً يأتيه مثل صلصلة الجرس]، يعني: أنه صوت متدارك متتابع لا يفهم من أول وهلة، وقال: [وهذا أشده علي]، وهذا يدل على أن الوحي، أو أن مجيئه إليه فيه عليه شدة، ولكن بعضه أشد من بعض، وهذا أشده؛ يأتيه بمثل صلصلة الجرس، يعني: أنه صوت متتابع لا يُفهم ولا يعقل من أول وهلة، بل يحتاج إلى شدة، وإلى الحصول عليه، وفهمه ليس بالشيء الهين.
وأحياناً يتمثل له الملك - الذي هو جبريل - على صورة فتى، وقد جاء في بعض الأحاديث أنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على صورة دحية بن خليفة الكلبي، وكان رجلاً وسيماً، من أجمل أصحاب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأحياناً: كان يأتي إليه على صورة رجل غير معروف، كما جاء في حديث جبريل المشهور أول حديث في كتاب الإيمان؛ أول حديث في صحيح مسلم؛ وهو: السؤال عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، حيث قال فيه عمر رضي الله عنه: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد)، يعني: صورة رجل مجهول غير معروف، فهو يأتي على صورة رجل، ويتمثل بصورة رجل، والملائكة تتمثل بصورة الرجال، وجبريل كان يتمثل بصورة بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم المعروفين كـدحية، وأحياناً يكون يأتي على صورة رجل غير معروف للصحابة، كما جاء في حديث جبريل.
وقد جاء جبريل إلى مريم، على صورة بشر كما جاء قال تعالى:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا
[مريم:16-17]، جاء على صورة بشر سوي، ثم أيضاً الملائكة الذين جاءوا إلى إبراهيم، وإلى لوط، جاءوا على صورة بشر، ولهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أعد لهم الضيافة، وطبخ لهم عجلاً، وقدمه إليهم وقال:
أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ
[الذاريات:27-28]، وعلم أنهم ملائكة، فجاءوا على صورة بشر، وكذلك جاءوا إلى لوط على صورة البشر، فالملائكة يتمثلون على صور البشر، ويأتون على صور البشر، والحديث الذي معنا فيه أنه يأتيه على صورة فتى فينبذه إليه، يعني: يلقي الوحي عليه.
إذاً: الحديث اشتمل على بيان صورتين من صور مجيء الوحي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ إحداها: أنه يأتي مثل صلصلة الجرس، يعني أنه صوت متتابع متدارك لا يفهم لأول وهلة، والثاني: أنه يأتي على صورة رجل ويلقي عليه القرآن، ويلقي عليه الوحي، فيأخذه منه وهو على صورة بشر.
وللوحي صفات أخرى يأتي بها؛ مثل كونه يسمع عنده دوي كدوي النحل، وكونه ينفث في روعه، وكونه يأتيه في المنام، ورؤيا الأنبياء وحي وحق، فما يحصل لهم في المنام فهو وحي.
والحديث اشتمل على ذكر هاتين الصورتين من صور مجيء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم مما يذكر عند هذا الحديث أن الوحي محمود، بل إن الوحي به حياة القلوب، والجرس مذموم، وقد جاء ذمه، وأن الملائكة لا تتبع الرفقة الذين معهم جرس، والدواب التي علقت عليها الأجراس، فهو مذموم، وهنا جاء تشبيه ذلك الشيء المحمود بذلك الشيء المذموم، فكيف يكون التشبيه بما هو محمود لما هو مذموم؟
وقد أجيب عن هذا: بأن التشبيه لا يكون من جميع الوجوه، وإنما يكون من بعض الوجوه التي فيها التتابع؛ وهو تتابع الصوت والتدارك، وهو شيء معهود عند الناس، فمثل لهم بشيء يعهدونه، ومحل الشاهد أو المقصود من التمثيل: هو التتابع الذي يكون في الصوت، يعني: صوت متدارك متتابع لا يفهم منه الشيء من أول وهلة، قالوا هذا في الجواب عن هذا الإستشكال الذي هو تشبيه ما هو محمود بما هو مذموم.
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في صور نزول الوحي على النبي
قوله: [ أخبرنا
إسحاق بن إبراهيم].
