أورد النسائي هذه الترجمة وهي: الاجتهاد في الدعاء في السجود، يعني: كون الإنسان يجتهد في الدعاء، ويكثر منه، ويلح على الله عز وجل في الدعاء وهو ساجد؛ لأن هيئة السجود وحالة السجود، من المواطن التي هي حرية بالإجابة، وقريب أن يستجاب للداعي فيها، وقد جاء في الحديث: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وهو حديث سيأتي.
وأورد النسائي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستر)، يعني الذي كان على حجرته، أو على باب حجرته، [(ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه)]، يعني: في أواخر أيامه عليه الصلاة والسلام، [(ورأسه معصوب)]، يعني: من شدة المرض، وهذا فيه دليل: على أنه إذا مرض الرأس وصار فيه وجع أنه يجوز شده، وكونه يعصب بعصابة تشده حتى يهون المرض، وهذا من الأسباب السائغة، والجائزة؛ لأن شد الرأس مع وجود المرض والصداع فيه، ينفع ويفيد بإذن الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم فعل هذا، وهو القدوة، والأسوة عليه الصلاة والسلام، فقال: [(اللهم قد بلغت، ثلاث مرات، ثم قال: إنه لم يبق من مبشرات النبوة، إلا الرؤيا الصالحة، يراها الرجل أو ترى له)]، والحديث سبق أن مر، وقد عرفنا معناه، وأن الوحي ومعرفة الأمور المغيبة والطرق المشروعة، إنما كان يعرف عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الذي ينزل عليه الوحي ويخبر بالأمر المغيب المستقبل، والأمر الذي هو غائب يخبر عنه عليه الصلاة والسلام بإيحاء الله عز وجل إليه، وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هناك وحي، وليس هناك طريق مشروع لمعرفة أمر مغيب، أو أمر مستقبل، لكن الرؤيا الصالحة هي من هذا القبيل؛ لأنها تكون إشارة إلى شيء يحصل في المستقبل، فتكون بشارةً يراها مؤمن أو ترى له، يعني بأن يكون مؤمن هو يراها في منامه، أو يراها لغيره، أقول: أو هو يراها لغيره، يراها لنفسه، أو يراها لغيره، [(يراها المؤمن أو ترى له)].
ومن المعلوم، أن المنام يأتي الإنسان فيه رؤى، ويأتي فيه أحلام، أحلام تأتي على هواجس، وعلى أمور يعني قد تكون نتيجةً عن تفكيرات، وعن انشغال بال بشيء، فيأتيه في المنام كما جاءه في اليقظة، وكما كان مشغولاً به في اليقظة يأتيه في المنام، لكن الرؤيا الصالحة هي التي تأتي للإنسان، وتكون بشارةً له، إما لرائيها، أو لشخص آخر مؤمن يراها له مؤمن، فهذه من المبشرات. معناه: أنه إذا رآها فيكون فيها بشارة له إذا كانت حسنة وكانت طيبة، ولهذا جاء في الحديث أن الإنسان لا يخبر بها إلا من يحب، يعني: إذا كان رأى أمراً حسناً، فإنه يحدث به من يحب، لا يحدث به كل أحد، وإذا كانت سيئة، فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وليتحول عن جنبه الذي رأى فيه، ويستعيذ بالله، ولا تضره بإذن الله.
وهذا هو المقصود من الترجمة، أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم.
معناه: أنه يجتهد في الدعاء، ويحرص على الدعاء، ويكثر من الدعاء في ذلك الموطن، وذلك الموضع من مواضع الصلاة؛ لأنه قمن، أي: حري، وجدير بأن يحصل لصاحبه الإجابة، وهذا هو محل الشاهد؛ لأن فيه الاجتهاد في الدعاء.
تراجم رجال إسناد حديث: (... وإذا سجدتم فاجتهدوا في الدعاء ...)
أورد النسائي هذه الترجمة وهي: الدعاء في السجود، وهنا قال: الدعاء، ولم يقل: الذكر، وسبق في الركوع، أن الأبواب ذكرها بلفظ الذكر، الذكر في الركوع، ما قال: الدعاء في الركوع، وإنما قال: الذكر في الركوع، وهنا قال: الدعاء في الركوع؛ وذلك أن الركوع هو موطن يكثر فيه تعظيم الرب كما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما الركوع فعظموا فيه الرب)، وأما السجود فإنه يكثر فيه الدعاء؛ ولهذا قال الرسول: (فاجتهدوا فيه من الدعاء، فقمنٌ أن يستجاب لكم)، فهناك عبر بالذكر؛ لأن الغالب عليه الذكر، الذي هو الركوع، والتعظيم لله عز وجل، وهنا عبر بالدعاء؛ لأن الغالب على السجود الدعاء، وإن كان كما قلت: أنه يجوز أن يدعى في الركوع، ويجوز أن يعظم الله في السجود، وحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوع وسجوده: (سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي)، يدل على هذا وهذا، فالإتيان به في الركوع يدل على الدعاء في الركوع، والإتيان به في السجود يدل على الثناء في السجود، ثم سبحان ربي الأعلى هو ثناء، وهو يؤتى به في السجود، وكذلك يؤتى بغيره من الثناء على الله عز وجل.