إسحاق بن إبراهيم هو: ابن مخلد بن راهويه الحنظلي، المحدث، الفقيه، الذي وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهو أحد الأفراد القلائل الذين ظفروا بهذا اللقب، وبهذا الوصف؛ وهو أنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه فإنه لم يخرج له شيئاً، وكلمة: (راهويه) وما شابهها، هذه من الألفاظ التي ختمت بالواو والياء والهاء، والمحدثون ينطقون بها بالواو الساكنة المضموم ما قبلها، وبعدها ياء مفتوحة وآخرها هاء، وأما أهل اللغة فينطقونها مفتوحة الواو والياء ساكنة، وهي المختومة بـ(ويه)، المحدثون يقولون: راهويّه، وأهل اللغة يقولون: راهوْيَه.
[أنبأنا سفيان].
سفيان هو ابن عيينة، جاء مسمىً في الإسناد في صحيح مسلم؛ لأن مسلماً رحمه الله روى هذا الحديث في صحيحه، وفيه تسمية سفيان، بأنه ابن عيينة وتعيينه، وقد عرفنا أن الاسم المهمل الذي لم ينسب، والذي هو يشترك مع غيره، طريقة تمييز المهمل: أن ينظر في الأسانيد الأخرى للحديث نفسه، فقد يكون في بعض الأسانيد تسمية، أو نسبة ذلك الرجل المهمل كما هنا، فإنه نسب في الإسناد في صحيح مسلم، نفس الإسناد والحديث جاء في صحيح مسلم وفيه تسميته بأنه ابن عيينة.
ومن الطرق التي ذكرتها فيما مضى: معرفة الشيوخ والتلاميذ، وإذا كان الشيوخ فيهم من يسمى سفيان، أو التلاميذ فيهم من يسمى سفيان، ينظر لمن يكون لأحدهما به اختصاص؛ من كونه مكثراً من الرواية عنه، وملازماً له، وكونه من أهل بلده، وما إلى ذلك من الأمور التي يكون بها تمييز المهمل.
الحاصل: أن سفيان الذي معنا يحتمل ابن عيينة، ويحتمل الثوري، جاء الإسناد في صحيح مسلم معيناً أنه ابن عيينة، وعلى هذا: فقد ميز ذلك المهمل بأنه ابن عيينة وليس الثوري، وسفيان بن عيينة ثقة، حجة، خرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
[عن هشام بن عروة].
هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة، فقيه، ربما دلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن أبيه]
هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو من فقهاء التابعين، بل هو أحد الفقهاء السبعة في المدينة، المشهورين في عصر التابعين، وعروة بن الزبير منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عائشة أم المؤمنين].
هي خالته؛ لأن عروة هو ابن أسماء بنت أبي بكر، وأسماء أخت عائشة، فهو يروي عن خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، الصديقة بنت الصديق، وهي الصحابية الوحيدة التي روت الحديث الكثير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ترو امرأة من الحديث مثل ما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
شرح حديث عائشة في صور نزول الوحي على النبي من طريق أخرى
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا
محمد بن سلمة و
الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع واللفظ له عن
ابن القاسم أنه قال: حدثنا
مالك عن
هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة رضي الله تعالى عنها: (
أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول، قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً)].
هنا أورد النسائي حديث عائشة رضي الله عنها من طريق أخرى، وهو بمعنى الحديث الذي قبله، والسائل هو نفس السائل؛ الحارث بن هشام: [كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، فيفصم عني وقد وعيت ما قال]، (يفصم) يعني: ينتهي وينقطع وقد وعى؛ أي: بعد ما ينتهي من الوحي يكون قد وعى ما قال، [وأحياناً يأتيه على صورة رجل، فيكلمه فيعي ما يقول]، فهو مثل الذي قبله تماماً، ويدل الحديث على أن السائل إذا سئل عن شيء يحتمل التفصيل فإنه يجيب بالتفصيل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل عن كيفية نزول الوحي، والكيفية لها صور متعددة، ولها تفصيل، ذكر أهم هذه الصور التي هي حالة كونها كصلصلة الجرس، وكونه يأتيه على صورة بشر.
وقالت عائشة رضي الله عنها: (ولقد رأيته في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقاً). يعني: أنه يلاقي شدة، ففي اليوم الشاتي الشديد البرودة يحصل له العرق، الذي عادة إنما يأتي في الصيف، وفي وقت شدة الحر، فهو يأتيه في وقت شدة البرد، وذلك لما يعانيه من المشقة عند نزول الوحي، فكان في اليوم الشاتي الشديد البرد يتفصد جبينه عرقاً؛ يعني: يصب العرق منه كما يصب الدم من الشخص الذي فصد، فيخرج الدم من عرقه بغزارة وبكثرة، فكذلك العرق يتصبب منه بغزارة وبكثرة، وذلك لما يلاقيه من الشدة عند نزول الوحي عليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
فهذا هو معنى كلام عائشة الذي تصف ما يلاقيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من شدة عند نزول الوحي.
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في صور نزول الوحي على النبي من طريق أخرى
شرح حديث ابن عباس في سبب نزول قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا
قتيبة حدثنا
أبو عوانة عن
موسى بن أبي عائشة عن
سعيد بن جبير عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله عز وجل: (
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 
[القيامة:16-17]، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه، قال الله عز وجل:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 
[القيامة:16-17]، قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه،
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ 
[القيامة:18]، قال: فاستمع له وأنصت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق قرأه كما أقرأه)].
هنا أورد النسائي حديث ابن عباس، أو أثر ابن عباس في تفسير قوله الله عز وجل:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[القيامة:16]، فقال رضي الله عنه: [كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة]، يعني: أنه يعاني عند نزول الوحي عليه شدة، وكان يحرص على متابعة الملك فيحرك لسانه به؛ حتى يحفظه فلا يفوته منه شيء، فأمره الله عز وجل أن لا يحرك لسانه، وإنما يستمع عند قراءة جبريل له، والله تعالى يمكنه من حفظه، ويمكنه من قراءته، فلا يحرك لسانه عند سماعه من جبريل استعجالاً إلى حفظه، وإنما يستمع فقط، والله تعالى تكفل بحفظه إياه، بحيث يعيه، ولا يفوته منه شيء، فكان يستمع، وإذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه إياه جبريل، وحصل ما وعده الله عز وجل به؛ في أن جمعه وقرآنه في صدرك، وقرآنه أي: تقرأه؛ لأن هنا القرآن بمعنى القراءة،
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[القيامة:17]، يعني: قراءته، بمعنى أنك تقرأه على الناس؛ قراءتك إياه على الناس، فتتمكن من ذلك وتحفظه وتقرأه على الناس.
قوله: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة].
يعني: يحصل له عناء ومشقة من نزول الوحي عليه، ويوضح ذلك ما جاء في حديث عائشة المتقدم: (كان في اليوم الشديد البرد يتفصد جبينه عرقاً). مع أن العرق إنما يكون في وقت الصيف، وفي وقت الحر، أما في وقت البرد فلا يكون فيه العرق إلا مع شدة ومعاناة.
قال: [وكان يحرك شفتيه].
فكان يحرك شفتيه ليحفظ، ولئلا يفوته شيء.
قال له: [
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ
[القيامة:16] ]، وذكر الحكمة في هذا التحريك؛ وهي أن يحفظه. وأن يستعجل بحفظه لئلا يفوته منه شيء، وعده وأكد ذلك بقوله:
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[القيامة:17]، يعني: إن علينا جمعه في صدرك، وقراءتك إياه على الناس، قرآنه يعني: قراءته، فالقرآن بمعنى القراءة، والقرآن يأتي بمعنى القراءة، ويأتي بمعنى القرآن الذي هو كلام الله عز وجل.
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
[القيامة:18]، يعني: قرأه جبريل عليك، وهنا ذكر إسناد الضمير إليه، مع أن الذي يقرأه إنما هو جبريل، وهو يسمع من جبريل ولا يسمع من الله، (فإذا قرأناه)، يعني قرأه جبريل، وهذا من جنس قول الله عز وجل:
يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ
[هود:74]، وهو يجادل الملائكة الذين جاءوا إليه، وهذا من هذا القبيل، يعني: أنه إذا قرأناه، يعني: قرأه عليك الملك الذي أرسله الله عز وجل بالوحي من عنده فاتبع قرآنه؛ يعني: استمع له وتابعه في الاستماع، فكان بعدما أمر وأرشد إلى هذا لا يحرك لسانه، وإنما يسمع، فإذا فرغ جبريل من إلقاء الوحي عليه وانطلق، قرأه على الناس كما أقرأه إياه جبريل، لا يفوته منه شيء؛ لأن الله تعالى تكفل بحفظه، ووعده بأن عليه جمعه وقرآنه.
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في سبب نزول قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به)