ثم أورد النسائي حديث ابن عباس، وأنه بات عند خالته ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكان عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام نام وقام وحل شناق القربة، وهو الوكاء، فأفرغ ماءً وتوضأ وضوءاً بين وضوئين، يعني: خفيف، توضأ وضوءاً خفيفاً، ثم إنه رجع فنام، ثم إنه قام وحل شناق القربة وتوضأ الوضوء، أي: الوضوء المعروف، الوضوء الذي يسبغه، ولهذا قال: (الوضوء)، يعني: الوضوء المعروف ما قال مثل ما قال في الأول: وضوءاً بين وضوءين، يعني: خفيف، ليس فيه تقليل الماء جداً، وليس فيه إكثاره جداً، وإنما هو بين هذا وهذا؛ ولهذا قال: (هو الوضوء)، أي: المعتاد الذي كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن الوضوء لا يزاد فيه على ثلاث مرات، غسل الأعضاء لا يزاد فيها على ثلاث مرات، يعني لا بد من مرة مستوعبة، وهذا هو المجزئ والواجب الذي لا بد منه، مرة واحدة مستوعبة، وبعد ذلك الغسلة الثانية والثالثة، ولا يزاد على الثالثة في الوضوء.
والمقصود من ذلك: أن هذا الدعاء، كان يدعو به الرسول صلى الله عليه وسلم في سجوده، وهو دعاء عظيم، يعني كون الإنسان يسأل ربه أن يعطيه النور في جميع أحواله، وفي جميع جهاته، وفي أعضائه، في سمعه، وبصره، وقلبه، ومن جهاته الست، يعني عن يمينه، وشماله، وأمامه، وخلفه، وفوقه، وتحته، وأن يعظم له النور.
تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس في الدعاء في السجود
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، يعني: ليس لهم رؤساء، يعني يسوسونهم ويصيرون متبوعين لهم، ولا سراة، يعني: ولا ولاية ولا تقدم على الغير، إذا كان الجهال هم الذين يسودون، فالسري هذا هو المراد به، يعني في الأصل هذا معناه، ويسمى به، ولهذا هناد بن السري هو أبو السري، وهو ابن السري، وقد ذكرت مراراً وتكراراً، أن فائدة معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه: ألا يظن التصحيف فيما لو ذكر بالكنية بدل النسبة، لو قيل: هناد أبو السري، الذي ما يعرف أن هناد بن السري هو أبو السري، يظن أن (أب) صحفت من (ابن)، وأبدلت وجاءت مكانها (أبو)، لكن من عرف أن هناد كنيته وافقت اسم أبيه، فسواءً قيل: هناد بن السري أو قيل: هناد أبو السري، كلها صحيحة، ولا تصحيف ولا تعرية.
والتأويل يأتي ويراد به التفسير، وهذا هو الذي يستعمله ابن جرير بكثرة، يقول: تأويل قول الله عز وجل كذا، ويفسر القرآن، ويأتي بمعنى التنفيذ والتطبيق، وما يئول إليه الأمر من الحقيقة، وهذا منه، (يتأول القرآن)، يعني: يطبق ما أمر به في القرآن، ويمتثل ما أمر به في القرآن، وهذا هو معنى ما جاء في الحديث الآخر عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن)، يعني: معناه أنه يتخلق بأخلاق القرآن، الأخلاق التي جاءت في القرآن، ويتأدب بالآداب التي جاءت في القرآن، ويمتثل ما جاء في القرآن، وينتهي عما نهي عنه في القرآن، وهنا (يتأول القرآن)، يعني: ينفذ ويمتثل الشيء الذي أمر به في القرآن في قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:3].
أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها الصديقة بنت الصديق، وهي الصحابية المكثرة من رواية حديث رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ورضي الله عنها وعن أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، وهي من السبعة المعروفين بكثرة الحديث، ستة رجال وامرأة واحدة، وتلك المرأة هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
أورد النسائي هذه الترجمة وهي: نوع آخر، وهي في الحقيقة ليس نوع آخر، وإنما هي نفس النوع الأول؛ لأن الحديث الذي قبله وهذا الحديث بلفظ واحد، وهي بإسناد واحد، إلا أن شيخ النسائي ومن فوقه، يختلف عن الإسناد الذي قبله، وإلا فإن بقية الإسناد واحد والمتن واحد، فليس نوعاً جديداً من أنواع الدعاء، بل هو نفس النوع الأول الذي قبله، ولهذا فالتعبير بالنوع بعده، يعني ليس بواضح، وإنما هما تحت موضوع واحد، وهما نوع واحد وليس نوعين، فذكر نوع آخر بينهما، يعني: بين حديثي عائشة، وهما بلفظ واحد ومؤداهما واحد، ليس بواضح، يعني ذكر العنوان وهو نوع آخر؛ لأنه نفس النوع الذي قبله؛ لأن اللفظ واحد، (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، فهو إما من النسائي، أو من دون النسائي، يعني ذكر هذه الترجمة التي هي: نوع آخر، وهو في الحقيقة ليس بنوع آخر.
تراجم رجال إسناد حديث عائشة في الدعاء في السجود من طريق أخرى